بعيداً عن الجدل الذي أثاره فتح ملف العلاقات السورية - اللبنانية والمطالبة بإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيداً للانسحاب، وبعيداً عن التداعيات التي أثارها نداء المطارنة الموارنة الأول في 20 أيلول سبتمبر الماضي، وتصريحات أطراف أخرى حول الموضوع ذاته، لا بد من التوقف عند توقيت فتح هذا الملف الذي لم يؤثر اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 أيلول في تأجيله، على رغم ما مثلته الانتفاضة من حدث هز العالم وشغل العرب جميعهم. لعل البعض في لبنان قرأ في التغييرات الداخلية التي تحدث في سورية، وأيضاً إرهاصات انتقال السلطة وارتفاع أصوات المطالبة بتسريع وتيرة الإصلاح والتحديث، وما رافقها من اتساع لهوامش الحوار ظرفاً عصيباً، أو ضعفاً سورياً، بالإمكان استثماره للمطالبة بالانسحاب السوري من لبنان. وهو أمر يتصوره البعض من المنظور الفئوي إنجازاً ومأثرة تعيد الاعتبار لتاريخ اصحاب ذاك المنظور، إلى جانب كون العمل من أجل هذا الهدف بإمكانه سد الفجوة السياسية التي خلفتها الحرب الأهلية لسنوات طويلة، وتراجع منظومة اليسار سواء في لبنان أو في العالم أجمع. من هنا بدا بيان البطاركة والتصعيد المسيحي الممسرح، إلى جانب مداخلات بعض الأطراف، تأكيداً على وجودهم السياسي في التاريخ اللبناني، يمكّنهم من تحقيق التوازن مع التأكيد الوجودي والفاعل للمقاومة اللبنانية المثبت من خلال تحرير الجنوب اللبناني. وهذا الإنجاز الذي يحسب بالمنظور اللبناني الوطني لصالح المقاومة، انما يُسجّل ضمناً لحزب الله وبالتالي للطائفة الشيعية. وقد جاءت المطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان بصيغها المتعددة تحت عنوان تصحيح العلاقات السورية - اللبنانية، متوافقة مع رغبة شرائح مختلفة في الشارع اللبناني لأسباب كثيرة تتعلق بما يدور على الأرض وما يشوب ذلك من أخطاء. كما جاءت تلك النداءات والتصريحات لتمتص الاحتقان وتوجّهه بالشكل الأسلم كما أرادت بكركي، ومحاولة لإحكام السيطرة على الباب الذي فتحته. وما تمتلك بكركي من تمثيلها لطائفة الأكثرية في لبنان من ثقل سياسي في تاريخها، قد يبرر لها محاولة خلق توازن مع ما أنجزته المقاومة وما حققته من التفاف وطني وقومي حولها، امتد إلى داخل فلسطين، والعمل على جذب بعض من الأضواء المسلطة عليها. وعلى رغم تلك المبررات الدائرة في فلك المصالح الفئوية، لا يمكن التساهل مع هذه المسألة، من منظور عربي، لما تنطوي عليه من مساواة جائرة بين الوجود الإسرائيلي المحتل والتوسعي، وبين الوجود السوري الذي فيه دفاع عن سورية أولاً، ودفاع عن لبنان خاصرة سورية ثانياً، وأيضاً لما في تلك المحاولات من تفريغ لمعاني انتصار المقاومة اللبنانية، بهدف إثبات وجود تعصبي، كان من الممكن التعامل معه على مستوى آخر: اثبات الوجود من دون الوقوع في مخاطر تهدد المصلحة الوطنية عبر تكريس النزاعات الطائفية المدمرة. وهذا في وقت تبدو الحاجة ملحة لإئتلاف عربي يجمع الطوائف الدينية والشرائح السياسية والإجتماعية، لا فتح ملفات عربية - عربية تبعثر الجبهات وتفتتها، وأيضاً توزع الأنظار بين ما يجري في القدس، وما يجري على الساحة اللبنانية التي انفرزت صفين: الأول يدعو إلى إعادة النظر في العلاقة اللبنانية - السورية ويضم بعضاً من القوى والمرجعيات السياسية والروحية، والثاني يؤيد الوضع القائم بين البلدين في إطاره الراهن. وهذا الصف الاخير تمثّله الحكومة اللبنانية وعدد من النواب والفعاليات إلى جانب المقاومة اللبنانية. والذي يبدو مدهشاً اجراء البعض عملية كشف حساب للاستحقاقات اللبنانية والسورية وما قدمت كل منهما للأخرى، في الوقت الذي تبدأ إسرائيل كل يوم بتسجيل قائمة جديدة لأبشع الجرائم بحق العرب ومقدساتهم، المسلمين منهم والمسيحيين. ان المشكلة على الساحة اللبنانية ليست في الوجود السوري، بقدر ما هي مشكلة عربية لها خصوصية لبنانية وهي النهم العربي المجاني للتخاصم. ولعل الأوضاع المتوترة ليس فقط على الحدود اللبنانية وبقاء قرى تحت الاحتلال، بل أيضاً واقع الصراع مع إسرائيل وعملية السلام المتوقفة من شأنها، بعد اندلاع الانتفاضة، أن تؤجل أي سجال حول قضية عربية - عربية، وأن تهمش أي اختلاف حولها. لأنه مهما بلغت خطورتها لا يمكن أن ترتقي الى مصاف خطورة الصراع الوجودي مع إسرائيل، التي تعرف تماماً كيف تستثمر تناقضاتها الداخلية في تبرير ممارساتها الاستيطانية.