من أكثر الأساطير الثابتة في الجدل المستمر بشأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي هو الادعاء بأن مصلحة إسرائيل في قيام سلام دائم وعادل في المنطقة، وأن العقبة الوحيدة في طريق الوصول إلى اتفاق سلام هي الرغبة الفلسطينية في تدمير إسرائيل. هذه المقولة يرددها باستمرار الدبلوماسيون الإسرائيليون ومؤيدو إسرائيل في الولاياتالمتحدة وفي أي مكان من العالم. بالطبع، المحللون الموضوعيون للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يدركون منذ وقت طويل أن هذه المقولة الإسرائيلية مجرد أكذوبة زائفة. فهم يدركون أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابين الذي وقع اتفاقات أوسلو للسلام مع الفلسطينيين لم يكن يؤيد أبدا قيام دولة فلسطينية قادرة على البقاء. فالرجل كان يردد باستمرار أن الكيان الفلسطيني المنتظر في المستقبل يجب أن يكون «أقل من دولة». وربما كانت غلطة الفلسطينيين أنهم أدركوا أن عرض السلام الذي قدمه رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك في كامب ديفيد عام 2000 كان أفضل مما قدمه أسلافه من قادة إسرائيل لكنه في الوقت نفسه كان أقل مما يمكن اعتباره الحل القائم على أساس وجود دولة فلسطينية كاملة الأركان إلى جوار إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك فإن الفكرة التي شاعت هي أن إسرائيل تريد السلام قبل كل شيء لكنها لا تجد الشريك الفلسطيني المستعد لمثل هذا السلام، وأن هذا يفسر فشل اتفاقات أوسلو. ولكن الأسابيع القليلة الماضية شهدت سقوط الأقنعة تماما. فإذا كنتم تريدون فهم ما يجري بالفعل في إسرائيل الآن إليكم بعض الأشياء القليلة التي تجب قراءتها. نبدأ مع قصة الغلاف لمجلة «المصلحة القومية» أو «ذا ناشيونال إنتريست» للكاتب الإسرائيلي عكيفا ألدار تحت عنوان «سياسات إسرائيل الجديدة ومصير فلسطين». والمعروف أن عكيفا ألدار هو الكاتب السياسي الأول في صحيفة هاآرتس الإسرائيلية. وفي مقاله يوضح حقيقة أن فكرة تحقيق السلام على أساس وجود دولتين فلسطينية وإسرائيلية دخلت مرحلة الغيبوبة وتعيش بأجهزة التنفس الصناعي ومن غير المحتمل عودتها للحياة مرة أخرى. يقول الكاتب الإسرائيلي: «القيادة الفلسطينية ومنذ عام 1988 اتخذت قراراً استراتيجياً لصالح السلام القائم على أساس الدولتين فأصدرت إعلان الجزائر عن المجلس الوطني الفلسطيني. والجامعة العربية من ناحيتها وافقت بالإجماع على مبادرة السلام العربية التي تعترف بإسرائيل مقابل تحقيق السلام الشامل في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه فإن العديد من المنظمات الدولية أكدت من ناحيتها اعترافها بتقسيم أراضي فلسطين بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولكن إسرائيل بمفردها ومنذ توقيع اتفاقات أوسلو للسلام قبل نحو عقدين من الزمان تسير في اتجاه معاكس تماما». ويواصل ألدار مقاله فيعرض تفاصيل التطورات الديموغرافية والسياسية التي تجعل حل الدولتين أصعب وأبعد منالا وفي الوقت نفسه تدمر الديمقراطية في إسرائيل من خلال تعميق سياسة «الفصل» ولم يستخدم الدار التعبير السياسي الأدق وهو «الفصل العنصري» على الرغم من أن هذا هو الوصف الأدق للواقع الآن. يقول ألدار إن «إسرائيل لكي تحتفظ بسيطرتها على الأرض دون أن تتخلى عن هويتها اليهودية فإنها تبنت العديد من سياسات الفصل. فأقامت نظامين قانونيين منفصلين واحدا للأراضي الإسرائيلية التقليدية وآخر للأراضي التي تحتلها. كما قسمت هؤلاء الذين يعيشون على الأراضي المحتلة على أساس عرقي. وفي الوقت الذي تحتفظ فيه بالسيطرة على الأرض فإنها تهربت من المسؤولية عمن يعيشون على تلك الأرض. كما أقامت تمييزا نظريا بين مبادئها الديمقراطية وممارساتها الحقيقية في الأراضي المحتلة. بهذه الفواصل نجحت إسرائيل في مواصلة احتلال الأراضي الفلسطينية على مدى 45 عاما وفي الوقت نفسه حافظت على هويتها اليهودية ووضعها الدولي. والحقيقة أنه لا توجد أي دولة أخرى في القرن الحادي والعشرين تستطيع عمل ذلك. «ولكن إسرائيل تستطيع لذلك لا يوجد أي حافز لديها لكي تغير هذه السياسات». الحقيقة أن السياسات الإسرائيلية تلك ناجحة لأن جماعات الضغط (اللوبي) الموالية لتل أبيب في واشنطن تجعل من الصعب على قادة الولاياتالمتحدة ممارسة أي نوع من الضغط الحقيقي على إسرائيل لتغيير سياساتها التي تتناقض في مجملها مع القيم الأمريكية الأساسية من الناحية الأخلاقية. ولكي تدرك تماماً ما يتحدث عنه عكيفا ألدار يجب العودة إلى المقال الذي نشره ميشيل فريوند المساعد السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو في صحيفة (جيروزاليم بوست) الإسرائيلية في 20 يونيو الماضي تحت عنوان «قبلة الوداع للخط الأخضر». وعلى عكس الرثاء الذي قدمه ألدار لفكرة حل الدولتين فإن مقال فريوند يعلن بفخر نجاح مشروعات الاستيطان الإسرائيلي في جعل فكرة «إسرائيل الكبرى» حقيقة واقعة. يقول المساعد السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي إن «الخط الأخضر (الحد الفاصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية عام 1967) قد مات وتم دفنه.. لم يعد لهذا الخط أي معنى سواء سياسياً أو بأي معنى آخر». ويقدم فريوند نصيحة لمعارضي سياسات الحكومة الإسرائيلية بشأن يهودا والسامرة (الضفة الغربية) فيقول «الأفضل استخدام هذا المصطلح لأن اليهود هنا (في الأراضي الفلسطينية) لكي يبقوا فيها. لم يعد الأمر مقتصرا على بعض المستوطنين المتطرفين وإنما أصبح التيار العام في إسرائيل. الأمر الثاني بعد قراءة ما سبق، هو النظر إلى التطورات التي تجري على الأرض. يتحدث نير حسون في مقال عن الصعوبات الشديدة التي يواجهها سكان القدسالشرقية التي احتلتها إسرائيل بصورة غير شرعية عام 1967 في الحصول على المياه. وبعد ذلك اسمع أو اقرأ تقرير لورديس جارسيا نافارو عن الزيادة الكبيرة في عدد المنازل الفلسطينية التي تم هدمها في القدسالشرقية خلال العام الماضي حيث تم تشريد أكثر من 1100 فلسطيني نصفهم من الأطفال. ويقول المسؤولون الإسرائيليون إن هذه المنازل تم هدمها لأنها أقيمت بدون ترخيص في حين أن وثائق الأممالمتحدة تقول إن السلطات الإسرائيلية ترفض حوالي 90% من طلبات الفلسطينيين للحصول على تراخيص بناء بينما يواصل الإسرائيليون بناء مستوطناتهم في المدينة المحتلة بدون قيود. ما يجري في القدسالمحتلة هو تطهير عرقي بالحركة البطيئة. وبدلا من إجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم ومنازلهم بالقوة كما حدث عامي 1948 و1967 فإن السلطات الإسرائيلية تجعل حياة هؤلاء الفلسطينيين لا تحتمل بمرور الوقت وبالتالي يغادرون بيوتهم بحثا عن أماكن أخرى يمكنهم الحياة فيها. وأخيرا فإنه من المهم جدا قراءة تقرير لجنة ليفي وهي لجنة شكلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو لبحث الموقف القانوني للمستوطنات. يقول التقرير إن الوجود الإسرائيلي في الضغة الغربية ليس احتلالا وبالتالي فإن اتفاقية جينيف الرابعة التي تحمي السكان في الأراضي المحتلة لا تنطبق على الفلسطينيين في الضفة الغربية. كما أن اللجنة لا ترى أي موانع قانونية لكي تقوم إسرائيل بنقل أي عدد من مواطنيها للحياة في هذه الأراضي، ولذلك توصي اللجنة الحكومة بمنح تراخيص بأثر رجعي لعدد كبير من المستوطنات التي أقيمت بدون ترخيص خلال السنوات الماضية. والحقيقة أنه لا توجد دولة واحدة في العالم بما في ذلك الولاياتالمتحدة نفسها تعترف بهذا التفسير القانوني المريب للاحتلال الإسرائيلي وكذلك لا تعترف به الأممالمتحدة ولا أي منظمة دولية خارج إسرائيل. ولا حاجة للقول إن أي شخص زار الضفة الغربية وشاهد «نمط الاحتلال» المفروض عليها سيدرك سريعا أن أعضاء هذه اللجنة تعاطوا أي مواد مخدرة قبل إعداد التقرير. فحتى أقوى المدافعين عن إسرائيل مثل جيفري جولدبرج وجد صعوبة بالغة في ابتلاع تقرير لجنة ليفي واعتبره أمرا يشبه «أليس في بلاد العجائب». كما أن عددا كبيرا من المعلقين بينهم مجلس تحرير صحيفة نيويورك تايمز والسفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل دانيال كيرتز نددوا بمزاعم تقرير اللجنة الإسرائيلية. وأعربت صحيفة نيويورك تايمز في إحدى افتتاحياتها عن أملها في أن تنقل وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الرفض الأمريكي الداخلي لهذه المزاعم عندما تزور إسرائيل. إن القناع سقط منذ وقت طويل والآن تبدد تماما. ولكن بمجرد أن ترى ما يجري هنا عليك أن تعيد التفكير مرة أخرى في هؤلاء الذين يعدون أصدقاء إسرائيل الحقيقيين وهؤلاء الذين يهددون مستقبلها. أصدقاء إسرائيل الحقيقيون ربما يكونون أو لا يكونون مرتبطين بها عاطفياً لكنهم هؤلاء الذين يدركون أن المشروعات الاستيطانية كارثة وأنه يجب بذل جهود مكثفة ومبدئية من جانب الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وأي أطراف أخرى قادرة من أجل تفادي هذه الكارثة. هؤلاء الأصدقاء الذين يدركون أن الأفعال الإسرائيلية في لبنان وغزة ودبي والضفة الغربيةوإيران وفي أماكن أخرى كثيرة لا تؤدي إلا إلى تدمير المشروعية التي كانت قد حصلت عليها في وقت من الأوقات، بما في ذلك تأييدها من جانب اليهود في مختلف دول العالم. إن إسرائيل أصبحت تواجه مستقبلاً قاتماً بعد أن أظهر مسح أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للعام الحالي أن إسرائيل مع كوريا الشمالية هما أكثر دولتين لهما صورة سلبية في العالم متقدمة حتى على إيران وباكستان. كما أن أصدقاء إسرائيل الحقيقيين موجودون بين هؤلاء الذين يدركون أن أساليب التشويه التي تستخدمها إسرائيل وأنصارها ضد من يعارضونها لم يعد لها تأثير كبير في الحياة السياسية الأمريكية، بل ربما يكلفها الدعم الذي ظلت تتمتع به في الولاياتالمتحدة لوقت طويل. في المقابل فإن أصحاب الأصوات الأعلى في الدفاع عن إسرائيل فهم الذين يعانون من قصر النظر ويركزون فقط على كيفية الإبقاء على الاحتلال وتعميقه بمرور الوقت. هذا الولاء الأعمى لإسرائيل من جانب هؤلاء أسهم في تبديد فرص حقيقية لتحقيق السلام وعزز مواقف المتطرفين على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وعلى استمرار الصراع المدمر لسنوات سنوات. والسؤال المطروح ببساطة يقول: إلى أين يمكن أن يقودنا هذا؟ المبدأ نفسه ينطبق على المصالح والسياسة الأمريكية. ففي ضوء العلاقة الخاصة التي تربط بين إسرائيل وأمريكا، فإن الموقف الأمريكي في المنطقة وفي العالم سيظل سيئا ما دامت إسرائيل مصرة على سياساتها التوسعية. هذا الموقف يجبر القادة الأمريكيين على تبني مواقف مشوهة ومنافقة فيما يتعلق بحقوق الإنسان ومنع الانتشار النووي وتعزيز الديمقراطية في العالم والاستخدام المشروع للقوة العسكرية. كما أن السياسات الإسرائيلية تجعل القادة الأمريكيين يبدون عاجزين عندما يستخدمون تعبيرات مثل «مؤسفة» أو «عقبة في طريق السلام» لوصف الممارسات الإسرائيلية دون أن يفعلوا أي شيء أكثر من إصدار البيانات. كما أن هذه الممارسات تجبر السياسيين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي بأمريكا على إعطاء قدر مبالغ فيه من الاهتمام إلى دولة صغيرة هي إسرائيل وتجاهل العديد من الدول الأخرى المهمة للمصالح الأمريكية. الأسوأ من كل ذلك أن السياسة الأمريكية تؤدي إلى تدمير القطاعات العاقلة من الشعب الإسرائيلي والشعوب العربية بما في ذلك المعتدلين الفلسطينيين الذين يريدون بإخلاص حلا سلميا للصراع وتعايشا بين الشعوب في المنطقة. وبدلا من أن تساعد أمريكا في تحقيق السلام فإنها تعزز مواقف المتطرفين على جانبي الصراع. وربما لا تكون السياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حالياً الأفشل في تاريخ أمريكا حتالآن لكنها تقترب بقوة من الحصول على هذا اللقب. **** الكاتب في سطور - ولد البروفيسور ستيفن والت في 2 يوليو 1955. - يعمل أستاذا زائرا في معهد الأمن والدفاع التابع لجامعة التكنولوجيا – سنغافورة، نائب عميد العلوم السياسية جامعة شيكاغو، عالم زائر لمعهد بروكينفز، باحث في مركز العلوم والشؤون الدولية جامعة هارفارد، أستاذ معيد في معهد كارينغي للسلام الدولي، عضو هيئة محرري السياسة العالمية، أستاذ مساعد في جامعة برينستون. - شارك مع جون ميرشايمر في تأليف ونشر بحث عن القوة التي لاتضاهى للوبي الإسرائيلي في أميركا - ودوره الرئيس في رسم السياسات الخارجية الأميركية، وخاصة في الشرق الأوسط. وتم عمل البحث لصالح جامعة هارفارد إلا أن البحث جوبه بالعديد من الانتقادات من قبل اللوبي الإسرائيلي في أميركا والمتعاطفين مع إسرائيل مما دفع جامعة هارفرد إلى سحب اسمها عن الدراسة. نشر هذا البحث في مجلة لندن بوك ريفيو بتاريخ 23 مارس 2006، وهو بعنوان اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأميركية الخارجية. * استاذ كرسي روبرت ورينيه بيلفر للعلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية (فورين بوليسي) الأمريكية