شكلت أطروحة ادوارد سعيد حول "الاستشراق" حقلاً خاصاً وجديداً في نقد الخطاب الاستشراقي، لكنها ولّدت أيضاً عملية دفاعية عن هذا الخطاب. ولعل برنارد لويس أشهر المستشرقين في دفاعاته عن الاستشراق الكلاسيكي وأهدافه. على أن الاستشراق في نقده أو الدفاع عنه ظلّ محكوماً بالمواقع الفردية التي عبّر عنها كتّاب ومفكرون كل بمفرده، ولم يصادف أن عمدت هيئة استشراقية الى وضع وجهة نظر خاصة بها كمؤسسة تجاه الاشكالية المطروحة. فغالباً ما تقف هذه المؤسسات بعيداً عن الأضواء الكاشفة للمعركة الدائرة حول دورها هي بالذات ومراميها. وهو أمر بمقدار ما يجنبها بذل جهود إضافية لم تكن من تقاليدها سابقاً، فإنه يزيد من حجم الالتباس المحيط بها مما يعزز الشكوك في "رسالتها" المزعومة! من هنا تبدو محاولة دومينيك ماليه خصوصاً في تطوعه للدفاع عن الاستشراق في محاضرة ألقاها مؤخراً في مكتبة الأسد في سورية، وهو مدير لمؤسسة استشراقية احتفلت بمرور العقد السابع من عمرها منذ سنوات. وعلى ذلك لا يؤسس ماليه دفاعه على "ايديولوجيا الاستشراق" بمقدار ما يحاول تقديم "كشف حساب" من خلال مسيرة وانتاج المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، والذي يشغل ماليه مسؤولية ادارته منذ سنوات. حاول ماليه التأريخ لأطروحة النقد التي تعتبر الاستشراق الحقل الذي وجد فيه المشروع الأوروبي الاستعماري مبرراته. معتبراً أن هذا النقد بدأ في رد جمال الدين الألغاني على المحاضرة التي ألقاها أرنست رينان يوم 29 آذار مارس 1883 في جامعة السوربون بعنوان "الاسلام والعلم" ونشر نصها في صحيفة Les Dژbats التي نشرت أيضاً رد الأفغاني. وتشكل محاضرة رينان هذه مثالاً ساطعاً على المركزية الإعراقية التي يرى ماليه انها ارتكبت خطأين رئيسين، أولهما في "طرح اسلام قائم بذاته، كأنه بؤرة وهمية لكل أنواع الحتميات" وثانيهما يتمثل في "قرن هذه الجوهرانية الدينية بعداء شديدة للدين الاسلامي ولمعتنقيه، وهو عداء خدم ايديولوجية نضالية سخرت لتبرير الامبريالية الغازية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر". على أن رد جمال الدين الأفغاني نفسه جاء على نحو لم يرض لاحقاً أعداء الاستشراق، ليس فقط بسبب الالتباس الذي يشي وكأن الأفغاني يتبنى المركزية الاعراقية الرينانية، بل ولاستخدامه مصطلحات مثل "المجتمع المحمدي"، و"التمدن"، ولعل ذلك يقول دومينيك ماليه ما جعل محمد عمارة - في ترجمته العربية لرد الأفغاني على رينان - يُسقط هذا المقطع: "احتاج الأوروبيون الى وقت طويل كي يتحرروا من وصاية الدين... وإذا تذكرنا أن الديانة المسيحية قد سبقت بقرون عدة الديانة الاسلامية، فلا يمكنني سوى أن آمل بأن المجتمع المحمدي سيصل في يوم من الأيام الى تحطيم قيوده والسير بحزم على طريق التمدن، على غرار المجتمع الغربي، والذي لم تشكل الديانة المسيحية، على رغم صرامتها وعدم تسامحها، عائقاً في وجهه. وأنا أدافع هنا، أمام السيد رينان، ليس عن الاسلام، بل عن قضية مئات الملايين من البشر الذين سيحكم عليهم في حال اختفاء هذا الأمل بالعيش في البربرية والجهل". ويستطرد ماليه فيعزو ازدهار الخطاب النقدي للاستشراق في ستينات القرن العشرين الى حاجة الايديولوجيات القومية - التي كانت آنذاك في حال فوران - الى هذا الخطاب. فتركز هجوم مثقفيها على جوهر الاستشراق "فوقعوا في الخطأ نفسه الذي انتقدوا المستشرقين عليه، وبما أنه علم في خدمة الامبريالية فقد اعتبروا ان نقده سيصب في خدمة الحركات القومية". وبينما يطلق حسن حنفي على هذه الانتقادات اسم الاستغراب كحقل مواجه لحقل الاستشراق، فإن دومينيك ماليه يعتبر أن الاستغراب هذا لن يكون جواباً على الاستشراق، ولن يكون إلا استشراقاً معكوساً. أما البيان الثاني الذي وضعه ماليه في كشف الحساب هذا فقد جاء مستنداً الى تساؤل يتصل بدور "المعهد الفرنسي للدراسات العربية" في دمشق "فتأسيس هذا المعهد يعود الى النتائج المباشرة التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى وفرض الهيمنة الفرنسية على سورية ولبنان. فكيف نتجنب في هذه الحال اقامة رابط بين تأسيسه وبين تعزيز سلطة الانتداب على سورية؟ كيف نتجنب أن نجد في التلازم الزمني بين الحدثين تعبيراً محسوساً عن التوافق بين الاستعمار والاستشراق الذي جرى التأكيد عليه مراراً منذ مطلع الستينات؟". تأسس المعهد بقرار اتخذه الجنرال غورو قائد القوات الفرنسية في الشرق، فظهر تحت اسم معهد الفنون والآثار الاسلامية عام 1922، غير أن ادارته الفاشلة من جهة والتغيرات التي طرأت على السياسة الفرنسية التي أصبحت أكثر ميلاً للتصالح مع السوريين من جهة أخرى، بعد ثورة 1925 أعادت تأسيسه في عام 1930 باسمه الراهن: "المعهد الفرنسي للدراسات العربية"، وبمهام وأنظمة جديدة، جاءت في وثائق التأسيس لتعتبره "مركزاً للدراسة والتعاون الفرنسي - العربي" و"يضمن الاتصال بين العلم الفرنسي والثقافة العربية". ولعل المشاركة الملحوظة التي جمعت الفرنسي جان سوفاجيه اعتباراً من عام 1924 مع السوري خالد معاز تعبّر بصورة ما عن نجاح مهمة هذا المعهد الجديد. فسوفاجيه الذي وضع مؤلفاً موسوعياً عن مدينة حلب "لم يكن بداية متحرراً تماماً من الايديولوجية الاستعمارية، بل كان يسير على طريق التحرر منها" وهو لذلك اعتمد منهج المركزية الاعراقية في النظر الى منجزات المسلمين، ويبدو ذلك واضحاً في قوله "إن العهد الاسلامي لم يحمل لهذه المدينة - حلب - أي إسهام إيجابي، وإن أبرز ما انطوى عليه هو تسريع سيرورة انحطاط هذه المدينة". على أن مفكراً مثل اندريه ريمون يوضح ملابسات استنتاجات سوفاجيه هذه معلّقاً "إن استنتاجات سوفاجيه المتشائمة حول تطور المدن السورية تحتاج، بلا ريب، الى مراجعة في ضوء المؤلفات الرائعة التي خصصها هذا العالم لمدينة حلب أو دمشق، والتي جاءت نتائجها مخالفة لنظريته عن الانحطاط المديني في العهد العربي". ويعتبر دومينيك ماليه بدوره ان هذا التناقض بين مقدمات سوفاجيه ونتائجه إنما يعود الى الاستشراق الذي شكل ستاراً ذهنياً حجب عنه النتائج الموضوعية لمقدماته. وفي مساهمة بارزة للمعهد، جاءت كجواب لإشكالية منهجية طرحها سوفاجيه نفسه، وتتعلق بكيفية التعويض عن النقص في الوثائق التاريخية للحقبة الوسيطة، أي قبل القرن السادس عشر. فإنه لا بد من الانتباه الى المصادر التي أهملها المؤرخون العرب القدامى والمستشرقون على السواء، وفي مقدمتها الآثار والنصوص الثانوية مثل اليوميات والنصوص العامية... في هذا الحقل بالذات تنصبّ جهود المعهد الذي أصدر هذا العام كتاباً في مجلدين جمع فيه باحث ألماني وباحثون سوريون "السماعات" التي كانت تدون على هوامش كتب الحديث في مدينة دمشق منذ القرن السابع للهجرة. حيث يمكن الوقوف على الحال الدينية والثقافية لهذه المدينة اعتماداً على هذه "السماعات". يقرّ دومينيك ماليه في معرض سرده النتائج التي توصل اليها الاستشراق، بخضوع هذه النتائج الى أحكام "المركزية الإعراقية"، ولكنه يعتبر ان هذه النتائج أخذت تتحرر من تلك الأحكام باتجاه الموضوعية منذ خمسينات القرن العشرين. وهذه المسيرة نفسها يخوضها الخطاب النقدي للاستشراق الذي يجب عليه اختصار وقت الوصول الى الموضوعية، وإلاّ فإنه يكون استشراقاً معكوساً وليس استغراباً وفق المنهج الذي وضعه والتزم بمفرداته ابن رشد منذ القرن الثاني عشر.