لنتفق على نقطة: المستشرق المتموقع في «نظام الحقيقة» الغربية (حقيقتنا)، وفق تعبير فوكو، المتموقع ضمناً في أحابيل استحقاقات الضميرين الثقافويين، «نحن» و «هم»، هو مستشرق غالباً ما ينتج نصاً فاشلاً معرفياً حتى وإنْ كانت معرفته وأدواتها تستبسل حياداً ما، بخاصة أنه لا يمكن أن يوجد حياد استشراقي والمستشرق مقولب بالأصل «بنيوياً» في مخياله الهوياتي الأنوي. إنّ المستشرق الذي ينطلق من مقولة لأن «هم» مسلمون و «نحن» مسيحيون، فهم كذا ونحن كذا، لا شك في أنه مستشرق عضواني اعتذاري، على الأقل. إنّ المستشرق الذي لا يستطيع إدراك «غربه» إلا من خلال قراءة «شرقهم»، هو مستشرق لا يعاني تأزماً نقدياً وتاريخياً في قراءة العناوين الاسمية للشرق والغرب فحسب، بل كذلك يعاني تأزماً هوياتياً في أناه المعرفية والوجودية هو، بحيث لا يمكن أنْ يُسمّى الرحالة المستشرق كذا، إلا بناء على وجود، أو بالأحرى إعادة تشريق أخلاق بدو عرب، مثلاً. مثل هذا المستشرق لا يمكن أن يدرك أعلويته إلا من خلال تناول، بل خلق، دونيتهم، وإضافة إلى ذلك، إنه واقع أساساً في شبكات العناوين الثقافية، ذات الطبيعة «الاسمية» لا «الفعلية» بطبيعة الحال: الغرب ليس غرباً إلا لأنه مسيحي، مرسوم وفق خطة خلاصوية، ميتا - تاريخية، والشرق ليس شرقاً إلا لأنه مسلم عضوياً، جوهراني التشكّل، بالتالي مصيره مسجل أبداً لأنْ يكون مجرد «طرف» ل «مركزية» تقبع في مخيال المستشرق. هناك، إضافة إلى نظام الحقيقة، نظيمة نحن وهم: نظيمةٌ قائمة أساساً على معايير مخيالية ثقافوية بقيت لمئات السنين مسيطرة على جزء مُعتبر من الخطاب النقدي، وهي سليلة نظام معرفة قروسطي وذاكرة صراعية لا ترى بأساً في النظر إلى القسطنطينية البيزنطية الشرقية إلا من زاوية روما الرومانية الغربية! أو أنّ مكة هي المقابل الجوهراني لروما! (مكة ورما ليست كما هما في التاريخ والعمليات التاريخية، بل هما جزء من عمليات ميتا - تاريخية، كما تقرر ضمناً المخيالية الثقافوية. وقل الأمر نفسه حول الرموز التاريخية الثقافية وغيرها) مثل هذه النقاط وغيرها تمثل عماداً رئيسياً في مأسسة ما أشار إليه أحد الدارسين الإيرانيين أرشين أديب مقدم ب «نظام الصراع Clash Regime» في كتاب له (Arshin Adib-Moghaddam, A Metahistory Of The Clash Of Civilisations Us And Them Beyond Orientalism, C. Hurst & Co., 2011)، على رغم أنّ هذا المؤلف نفسه وقع في الإشكالات الضدية التي ينتقدها في هذا الكتاب، كما سنشير لاحقاً إلى أشقائه وأسلافه ممن أسسوا لهذه الضدية في النقد الغربي التي كنا قد أشرنا إليها في مقال سابق «ما وراء «الاستشراق» السعيدي» (الحياة، 3 أيار/ مايو، 2014). نظام الصراع هو نظام ثقافوي بالأساس: إنه نظام صراع الأسماء والألقاب التي يراد منها أن تصبح ذات قوى فعلية. هكذا، فالشرق لا يغدو جهة جغرافية حقيقية، بل جهة ثقافوية يُراد منها (هكذا) أن تكون في مصاف الأدنى معرفياً في مقابل الغرب الفائق حضارياً ومركزياً. هذه بعضٌ من نقاط نظام المعرفة المركزية والتي تسكن نص المستشرق الثقافوي (ونشدّد بحذر شديد على الثقافوي حصراً المنخرط بماورائيات العمليات التاريخية، والذي يقف على النقيض مما أسست له الحداثة الغربية، حتى وإن كان مندرجاً ضمن السياق الحداثي)، لكن أيضاً إنها بعض من النقاط التي تسكن في النص ال «أنتي - استشراقي». ويعتبر إدوارد سعيد من الأمثلة المهمة في هذه الأنتية الضدية التي على رغم انتقادها مخيالاً استشراقياً، بيد أنها اندرجت هي نفسها في المخيال ذاته، لكن بطرق وأدوات مختلفة لم تمنعها من الانسياق في قوالب المخيال الضدي. إدوارد سعيد يعلم أنه كان يدخل في نصه ضمن أفق نظام الصراع الذي يبني وفقه المستشرق مخياله. لكن، من المهم التشديد أنه بعلم سعيد لهذا الصراع، فإنه هو نفسه قد دخل بما تفرضه حلبة الصراع هذه. بالتالي، فإنّ نظام الصراع هذا هو ما يختفي في نصه، وهو ما قولب كتابه كذلك. لا شك في أن هناك خطاباً استشراقياً مملوءاً بالقفز والماورائيات التاريخية، لكنْ أيضاً هناك خطاب ضدي Counter-Discourse: خطاب لم ينتقل ليؤسس خطاباً نقدياً بديلاً، بل ليؤسس خطاباً انساق ضمناً بما يفرضه الخطاب الأول الاستشراقي، هذا فضلاً عن التنميطية الهشة لهذا الخطاب الضدي، وهي تنميطية لم يكن لديها بأس وهي تضع جزءاً كبيراً من مستشرقي الغرب في سلة واحدة، كما أشرنا في المقال السابق ذكره. من هنا، فإنّ سعيد لم يُبعدنا عن أنه هناك شرق وهناك غرب، وهناك صراع أسطوري لا تاريخي بينهما. إننا لا نهتم هنا بالضديات الغربية الأخرى التي ردّت على سعيد بكون أن مخطوطه «الاستشراق» لم يخرج للوجود إلا لأنّ الرجل هو مشرقي، فلسطيني، رجل لديه قضية احتلال أرض مدعومة بقوى غربية... إلخ. فمثل هذه المقولات هي ضديات أخرى، وبالفعل حلبات من الصراع الممجوج. مهما يكن، فإن ّالأرض المعرفية التي انطلق منها سعيد لأنها لم تكن «تاريخية» في معالجة كيف نشأت مقولات الشرق - الغرب وكيف أعيد تشكيلها عبر التاريخ، فقد بقيت أرضاً تسبح في حلبة الصراع نفسها التي مأسسها المابعديون: إذا كان «هنتغتون» ضدياً، فهناك أيضاً «سعيد»، الضدي الآخر الذي سبقه، هناك انتقاد للغرب من موقع الدفاع عن الشرق، والعكس بالعكس. إنها معركة لم يدخلها سعيد فحسب، بل كان ممن ثبت مقولاتها الصراعية، وكأننا بالفعل في حلبة صراع ما فوق تاريخية. وإذا كان لدى هنتغتون صورة ثقافوية عن الشرق تدور في محور الصراع مع الغرب، في محور صراع المسيحية والإسلام، فإنّ الصورة لدى سعيد لن تختلف كثيراً في العمق في تثبيت هذه العلاقة: «العلاقة بين الغرب والشرق هي علاقة القوة والهيمنة ودرجات مختلفة من السيطرة المعقدة...» يصرح سعيد. هنتغتون بذلك لم يأتِ بجديد كبير عما كان يريده قلم سعيد. بيد أننا هنا يجب ألا نغفل عن أنّ ما وراء النص السعيدي يكمن «غرب ما»، غرب من صنع سعيد: أي، من التشريق وإعادة التشريق إلى التغريب وإعادة التغريب. لدينا هنا عقدة «التمثيل» Representation التي برع سعيد في تفكيكها (والتمثيل، على أي حال، هو مشكلة تاريخية إنثروبولوجية، كما يقول الإنثروبولوجيون، منذ هيرودوت، أب التاريخ، في القرن الخامس ق.م.). حيث على رغم السلطة الكثيفة التي تحملها عقدة التمثيل في النص الاستشراقي المخيالي الأعلوي (أياً يكن هذا النص، لوحة رسم فنية، أو نصاً إنثروبولوجياً دينياً، أو فيلولوجياً، أو حتى نص رحالة يصف بدو النقب مثلاً... إلخ)، فإن هناك، كذلك الأمر، عقدة في التمثيل في النص الأنتي - استشراقي: عقدةٌ حيث الإبستيمة فيها علاقة ضعيفٍ بقوي، طرفٍ بمركز، شرقٍ سعيديٍ ما باستشراق غربي كولونيالي ما. هكذا، فإذا كان هناك شرق «خفي» في نص المستشرق الثقافوي، شرق مختبئ خلف غياهب عنوان كبير مثل «الأيديولوجيا» أو المعرفة المتسلطة، فإن هناك كذلك غرباً «خفياً» في النص الأنتي: غرب احتكر المعرفة وأدواتها، غرب تسيطر عليه الهيمنة والإمبريالية، وليس مستشرقوه سوى أدوات في هذه الإمبريالية! من هنا، فإذا سمعنا معتوهاً من حلف الناتو يصرح بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أنه ضد تفكيك الحلف (طالما أنه قام بالأساس بهدف مواجهة الشيوعية)، وبأن الإسلام هو الشيوعية الجديدة (John L. Esposito, Islamic Threat: Myth Or Reality? third edition, Oxford University Press, p. xi)، فيجب أن نعلم أنّ هذا الجنون الضدي كانت له قواعده المعرفية الحديثة في الهجوم على الحداثة كمشروع كوني، في نهوض الضديات النقدية لما بعد الحداثة، في تثبيت العلاقة الصراعية بين الشرق والغرب كما في «الاستشراق» السعيدي. إدوارد سعيد، في الواقع، أعاد الكرة إلى المربع الأول ووقع في فخ من كان ينقده (وهذا بغض النظر عن صحة أو عدم صحة بعض أفكار الأطروحة)، وبالتحديد إعادة تخيل ورسم الاستشراق وحصره في زاوية «المشروع الكولونيالي»، وحصر الشرق في زاوية الضحية الأبدية لتلك الكولونيالية: أي أننا أمام شرق معاد تشريقه في النص الاستشراقي، وغرب معاد تغريبه وتخيله في النص ال «أنتي - استشراقي». * كاتب سوري