عندما يتوغل المرء في تاريخ المدن العريقة في الاسلام، لا بد له ان تختطف ابصاره وتسحر لبه تلك المدينة العظيمة التي انشأها جوهر الصقلي في ايام الفاطميين وأسماها القاهرة المظفرة. وظلت كذلك، المدينة المحروسة الاولى بعد الاستانة، في زمن العثمانيين. ولم تلبث ان شغلت الدنيا وملأت الناس، وجعلت اوروبا كلها تستنفر لملاقاتها على ابواب البوسفور في زمن محمد علي وولده ابراهيم باشا المصري في حملاته حتى ابواب قونية. وكانت حارات القاهرة المحروسة تبلغ نحو 357 حارة وهي تتوزع من الشمال الى الجنوب. وكانت كل حارة عبارة عن وحدة سكنية محصنة لها باب خاص بها يُتخذ من الخشب القوي والسميك. وكانوا يجعلون بأكتاف الباب سلاسل معدنية متينة. وكانت دفاعاته محصنة للغاية تجاه المخاطر الداخلية او الخارجية. اما حراس المدينة او البوابون، فهم الذين يشرفون على الأمن، اذ يغلقون الابواب عقب صلاة العشاء في ما بين الحارات. بدء رمضان ومع بدء شهر الصوم كانت المدينة المحروسة تتأخر في اغلاق ابوابها الى ما بعد صلاة العشاء بصورة استثنائية بناءً لتوجيهات القضاة وقادة الحرس الليلي، من اجل تسهيل حركة الدخول والخروج منها الى ساعات متأخرة من الليل، تصل الى موعد السحور، من اجل تسهيل اتصالات الناس وتآلفهم الاجتماعي في هذا الشهر الكريم. الى ذلك كان احياء المدينة وأسواقها تشهد في شهر رمضان حركة ليلية نشيطة طوال الشهر المبارك وذلك على الصعد التجارية، والاجتماعية، والاحتفالية. فعلى صعيد الحركة التجارية، كانت اسواق القاهرة تمثل نموذجاً للنشاط التجاري، وكانت الحركة في الأسواق تستمر حتى منتصف الليل، وقد اتخذت ابهى حللها وأجمل زيناتها. فارتفعت الرايات والأعلام والأشرطة الملونة في السقوف الخشبية والحجرية. وكذلك زينت الدكك والجدران والواجهات والمنصات. اما الناس فقد كانوا يتدافعون ببهجة وحبور وايمان لشراء الحاجات او لبيعها في الأسواق. اما المحتسب ورجاله من الشرطة، فقد كانوا يتجولون بين الباعة يراقبون البيوع ويقمعون الغش بكل وسيلة. اما على صعيد حركة النشاط الاجتماعي، كان الناس يقومون في اول ايام رمضان، بتبادل الزيارات الليلية للتهنئة بحلول هذا الشهر الكريم بينهم، ولتعميق اواصر المحبة بين الجماعات والأفراد. فكانت العائلة تخرج معاً لزيارة الأهل والأصدقاء والأقرباء والسادة الشيوخ الأجلاء، وقضاء السهرات الطويلة حتى مواعيد السحور. وكان الناس يقضون الليل في فرح ومرح، وتقوى وعبادة. فمن المآدب العامرة: سهرات "القرمشة" و"الطقطقة" ومضغ انواع الأطايب. الى جانب تناول الحلويات الرمضانية المعروفة، والمشروبات التي اعتاد الناس تناولها كثيراً في شهر رمضان. اما اللقاء الساهر، فكان يصدح بأصوات المغنين والمغنيات، واللعب المسلي، إضافة الى سماع القصص الديني والتاريخي. ناهيك عن عقد حلقات الوعظ والارشاد وتلاوة القرآن الكريم والمشاركة في صلاة التراويح. اما على الصعيد الاحتفالي، فكانت حارات القاهرة وأسواقها مضرب مثل بالابتهاج بهذه المناسبة في أيام المماليك والعثمانيين على السواء، اذ كانت المساجد والجوامع والربض والتكايا والزوايا والأسواق والدكك العامة تشتعل بالزينات، وتستقبل مواكب الاحتفالات المختلفة في موسم الخير. وكانت الجوقات بمنشديها ومكبريها ودعاتها، تنطلق من امام المسجد الجامع في الحارة، وتخترق الاسواق، فترتاح في الباحات والساحات، فتكون هناك فرصة للعب بالسيوف والطبنجات والشيش. ويظهر المهرج والمغني، الى جانب الداعية والمكبر وتكون ابتهالات واحتفالات ومواسم رقص وغناء. ثم تتقدم المواكب الى شوارع اخرى وساحات اخرى، فيستقبلها الحراس بالأبواق والاهازيج ويلتقي اهل الحارات مع بعضهم ويتبادلون التهانئ بقدوم الشهر. قلب القاهرة في رمضان وكانت أحياء وسط القاهرة، التي تعود الى زمن الفاطميين، تقع بطول "قصبة رضوان" وتخترق المدينة التاريخية من الشمال الى الجنوب، وهي تتحول في ايام رمضان الكريم الى سوق تجارية كبرى، حيث تتجمع فيها غالبية صناعات الترف، وأهم وأكبر الانشطة التجارية، وفي مقدمها تجارة الالبسة والاقمشة وأدوات الزينة والعطور. ويقول المؤرخون ان قلب القاهرة في ليالي رمضان، يتحول الى معرض كبير لتجارة المنسوجات، خصوصاً في المنطقة الواقعة بين الحمزاوي والجامع الأزهر وخان الخليلي والصاغة. اما الوكالات والقيساريات والخانات، التي كانت معروفة في القاهرة عصر ذاك، فقد كانت تلبس في رمضان اجمل حللها فترتفع الزينات في الباحات وعلى الجدران، وفوق الاسوار. فتعظم الموائد الرمضانية ويكثر النزلاء، فتزدهر السهرات ويظل الناس في إقبال عظيم عليها، حتى منتصف الليل ومواعيد السحور. الاحتفالات الدينية كانت الاحتفالات الدينية في القاهرة تبلغ اوج ضخامتها. اذ تظهر فرق الانشاد ويكثر نشاطها، وتتخذ من المساجد والجوامع والخانقاوات والتكايا والزوايا، مراكز جماعية للاحتفال والابتهال، والتعبير وإقامة الصلوات، وتقديم الدروس الدينية. إضافة الى دروس الاقراء والتفسير ورواية التاريخ الاسلامي وختم القرآن الكريم. وكان الناس يكثرون من زيارة تلك الاماكن الدينية للالتقاء بالعلماء والمشايخ وأهل الطرق الصوفية. وكانت النساء تزور الأماكن المخصصة للنساء المنقطعات والمهجورات او المطلقات او العجائز او الارامل المتعبدات. وهؤلاء النسوة كثيراً ما كنَّ يحملن معهن الى هذه الدور، المعونات المختلفة من الاطعمة والاشربة والألبسة وحتى الاموال، وتقديمها على شكل مبرة خيرية الى هؤلاء المنقطعات الى الله تعالى. قناديل رمضان لا شك في ان عدداً من العواصم الاسلامية، عرفت بعض اشكال الاضاءة الليلية لأوقات محددة في اماكن معينة في ليالي رمضان، غير ان الامر مختلف بالنسبة للقاهرة المحروسة في القرن الثامن عشر، خصوصاً حين يحل رمضان في اسواقها وشوارعها ومنازلها وساحاتها على وجه العموم. وعرفت شوارع القاهرة في ليالي رمضان خصوصاً فئة "القندلجية"، تضم اكثر من حوالى مئتي نفر، كما يذكر المؤرخون، مهمتهم ان يقوموا بتزيين الدكاكين والمساجد والجوامع والأسواق العامة وبعض الساحات الرئىسية بالقناديل والمشاعل، حتى تتلألأ ليالي القاهرة الرمضانية بالأنوار. وكانت تعظم هذه الانواع من الانارة الليلية في مواسم الاحتفالات الدينية والعسكرية ذات الطابع الجهادي. ويذكر المؤرخون، ان الوالي او الآغا، كان يأمر بفتح الأسواق والمقاهي، خصوصاً في ليالي رمضان، وبتعليق واضاءة الفوانيس والمشاعل، امام البيوت والدكاكين، لطمأنة الناس وتفادي المفاجآت، وتسهيلاً لحركتهم، حتى يتمكنوا من متابعة نشاطاتهم الدينية والدنيوية وقضاء سائر انواع حوائجهم ليلاً في الشهر الكريم. ويقول المؤرخون، ان اضاءة الفوانيس بالليل في الشوارع والأسواق، كان يتم بواقع فانوس لكل بيت وحانوت. وكانت هناك فرقة من "القندلجية" مختصة بحمل المشاعل في الأماكن التي تحتاج الى انارة وحراسة في آن. وكان "المشعلجي" هو الذي يختص بذلك، لأنه يستعمل المشعل للانارة، وهو عبارة عن عامود خشبي مزود بقرص اسطواني من الحديد، توضع فيه قطعة من الخشب المشتعل، او سائر السوائل الملتهبة التي تقدم الشعلة الفضلى في الانارة. فرقة المشعلجية وكانت مساجد القاهرة وجوامعها في القرن الثامن عشر، هي من اعظم المساجد والجوامع في العالم الاسلامي آنذاك. وعقب صلاة المغرب، كانت فرقة "المشعلجية" تعمل على إضاءة ورفع المشاعل صفوفاً ودوائر، خصوصاً اثناء الاحتفالات الرمضانية، التي كانت تبدأ بعد صلاة العشاء. وكانت هناك ألبسة خاصة بحملة المشاعل، وهي تتألف عادة من السترة المقصّبة والسروال المطرز والطربوش الأحمر. وكثيراً ما كان يظهر هؤلاء، وهم يرفعون المشاعل ويديرونها بحركة، فيها جمال وروعة وبهاء، تتخطف لها القلوب والأبصار، وتجعل النفوس في غاية الرضى والخشوع والايمان. وتبدأ منارات هذه المساجد والجوامع ترسل اضواءها المتلألئة في سماء القاهرة المحروسة طيلة الشهر المبارك. وهي تنير ايضاً جوانب العمائر الدينية جميعاً، وتسلّط الاضواء على قبابها العظيمة التي كانت تتخذ عادة من النحاس والذهب، فتزداد لمعاناً، وتعظم زينتها وتتلألأ بهاءً وجمالاً، فتبدو من بعيد، وهي تسحر القلوب وتملأ النفوس بالبهجة والحبور العظيمين. وقفية الماء ومن تقاليد رمضان العريقة في المحروسة، وقف ماء الاسبلة والأحواض على المحتاجين في شهر الخير، خصوصاً عندما كان يعزّ وجودها في ايام فيضان النيل مثلاً، وكان السبيل يتألف عادة من ثلاث طبقات: الصهريج وهو تحت الارض. والمزمّلة وهي على مستوى الارض، حيث يتم منها توزيع الماء بكيزان من النحاس مربوطة بسلاسل او حبال. وللمزملة عادة شباك من النحاس. اما الكتّاب، فهو فوق المزملة في الطبقة الثالثة، حيث يعد لتعليم الاطفال وختم القرآن في رمضان. وكان المنشئون، يعتنون ببنائها وزينتها وزخرفتها بالبرونز والأعمدة الرخامية والزجاج الملون والكتابات المحفورة. وتقوم بقربها احواض من الحجر، تقام في فجوة معقودة، مزينة بأعمدة وقباب مزخرفة للغاية. وكانت تخصص لشرب المواشي على اختلافها. وهذه الاسبلة التي بلغت زهاء 245 سبيلاً في القاهرة، كانت لها اوقاف، تجعلها دائماً صالحة للاستعمال. السقّاؤون وهذه الاسبلة، كانت تعتمد بصورة دائمة على مياه النيل، الذي كان يجري على بعد كيلومتر من الحد الغربي للمدينة. ولهذا كان الناس يتزودون بالمياه الصالحة للاستهلاك وللاستعمالات المنزلية، بواسطة الغدوات والروحات المستمرة لحاملي المياه الذين يعرفون بالسقائىن طوال النهار. وهؤلاء السقائين، كانوا يتلقون بدل اتعابهم من العملاء الذين يوصلون الماء الى الناس. والى هذه المهمة، كانت تضاف اليهم مهمة اخرى تتعلق بجلب الماء الى الاسبلة المتصلة بالمساجد والجوامع. وكان الناس يأخذون منها الماء بصورة مجانية طوال الشهر، وكانت دائرة الاوقاف هي التي تغطي تكاليف نقل الماء اليها. وطائفة السقائين في المحروسة، كانت تنقسم الى ثماني طوائف. اربع منها لنقل الماء من نهر النيل على ظهور الحمير، وتتدرج بالقرب من المداخل القريبة للمدينة. ويشير المؤرخون الى هذه الطوائف، حيث توجد طائفة حاملي المياه على ظهور الحمير الى حي باب البحر، ثم طائفة لباب اللوق، ثم طائفة لحارة السقائين والرابعة في قناطر السباع. وعند حيّ باب اللوق الذي كان يحاذي عن بعد، اتجاه النيل، كانت توجد طائفة حاملي المياه على ظهور الجمال. وينطلق من هذه المراكز السقاء والقطاعي حاملين القرب سيراً على الاقدام، يوزعان المياه في احياء القاهرة جميعاً. وكان المحتسب يهتم بمراقبة طوائف السقائين والتأكد من نظافة المياه، خصوصاً في شهر رمضان. كما كان يطلب منهم المساعدة في إطفاء الحرائق واستعارة الدواب لأعمال نقل التموين في رمضان. عجقة الأسواق حقيقة ان رمضان كان يعتبر في القاهرة شهر الخير. اذ بحلوله كانت مظاهر الحركة والنشاط تأخذ في الازدياد بصورة تدريجية، ابتداء من اول الشهر. وفي اليوم الخامس عشر منه تبدأ عجقة الاسواق تتسارع بصورة لافتة داخل الاحياء، وخصوصاً بين بولاق ومصر القديمة والضواحي. ويصف احد الرحالة ارتفاع الاسعار مع قرب حلول رمضان بسبب الازدحام على الطلب. بعد ان كانت زهيدة قبل ذلك. غير ان السلطات، كانت تسهر على المراقبة وتمنع الزيادات التي يجدونها كثيرة الارتفاع. تماماً كما كانت تسهر على النظافة العامة وحفظ الأمن والنظام العام، فلا تتساهل مع المشاغبين او الذين يعبثون بالحياة العامة، او اولئك الذين يسيئون الى الآداب وقواعد الحياة الاسلامية العفيفة. أمن المدينة إن كثرة الوافدين على وسط مدينة القاهرة ليلاً ونهاراً طوال الشهر من اهلها او من اهل المدن الاخرى والارياف المجاورة، كانت تتسبب بازدحام هائل، كثيراً ما يؤدي الى اعمال مخلة بالأمن او بالآداب العامة. لذلك، كانت اوجاق الانكشارية تتكلف بمهمة حراسة المدينة والقلعة ونحن نرى كيف تعمد هذه الفرقة العسكرية على زيادة نفوذها وسلطتها خصوصاً في المواسم الرمضانية والايام الاحتفالية مثل الجمع والأعياد، نظراً لما يطرأ على المدينة من ازدياد في حركة الناس، وازدياد نشاطاتهم وتجاراتهم وزياراتهم التي كانت تتأخر الى وقت السحور. وكانت حماية المدينة تتطلب تعاوناً مع الشرطة، خصوصاً في الأسواق العامة والأماكن التي تصبح عرضة لغارات اللصوص وسائر الأعمال المخلة بالأمن العام للمدينة. اذ كان اهل الاسواق والحارات وما بينهم من نقباء وعرفاء لشتى المهن، يتعاونون في رمضان مع رجال الشرطة وما لها من مخبرين وعيون وعسس ومحتسبين وقضاة. وهذا ما كان يساعد المسؤولين على الأمن من التدخل في شؤون الحياة العامة وما يتصل بها من مرافق حيوية، بغية الحفاظ على أمن المدينة المحروسة. ويذكر المؤرخون والرحالة من العرب والمسلمين والأجانب، ان ايقاع النظام العام في القاهرة وخصوصاً في رمضان، كان عظيماً للغاية، اذ كانت تتخذ الاحتياطات المضاعفة في مثل هذه المناسبة الكريمة، وذلك من اجل الحؤول دون وقوع حوادث مخلة بالأمن اثناء الليل، من طريق اللصوص او غيرهم. ولهذا نجد الساهرين على الحياة العامة يتشددون في اعمال المراقبة والتفتيش، خصوصاً عند بوابات الحارات. كما تكثر جولات الوالي في الاسواق العامة والساحات، وكثيراً كانوا يبالغون في اتخاذ التدابير الاحترازية. * استاذ في الجامعة اللبنانية.