"ياخي تحس بروحانية الصيام في الخارج".. قد تصبح هذه العبارة الجذابة كافية لتبرير صوم أحدهم خارج أرض الوطن ليجرّب ثم يجيب عن السؤال، خاصةً في البلاد الإسلامية التي يرفع فيها الآذان ويصوم الناس رمضان. الروحانية ليس بالضرورة أن تكون انعكاساً لعاداتك وثقافتك وطقوسك، ولكنها امتداد تعكس أيضاً مدى علاقتك مع الآخر، والانفتاح عليه، ومعرفة ثقافته، وتحديداً حين تتجلى الروحانية في البلاد الإسلامية داخل محيط الأزقة التي تتصاعد من فوقها أدخنة المطابخ، ويفوح منها رائحة الطعام الرمضاني، أو من منظر الشوارع العامة التي لا يأكل فيها أحد في النهار، أو في صور الفوانيس المعلقة بظرافة على أبواب الدكاكين. قد يشعر البعض لدينا بالروحانية في رمضان من صوت قراءة القرآن في المساجد، أو من تجمع الأهل والأحباب حول مائدة عامرة، ولكن تبقى لدى آخرين تجربة الصوم في الخارج هي روحانية متعددة الثقافات، فتجربة الإفطار وسط حديقة بالقرب من جامع "السلطان أحمد" في اسطنبول، أو مطعم على مضيق "البسفور"، أو على ضفاف نهر النيل، أو تحت أمطار الريف الماليزي أو ضباب "جنتنغ"؛ مبرراً لكشف تفاصيل عادات الشعوب الإسلامية في رمضان، وذكريات لا تنسى، كما أنها أيضاً فرصة للهرب من حرارة الطقس، أو استثمار أيام الإجازة في تغيير الأجواء، والجمع بين السياحة والصوم، ثم عوداً على بدء يصبح الأمر طلباً للروحانية والجو الرمضاني في الخارج الذي تمثّله مشهد الفوانيس المضاءة في المطاعم والمقاهي، والمائدة الملونة الشهية، وجلابيات النساء المبتسمات. تخيّل الإفطار عند جامع «السلطان أحمد» في اسطنبول أو مضيق «البسفور» أو على ضفاف «النيل» أو تحت أمطار الريف الماليزي وحيث تهوي أفئدة الكثيرين لأطهر بقاع الأرض مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة وتجربة الإفطار مع آلاف المسلمين المصلين في مشاعر إنسانية وافرة، يتوجه آخرون لبلاد إسلامية مجاورة تضفي لأيامهم الرمضانية تجربة فريدة، من خلال مشاركة المسلمين هناك أجواءهم الاحتفالية وطقوسهم الخاصة في صناعة الجو الرمضاني المتناغم، بصرف النظر عما إذا كانت فكرة السفر في رمضان تجربة صائبة أم لا، إنما جعلنا الارتفاع الملحوظ في نسبة صيام العائلات السعودية في الخارج –ضمن حدود المعقول حتى الآن– نتسائل: هل سيشكّل ظاهرة إذا استمر لسنوات؟، وهل الأجواء الباردة المريحة والأسعار المنافسة والموائمة هي مطلب الصائمين حين يبحثون عن الروحانية التي لا يستشعرونها إلاّ من خلال سياحة الصيام الخارجي؟. رمضان مصري وكشف "عبدالله الحجيلي" أنّه عاش تجربة استمتع فيها بأشهى وألذ إفطار في رمضان، حيث قضى رمضان في أجواء القاهرة المفرحة، مشيراً إلى أنّ مصر هي الوجهة المخطط لها منذ سنوات لقضاء شهر رمضان، حيث الصلوات والسكينة في مساجدها القديمة، والأجواء الساحرة في الشوارع الضيقة التي تنيرها الفوانيس الملونة، والمطاعم الشعبية التي تضطرك للتدافع بين الزبائن لتحظى بالأكلات الطيبة، حيث الازدحام في الحارات والأسواق تعبق منه الأجواء المصرية التقليدية. وأضاف أنّه ليس هناك فرق أو اختلاف بيّن عن الصوم في المملكة، فالمرء لا يشعر أنّه خارج الوطن؛ إذ إنّ مصر هي "البيت الثاني" الذي يتشابه أهله في عاداتهم وطقوسهم الرمضانية كثيراً مع الأسر السعودية، لافتاً إلى أنّ البساطة المعيشية والتقاليد الدينية العميقة التي يتمتع بها أهل مصر هي من شجعته للصوم فيها منذ سنوات، بالإضافة إلى الأنشطة والبرامج المقدمة في الأماكن العامة، والتجمعات الحميمية، والكلام الطيب في المقاهي المفتوحة. بريق اسطنبول ولفت "علي الحربي" إلى البريق الذي تتمتع به اسطنبول في شهر رمضان، فهذه المدينة زاخرة بالأنوار والفوانيس المضاءة في كل مكان، حتى أنك لا تكاد تجد مكاناً فاتته الإنارات، والشموع، واللافتات المضيئة في الشوارع، والدكاكين، والأكشاك الكريمة التي تمد لك مختلف الأصناف التركية اللذيذة، والأجواء الروحانية حيث المساجد بعظمتها، وقداستها، وزخرفها، ترفع طاقتك الروحية على نحوٍ يربطك بالعالم الإسلامي، وتاريخه المجيد، ومثال ذلك جامع السلطان أحمد الذي يعج بالمصلين في رمضان، والمتاحف الإسلامية العتيقة، والأسواق التجارية، والطبول التي تدق في أرجاء المكان. وأضاف أنّ أسوأ ما يمكن تفويته في هذا الشهر الكريم ليس الصوم في بيتك -كما يزعم البعض-، إنما إهدار طاقتك ومشاعرك في الكلام عن الناس، والألفاظ الشاتمة التي تطلقها هنا وهناك بحجة أنك صائم، وفي تضييع ساعات ثمينة من دون دعاء وذكر الله وقراءة قرآن، فالتأمل والتمعن في الممارسات الدينية والدعاء والتسبيح تجعلك في حالة مزاجية جيدة، فكيف لو كنت كذلك في بلد يحتضن عدداً كبيراً من المساجد والجوامع والمراكز الثقافية والإسلامية؟. ماليزيا الساحرة ووصف "سليمان ناصر" أكثر الأماكن المحببة والمريحة بالنسبة إليه للصوم في "كوالالمبور" بحداثتها، ومساجدها الكبيرة، ومحالها التجارية، ومستوياتها الجيدة في خدمة الصائمين، وغيرها من الميزات التي جعلته يختار ماليزيا وجهة سياحية رمضانية للسنة الثانية، إلى جانب مدينة "جنتنغ" المرتفعة التي تتركك في صراع مع السحاب حين تعلوه مرة ويعلوك مرات والمطر حائر بينكما، مؤكّداً على أنّها بلد تهتم كثيراً بالسياح في رمضان، فالخدمات والبرامج والبوفيهات المفتوحة طيلة الشهر، إلى جانب الأسعار الزهيدة التي تتميز بها ماليزيا؛ مما جعلها بوصلة السياح الذين يقصدون المراكز التجارية الكبيرة لشراء الهدايا ومستلزمات العيد لعائلاتهم وأصدقائهم، مشدداً أنّه ينوي تكرار التجربة في السنوات القادمة برفقة عائلته، إذ إنّه لا يخشى أي رفض نفسي من قبلهم، فالأسلوب الديني الذي تقدمه الجهات المتنوعة والعديدة والروح الأخوية العميقة تستشعرها في أي بلد إسلامي، فهم يتشابهون في العادات والعبادات، والاختلافات لا تكون إلاّ في الثقافات المحلية والولائم التقليدية، التي تدفعك لاكتشافها بداعي السياحة والصوم والتعرف على ثقافات جديدة. تأجيل القرار ورأى "سعود الخليل" –أخصائي اجتماعي– أنّ بعض الأسر تعتقد أنّ السياحة الخارجية باتت من ضروريات العصر، وبها تكتمل الرفاهية لديهم، حتى وإن لم تكن الأسرة وعائلها مقتدرين على دفع التكاليف الباهظة لهذه الرحلات، وبعضهم يلجأ لأخذ قروض لمسايرة الآخرين؛ مما يكلف الأسرة مبالغ كبيرة لأجل سياحة بضعة أيام، وهذا للأسف أمر مشاهد في كثير من الأسر. وقال إنّ الأمر المستجد الآن هو أنّ بعض الأسر أجلت رحلاتها الصيفية في هذا العام حتى دخول شهر رمضان؛ بسبب التخفيضات التي تطرحها مكاتب السفر والسياحة على تذاكر الطيران والسكن في تلك الدول؛ نظراً لقلة السياح في هذا الشهر، الأمر الذي بات مغرياً لدى الكثير من الموطنين فبدأنا نشاهد فعلياً سياحة صيفية في شهر رمضان. وأضاف -من وجهة نظره- أنّ هذه السياحة وإن كانت لا تختلف كثيراً عن بقية الشهور إلاّ أنّ روحانية هذا الشهر تتطلب أن نقف عدة وقفات، لعل أهمها "الجانب الديني" فعِظم هذا الشهر يتطلب منا الابتعاد عن السياحة والسفر، واستغلال أيامه بالعبادة وقراءة القرآن، والبعد عن الملهيات، كما أنّ لبلادنا خاصية في هذا الشهر بمنع غير المسلمين من المجاهرة بالأكل والشرب في نهار رمضان احتراماً لهذه الشعيرة، وكذلك فرصة زيارة المشاعر المقدسة في مكةوالمدينة. وأشار إلى أنّه من الجانب الاجتماعي سيفقد من سافر في هذا الشهر صلة الرحم، وزيارة الأقارب في هذا الشهر الكريم، والتي لها أجر عظيم، كما أنّ ثقافة تلك المجتمعات وعاداتهم المغايرة لعاداتنا قد يكون لها أثر سلبي اجتماعياً وثقافياً على أبناء هذه الأسر، خصوصاً من كانوا في سن المراهقة، إلى جانب التكلفة المادية التي ستتحملها الأسرة لهذه الرحلات بالرغم من مزاعم العروض والمغريات التي تروج لها، كل هذه الأمور وغيرها تقودنا للتوقف أو على الأقل تأجيل فكرة السياحة في هذا الشهر؛ احتراماً لمكانته في ديننا الإسلامي. سياحة دينية وأوضح "بندر عطالله العنزي" –مدير تسويق في أحد المكاتب السياحية– أنّه على الرغم من أنّ هناك الكثير من الأمور التي يتلاقى فيها المسلمون في كل البلدان الإسلامية، إلاّ أن لكلٍ بلد طريقته الخاصة بالاحتفال بالشهر الفضيل؛ إذ ثمة أسباب دفعت بعض العائلات السعودية للسفر في رمضان، قد تكون إحداها هي الفعاليات والعروض الترويجية الخارجية التي تجذب هذه العوائل للاستمتاع بأجواء روحانية في جو أسري، مبيّناً أنّ ذلك قد يرجع للتوقيت المميز مع فترة الإجازة، إذ إنّ شهر رمضان جاء في منتصف الإجازة ويتزامن أيضاً مع ارتفاع درجات الحرارة، هذا بالإضافة إلى إمكانية توفر حجوزات طيران مقارنة بإجازة عيد الفطر المبارك، حتى إنّ وزارات السياحة في بعض الدول الإسلامية توقعت زيادة حجم السياحة العربية القادمة إليها خلال رمضان هذا العام -نتيجة لتدشين المهرجانات الرمضانية- بنسبة (10%) عن الأعوام السابقة، إذ تتنوع الفعاليات والأنشطة المقدمة في رمضان في بعض الدول الإسلامية لغرض جذب المسلمين لأداء الصيام فيها. وأضاف أنّه في "تركيا" -على سبيل المثال- تنتشر اللافتات المطعمة بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، بالإضافة إلى عبارات الترحيب والزينة في الشوارع والأسواق، كما اعتادت البيوت التركية على نثر روائح المسك، والعنبر، وماء الورد، على مداخل الأبواب والحدائق المحيطة بالمنازل ابتهاجا بالشهر الكريم، إلى جانب الأجواء الروحانية الخاصة في اسطنبول، حيث تنظم الاحتفاليات الكبيرة في الجوامع المشهورة، كما يُقرأ القرآن خلال هذا الشهر يومياً في قصر "طوب قابي"، وتستمر القراءة في هذا القصر دون انقطاع ليلاً ونهاراً، وتتلألأ أنوار المساجد بكافة أنحاء تركيا، والتي يصل عددها الى (77.000) مسجد تقريباً، وتكثر الدروس الدينية، فترى المساجد الشهيرة في هذا الشهر عامرة بالمصلين والوعاظ والمستمعين من النساء والرجال. وأشار إلى أنّه في ماليزيا تشمل الفعاليات إحياء ليالٍ رمضانية للعبادة والتلاوات القرآنية في مساجد ذات صفة خاصة، كالتي توجد على ضفاف البحيرات والقريبة من الشواطئ، ويتم التنسيق في هذا البرنامج مع المراكز التجارية، والشركات، والفنادق، وشركات السياحة، وشركات تأجير السيارات السياحية الكبرى؛ لتوفير أعلى درجات الخدمة للسياح، فيما تطغى مظاهر الشهر الفضيل في دبي على الجو العام في المدينة، من خلال الزينة الرمضانية التي تتوزع على عدد من المواقع الرئيسة الهامة، مثل الجسور والشوارع والأنفاق وغيرها، لتكون في استقبال الجميع من زوار ومقيمين يقصدون إمارة دبي للاستمتاع بأجواء رمضانية خاصة في دبي، كما تتخذ التصاميم العصرية الجاذبة والمستخدمة في التزيين أشكالاً فنية جديدة ومختلفة تعكس أجواء الشهر الكريم، إلى جانب النشاطات والدورات الرياضية الرمضانية، بحيث يستطيع الجمهور الاستمتاع بمتابعة هذه النشاطات ومن ثم تناول وجبات الإفطار والسحور في المجالس الرمضانية المنتشرة في مراكز التسوق. وأضاف أنّ تجربة الصيام في الخارج جميلة لاكتساب ثقافات وعادات الشعوب في صوم رمضان، إنما ذلك لا يعني أن يكون عادة أو ترفاً، أو كما يقول البعض زعماً "تعودت على الصيام في تونس" أو "لا يمكن أن يمر رمضان دون أن أصومه في القاهرة"؛ إذ ليس مقبولاً إنكار الجو الحميمي الذي نستشعره في جمعة الأهل وفي وجوه الأصدقاء والأحباب، وهذا ما يجب لفت المواطنين إليه، إلى جانب خوض تجربة السياحة الداخلية عبر منظمي الرحلات السياحية، خصوصاً أنّ في هذا العام ينظم عدد من المهرجانات والفعاليات الرمضانية مثل مهرجان الخزامى الرمضاني في الرياض، الذي يهدف إلى ترويج مدينة الرياض كمنصة ثقافية للمواهب الوطنية، كذلك مهرجان ليالي الشباب بالأحساء الذي يلاقي إقبالا متزايدا بالأخص نحو الألعاب الشعبية والبرامج الشبابية، وغيرها من الفعاليات المقامة في مدن المملكة. فطور لا يُنسى على مضيق البسفور في اسطنبول فوانيس رمضان تزيّن مقهى الفيشاوي في الحسين وسط القاهرة جنتنغ الماليزية وجهة الطبيعة والمطر والسحاب والأجواء الباردة