بمعزل عن تبكير الانتخابات النيابية في اسرائيل وما يمكن أن يجره من مزايدات توسعية بين الأحزاب الصهيونية لغرض كسب الأصوات اليهودية المتجهة يميناً، أو من تلويحات باستعداد لدى باراك لابرام اتفاق جديد، واسع أو محدود، مع الجانب الفلسطيني، وبمنأى عن الضغوط الأميركية والاقليمية التي تمارس على مركز القرار السياسي الفلسطيني لوضع حد لما يسمونه "العنف" ويقصدون به الانتفاضة الشعبية المندلعة منذ أواخر شهر أيلول سبتمبر الماضي، فإن الشعب الفلسطيني ليس أمامه من خيار في الأمد المرئي الا خيار استمرار الانتفاضة وتوسيع نطاقها الشعبي وتطوير اشكال عملها المتنوعة. فتجربة سبع سنوات بعد اتفاق أوسلو، ومجموعة من الاتفاقات و"التفاهمات" التي تلته مع حكومات حزب العمل وليكود المتعاقبة، أظهرت، ليس فقط اشكاليات وثغرات وسلبيات أوسلو الكبيرة، خصوصاً في ما يتعلق بالتوسع الاستيطاني الاسرائيلي الذي ازداد وتكثف بشكل مريع منذ عام 1993 وكل تجليات استمرار الاحتلال وكذلك في ما يتعلق بتراجع الوضع الحياتي العام للمواطن الفلسطيني خلافاً للوعود والآمال التي روجت في حينه، وانما ايضاً خطل الرهان على تنامي تيار واقعي عقلاني في صفوف الاسرائيليين، جمهوراً وطاقماً سياسياً، بمجرد ابداء "النيات الحسنة" والدخول في عملية "مصالحة تاريخية" ومفاوضات متصلة والتعابير بين الأقواس استعملت على نطاق واسع في الأشهر والسنوات الثلاث الأولى التي تلت توقيع اتفاق اوسلو. وإذا كان من التبسيط الكبير استخلاص امكان نقل تجربة انتصار المقاومة اللبنانية في جنوبلبنان المحتل في الربيع الماضي بحذافيرها الى الأرض الفلسطينية، فإن هذا الانتصار، بالاضافة الى ما ورد ذكره من احتقانات سنوات ما بعد أوسلو، يحمل استخلاصاً بارزاً، خصوصاً بعد التعامل المتلاحق مع حزبي العمل وليكود في سدة الحكم والعودة الأخيرة والمفجعة بالنسبة الى بعض المراهنين على هذا الحزب لحزب العمل بقيادة ايهود باراك. والاستخلاص، الذي ليس، بالطبع، اعادة اكتشاف للبارود، بل هو ركن من أركان علم السياسة، هو أن تغيير الواقع، وفي حالتنا تحديداً التخلص من الاحتلال، لا يتم الا من خلال تشكيل "ضغط" فعلي على الطرف المعني وصاحب المصلحة في بقائه كما هو. فالمسألة لا تتلخص في كسب الود أو في "علاقات عامة" أو في تطوير "العلاقات الانسانية المباشرة" أو التفاوض والبدء في خطوات تدرجية على افتراض امكان توليد "حسن النيات" أو خلق "قواعد أو جسور ثقة"، وكلها تعابير تم الترويج لها في أدبيات صانعي سياسة الادارات الأميركية في منطقتنا منذ عقد ونيف، ومن بين أشهرها الكراس المعنون "البناء من أجل السلام" الذي صدر في أواسط العام 1988 عن مؤسسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وهي مؤسسة أبحاث وتوصيات سياسية قريبة في آن واحد من وزارة الخارجية الأميركية ومن اللوبي الاسرائيلي ايباك، وهو كراس أشرف على وضعه في ذلك العام، الذي كان عام اوج الانتفاضة الكبرى 1987 - 1993، دنيس روس، الذي ضمّ أواخر العام ذاته الى طاقم ادارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ولعب منذ ذلك الحين، وحتى في ظل الادارة اللاحقة لويليام كلينتون، دوراً محورياً في رسم وتوجيه السياسة الأميركية تجاه قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي والعمليات التفاوضية اللاحقة وشهدت السنوات اللاحقة مجموعة متصلة من الدراسات والوثائق التوجيهية الصادرة عن هذه المؤسسة - التي كانت قد انشئت في العام 1985-، شارك في وضعها والاشراف عليها أشخاص مثل مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية الحالية، ومارتن انديك، الذي أصبح لاحقاً مديراً لقسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية ثم سفيراً للولايات المتحدة في اسرائيل. وتبدى انكشاف خطل مثل هذه المراهنات في المرحلة الأخيرة مع اصطفاف غالبية من كانوا يوصفون ب"الحمائم" في حزب العمل وراء العسكري المتشدد ايهود باراك، وضعف صوت وحضور انصار السلام الاسرائيليين في الاحتجاج على سياسات ومسلكيات باراك وجيشه تجاه الشعب الفلسطيني وانتفاضته المتجددة. وهكذا، فالمضمون الأساسي لتجدد الانتفاضة الشعبية في وجه الاحتلال هو رد الاعتبار لاشكال فاعلة من "الضغط" على اسرائيل، بعيداً عن الرهان على آليات تغيير داخلية تلقائية أو ناجمة عن الصلات والمفاوضات والتعايش والتعامل المشترك، التي أوحى بها اتفاق أوسلو والاتفاقات المشتقة منه. واشكال هذا "الضغط" تحددها جماهير الانتفاضة والقوى الفاعلة المشاركة فيها والمعطيات المادية المحيطة بالعملية الانتفاضية، محلياً واقليمياً ودولياً. ويمكن أن نقول، بثقة كاملة، ان استمرار الانتفاضة واتساع نطاقها وملاءمة فعالياتها لمتطلبات كل مرحلة هي، الآن، الطريق الوحيد لاحداث تغيير فعلي في الموقف الاسرائيلي، يفتح الآفاق لحل متوازن يقر بالحقوق الوطنية الأساسية للشعب الفلسطيني كما حددتها المؤسسات الفلسطينية الشرعية، أي حق تقرير المصير عبر اقامة الدولة المستقلة السيدة على كامل الأراضي المحتلة في العام 1967، وعاصمتها القدس التي احتلت في العام ذاته، وإقرار حق اللاجئين في العودة الى ديارهم وفقاً لقرارات الأممالمتحدة المعروفة والمتكررة في هذا الشأن. وهذا الاستمرار في النضال الشعبي الانتفاضي هو السبيل الوحيد لتنمية اتجاهات واقعية داخل المجتمع الاسرائيلي تسلم بعدم جدوى استمرار الاحتلال وبضرورة الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967 وتتحرك للجم الاتجاهات الأكثر تشدداً ذات المناحي الفاشية والعدوانية التوسعية، خصوصاً داخل الجيش وفي صفوف المستوطنين في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967. وهذا هو الطريق الذي سلكه العديد من قوى التحرر الوطني في عصرنا، من الجزائر الى فيتنام ومستعمرات البرتغال في افريقيا وجنوب افريقيا، وحتى التجربة الأخيرة في جنوبلبنان، مع ادراك كل التعقيدات والخصائص التي تميز الوضع الفلسطيني وطبيعة الاحتلال الاستيطاني الاسرائيلي. وربما كان تدني الاهتمام الشعبي الفلسطيني بالانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، مقارنة مع فترات انتخابية سابقة، يعود، أيضاً، الى تلمس عبثية الرهان على أي تغيير في مواقف الادارات الأميركية يأتي بديناميكية داخلية أميركية بحتة أو بفعل الاسترضاء والمسايرة والتقارب. وهو ما يجعل للانتفاضة الفلسطينية واستمرارها وظيفة أخرى، لا تقل أهمية عن الأولى، وهي وظيفة احداث تغيير في موقف الادارات الأميركية، ديموقراطية كانت أم جمهورية، بالتعاضد الضروري مع حركة التضامن الشعبية والرسمية العربية اولاً، وحركة التعاطف في الاطار العالمي الأوسع، من خلال ما يمكن أن تولده من ضغط بالتراكم على المصالح الأميركية في حال بقيت السياسة الأميركية في منطقتنا مسخرة لدعم السياسات والمسلكيات العدوانية الاسرائيلية. الدخول في حملة الاعداد لانتخابات الكنيست الاسرائيلية المبكرة قد يحدث مستجدات في تكتيكات ومواقف القوى الاسرائيلية، بما في ذلك موقف ايهود باراك، الموجود حالياً في وضع بالغ الضعف، لا يوفر له، بمعطياته الراهنة، أية فرصة للنجاح في الانتخابات. ولكن كل المقدمات تؤكد ان عملية التغيير الفعلي في الموقف الاسرائيلي تجاه قضايا الصراع مع الشعب الفلسطيني لن تكون عملية قصيرة المدى. اي ان انضاج شروط السلام المتوازن، القائم على احترام الطرف الآخر والاعتراف بالحد الأدنى من حقوقه وتجاوز صلف وعنجهية القوة والنظرة الاستعمارية المتعالية، هذا الانضاج يحتاج الى استمرارية طويلة نسبياً في العمل النضالي الانتفاضي الفلسطيني، مصحوباً، بالضرورة، بفعل أوسع ما زال مطلوباً من الأشقاء العرب على صعيد اتخاذ اجراءات ملموسة بحق اسرائيل وبمن يقدم الدعم لها، وبفعل اشمل وأكثر نجاعة على المستوى العالمي من نمط ذلك الذي مورس بحق نظام جنوب افريقيا العنصري، بحيث تتلمس اسرائيل النتائج السلبية عليها، على أكثر من صعيد، لاستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية كما للأراضي السورية واللبنانية الباقية تحت الاحتلال. وهذا الانضاج سيكلف، بالضرورة، شعب فلسطين المزيد من التضحيات والمصاعب. ومع كل التقدير لحركة التضامن والدعم العملية التي شهدتها بلدان عربية شقيقة بشكل خاص، إلا أن من واجبنا جميعاً، ومن واجب كل حريص في عالمنا على قيم العدالة والانسانية والحرية ان نقلل الى الحد الأدنى من حجم هذه التضحيات والمصاعب. ومن الزاوية الفلسطينية، هذا يطرح مهمات محددة، لطالما جرت مناقشتها في لجان المتابعة واللجان المختصة التي تتمثل فيها كل القوى القائمة على الساحة الفلسطينية وفي ندوات ولقاءات متعددة شهدتها الأراضي الفلسطينية في الأسابيع الماضية، وفي المقدمة دعم الوضع المعيشي لقطاعات الشعب المتضررة من الحصار والحرب الاسرائيلية، وخاصة عائلات الشهداء والجرحى المعاقين والأسرى كما والعمال العاطلين عن العمل والمزارعين المتأثرين بقطع الطرق واغلاق المنافذ التسويقية واعتداءات المستوطنين المستمرة، وكذلك معظم الصناعات الوطنية التي تعتمد على المواد الخام المستوردة وعلى امكانات التوزيع المحلية أو الخارجية، وقطاعات السياحة والخدمات وغيرها من مفاصل الحياة الاقتصادية التي تعطلت أو تراجعت بفعل الاجراءات الاسرائيلية. * كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في رام اللهفلسطين، عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، عضو المجلس الوطني الفلسطيني