علي بدرخان احد المخرجين الذين ظهروا في حقبة السبعينات. ويضعه كثر من المهتمين بالسينما في مقدم الذين أبدعوا في هذا الفن، في مصر خلال تلك الحقبة، على رغم أن ما قدمه في السينما لم يتجاوز الأفلام العشرة. إلا أنها أفلام اكتسبت شهرة عريضة واستقطبت كتابات نقدية لافتة وحضوراً جماهيرياً ضخماً في مصر والعالم العربي، وحصدت الكثير من الجوائز المحلية والعالمية. "الحياة" ألتقته وسألته عن بدايته في عالم السينما وتأثير والده فيه والمحطات الفنية المهمة في مشواره ورأيه في النقاد السينمائيين. وكان هذا الحوار: إلى أي مدى كان لعمل والدك المخرج احمد بدرخان تأثير في اتجاهك نحو السينما؟ - كان له تأثير كبير، إذ اكتشف ميولي الفنية باكراً فأحضر لي كاميرا فوتوغرافية، وكان لدي معمل صغير لتحميض الصور وطبعها. بعد ذلك احضر لي كاميرا سينما "8 ملم"، وكثيراً ما كان يصطحبني الى الاستوديوهات، فعشقت جوها وتعلقت بهذه المهنة. إفادة عملت مساعد مخرج مع مخرجين، لكل منهم مدرسته الخاصة، مثل احمد ضياء الدين وفطين عبدالوهاب واحمد بدرخان ويوسف شاهين وشادي عبدالسلام. فما مدى افادتك من العمل مع هؤلاء المبدعين؟ - تعلمت منهم جميعاً، وبأشكال متفاوتة، خصوصاً أن لكل منهم وجهة نظر وأسلوباً في التعامل مع فريق العمل، ورؤيته في تناول النص، ومناقشته أبطال الفيلم. وما زاد من افادتي انني من المخرجين الذين يعشقون السينما، فأحببت أن أترجم هذا العشق عملياً، فتعلمت كل المهنة. بدأت عامل كلاكيت، ثم "سكريبت"، فمساعد حركة فمساعد أول. وتابعت مديري التصوير من مثل عبدالعزيز فهمي واحمد خورشيد وعبدالحليم نصر وتعلمت منهم، إضافة الى تعلمي فن المونتاج على سعيد الشيخ، وكنت أراقب حتى عمال الديكور وهم يعملون... وهذا كله أفادني في ما بعد كمخرج. نلت عن أول أفلامك، "الحب الذي كان"، عام 1972، جائزة النقاد. فما كانت ظروف إخراجك ذاك الفيلم؟ - كان من المقرر أن يكون أول أفلامي بعنوان "القفص الذهب" عن قصة أجنبية، وكنت سأنفذه مع القطاع العام الذي عاد وتوقف "على حظي". فقررت ألا أغامر في القطاع الخاص، بل أن أقدم "الحدوتة" التقليدية عن الزوج والزوجة والعشيق ولكن في إطار سينما جديدة وهذا ما حدث في فيلم "الحب الذي كان". كيف ولدت فكرة هذا الشريط؟ - هي قصة واقعية لأحد اصدقائي، سمعتها ثم جلست يومها مع الكاتب المخرج في ما بعد رأفت الميهي وقصصتها عليه فكتبها. ونلت على هذا الفيلم جائزة نقاد السينما المصريين، وكانت الأولى في حياتي. بعد إخراجك أول أفلامك، عملت مساعد مخرج مع يوسف شاهين في فيلم "العصفور"، لماذا؟ - يوسف شاهين استاذي، ويعد مدرسة، وحتى الآن يمكن أن أعمل معه مساعد مخرج، لأن في ذلك افادة لي. وأذكر أنني عندما عملت معه في "العصفور"، عرض علي أجراً لكنني رفضت، قائلاً إن أجري هو الوقوف في جواره! هل يمكن القول إن اتجاهك نحو الفيلم السياسي في ثاني أفلامك "الكرنك"، كان نيتجة تأثرك بالعمل مع يوسف شاهين في "العصفور"؟ - لا، ما حدث انني أعجبت برواية "الكرنك"، وقلت ان لا بد من أن أقدمها في فيلم سينمائي، لأن الاهتمام بالمجتمع والحال الاقتصادية والسياسية كان يشغل بالي مذ كنت في المعهد. في تلك المرحلة كان هناك مد اشتراكي وايديولوجيات مطروحة وشباب يقرأ، وكانت التقدمية واليسار يكتسحان العالم... فكان من الطبيعي أن نتأثر وننجز هذا الفيلم. اعتقال هل اعتقالك مع احمد فؤاد نجم والشيخ إمام كان سبباً من أسباب اخراجك "الكرنك"؟ - هذا غير صحيح، لأنني كنت احضر للفيلم قبل اعتقالي. لكنني افدت من مدة اعتقالي، في إخراجي الشريط، لأنها قربت لي بعض التفاصيل الدقيقة وجعلتني انقل صورة أقرب الى الواقع. فأنا لم أر كل الواقع، رأيت جزءاً منه، لأنني مثلاً لم أتعرض للتعذيب. يقول نقاد إن البناء الدرامي في الفيلم صور شخصيات السلطة كأنها بلا ملامح انسانية، بل مجرد وسيلة تعذيب، مثل شخصية خالد صفوان التي جسدها كمال الشناوي؟ - بالعكس كانت شخصية خالد صفوان واضحة وكانت لديه لحظات ضعف وقوة. شاهدناه وهو يحلق ذقنه ويتناول دواء ويسبح، وكان واضحاً انه معقد، لكن المشكلة ان الناقد يضع نفسه مكان المخرج فيبدأ يُخرج بنفسه ويرى العمل من وجهة نظره وهذا ليس نقداً. قد أنتقد فيلماً يدعو الى الصهيونية نجح في إيصال الدعاية، فيكون عملاً ناجحاً فنياً على رغم اختلافي معه في الفكرة، لأن هذا موضوع آخر. كل شخص يجب أن يعبر عن فكره بحرية ومن حقك كناقد أن ترفض هذا الفكر، ولكن ليس من حقك أن ترفض العمل الفني والتصوير والتمثيل والاخراج والمونتاج والموسيقى لأسباب سياسية. في الواقع النقد عندنا "بالعافية" ومعظمه انطباعات شخصية، وهذا وارد، ولكن يجب ألا يكون هو الجانب الأوحد في النقد، إذ لا بد من أن تكون هناك امور موضوعية تقوّمها، وبعد ذلك تطرح وجهة نظرك، ولكن لا تضع وجهة نظرك في المقام الأول وبعدها تكمل النقد بناء عليها. هذا خطأ، إضافة الى ان من غير الصحيح، عندما تنتقد عملاً فنياً، أن تكون ثمة اخطاء حرفية وتقنية. ثمة أشخاص إذا وجدوا مكاناً يكتبون فيه، ويعرفون من خلاله أن يتطاولوا على الفنانين والمخرجين، يشعرون بالزهو. ولكن ما يفعله هؤلاء المدعون مجرد تجريح. ونحن، في الحقيقة، لا نمتلك نقداً فعلياً ولا مدرسة نقد. في الماضي كان لدينا نقاد، أما الآن ففي إمكان أي شخص أن يكتب نقداً من دون دراسة، كما هي حال الفن إذ صار في إمكان أي شخص أن يعمل فيه، لذلك وصلنا الى حال يرثى لها. بطلة فيلم "الكرنك" زينب دياب، وهي تكتب أول تقاريرها للاستخبارات، نظرت الى صورة الرئيس جمال عبدالناصر. هل كنت تريد القول إنه هو الذي أوصلها الى هذه الماسأة؟ - لا، زينب دياب عندما نظرت الى صورة عبدالناصر كانت تنظر الى قدوتها ومثلها الأعلى وحلمها، فكيف يحدث لها هذا وهو موجود في البلد، وهو الذي أعطاها مجانية التعليم وشقة في المساكن الشعبية وهكذا... لكن التجاوزات التي حدثت كانت من خالد صفوان ومن مسؤول منظمة الشباب والعسكري المرتشي، وهم في النهاية دخلوا السجن. كان هذا الفيلم رسالة ضد قهر الانسان، اينما كان، لأنك عندما تقهر انساناً وتدمره من الداخل يصبح بلا فائدة، ولا تتوقعنَّ له مستقبلاً. في رواية "الكرنك"، لا نعرف كيف قُتل حلمي حمادة، ولكن في الفيلم نرى كيف، ويذكرنا المشهد بمصرع المناضل شهدي عطية الشافعي. هل كان هذا في ذهنك أثناء إخراج الفيلم؟ - نعم كنت أقصد هذا، ولمحت إليه عبر كتابه "الحركة الوطنية المصرية" الذي سقط على الأرض، ويعد من أهم الكتب التي تناولت التاريخ المصري من وجهة نظر ماركسية. وكان ذاك المشهد تحية مني لهذا المناضل الذي لا يتذكره اليوم إلا المهتمون بالنضال السياسي. سياسة فيلم "شيلني وشيلك" هو ثالث أفلام. قلت عنه إنه فيلم سياسي، ووصفه النقاد بأنه اجتماعي كوميدي، ما تعليقك؟ - أنا أعتبر كل أفلامي سياسية، لأنها انتجت في ظروف مر بها البلد. ففيلم "بليه ودماغه العالية" الذي اخرجه نادر جلال، مثلاً، فيلم سياسي لأنه يعبر عن واقع مجتمع بصدق شديد. و"شيلني وشيلك" أول فيلم تنبأ بظاهرة الانفتاح الاقتصادي. ما هو الفيلم السياسي في رأيك؟ - أي فيلم يتناول بالتحليل موقفاً ما يرتبط بحياة الناس ومجتمعهم. وثمة نقاد وصحافيون يعتبرون الشريط الذي يحمل قضية أو موضوعاً سياسياً وحده فيلماً سياسياً، فيما السياسة تدخل في خبزنا وشرابنا. "شيلني وشيلك" يحمل فكرة الانفتاح، لكنها تاهت في الأداء الكوميدي للفنان محمد عوض؟ - هذا خطأ شخصي مني، لأنني كنت مهتماً جداً بقضية الانفتاح وسيطرت عليّ، ف"حشرتها" في الموضوع وأخذت حيزاً كبيراً منه، حتى انني ألغيت عدداً من المشاهد الكوميدية الصارخة، لأنني كنت أريد إيصال الفكرة إلى الجمهور، وهذا انعكس على أداء عوض. متى بدأت علاقتك بالشاعر صلاح جاهين الذي عمل معك مستشاراً فنياً في غير فيلم؟ - صلاح جاهين استاذي، ومعرفتي به تعود إلى طفولتي، حيث كانت تربطه والملحن سيد مكاوي علاقة وطيدة بوالدي. وعندما كبرت وقصدته في "شغل" لم أشعر انني أمام صديق والدي، بل أمام صديق لي على رغم فارق السنين بيننا. كنا نجلس معاً ساعات طويلة وتعلمت منه الكثير. البعض اعترض على عبارة "مستشار فني" التي كتبتها في غير فيلم؟ - من يكون أمامه صلاح جاهين ولا يستشيره... إنسان غبي. فيلم "شفيقة ومتولي" بدأ به المخرج سيد عيسى عن سيناريو شوقي عبدالحكيم، ثم أعاد كتابته يوسف شاهين مع صلاح جاهين وأخرجته أنت، فكيف وصل إليك؟ - هذا الشريط بدأ به سيد عيسى، ثم أخذه يوسف شاهين وكنت أعمل معه مساعداً، وشرع في إخراجه، لكنه بعد أسبوعين تعب وقال لي: "أنا تعبان ولا استطيع أن أصور"، فطلبت منه تأجيل التصوير، لكنه رفض، وطلب مني أن أخرجه. عندها طلبت منه أن أرى نفسي من خلال السيناريو فثار جداً، وسألني ضاحكاً: "حتعدل عليّ يا ولد؟"، فقلت له: هذا من حقي. أنت لك طريقة معينة وأنا لي رؤية أخرى. فوافق وأعطاني مهلة عشرة أيام لإعادة كتابة السيناريو مع صلاح جاهين. أنجزت الفيلم وكان شاهين سعيداً جداً بي، حتى انه زارني في أحد الأيام في الاستوديو، وعمل معي مساعد مخرج في مشهد وقال لي: "إحنا جاهزين يا أستاذ علي". البعض انتقد لجوءك إلى صيغة الراوي في هذا الفيلم، لأنه أضعف المشاهد التي يظهر فيها، إذ بدا كمن يلقّم الجمهور، وهذه طريقة تم تخطيها. - هذه وجهة نظر. وثمة وجهة نظر أخرى، هي أنني أحكي ملحمة، يفترض أن يقولها الراوي. وأردت أن أحافظ على هذا الشكل الشعبي. روية مستقبلية في فيلم "أهل القمة" تعاطف الجمهور مع "زعتر النوري" الحرامي. ورأى كثر أن هذا خطأ. ما تعليقك؟ - هذا الفيلم كان يحمل رؤية مستقبلية لما حدث أخيراً، وكان رصداً لواقع حل في ما بعد، عندما تعاونت الحكومة مع أشخاص مثل الريان والسعد وغيرهما. ما الذي جذبك إلى إخراج فيلم "الجوع"؟ - كان من المقرر أن أعمل "ملحمة الحرافيش" مسلسلاً من إنتاج يوسف شاهين، لكنه باع قصصها لمخرجين كثيرين، فتجزأت الفكرة الرئيسية للملحمة، وهي الصراع بين الرأسماليين والعاملين. الصراع تحميه سلطة أو قوة. القوة إذا استمالها أصحاب رأس المال، ستكون وبالاً على الطبقة العاملة. وإذا حدث العكس ضد أصحاب رأس المال، فستعطى حقوق للناس الضعفاء. وهذا ما جذبني إلى إخراج فيلم "الجوع". هل كان "الفتوّات" في الفيلم رمزاً للسلطة؟ - نعم! يلاحظ انك أخرجت غير عمل لنجيب محفوظ، ما هي طبيعة العلاقة بينك وبينه؟ - إنه أكثر أديب أحب أدبه، لأن لديه قدرة على تصوير الشخصيات وانتقاء جمل الحوار في شكل مذهل، حتى أنك إذا حاولت إدخال تعديل عليها لن تستطيع، وقبل إخراجي أياً من أعماله، أذهب إليه وأناقشه وأقول له رؤيتي التي فهمتها من الرواية ومدى صحتها! يلاحظ أن المسافة الزمنية بين فيلم وآخر لك، تتزايد... لماذا؟ - لست السبب، أنا فنان أستجيب من يطلبني لعمل، وحين يطلبني سأعمل، إذا أعجبني الموضوع. جهد ضائع قال أحد النقاد إن فيلمي علي بدرخان "نزوة" و"الرجل الثالث" كانا أشبه بجهد ضائع في فكر سينمائي مستهلك؟ - هذا ليس عيباً وقد بدأت حياتي السينمائية بفيلم سبق للسينما المصرية أن تناولت موضوعه. فما المشكلة؟ و"الرجل الثالث" قصة حقيقية حدثت مع اللواء محمد عباس في قضية مخدرات في إطار درامي وعلاقات ذات بعد إنساني، "مش لازم يكون كل فيلم جامد"، يكفي أن يتضمن مشهداً جيداً أو مشهدين، "إيه المشكلة"؟ لكن السادة النقاد يتوقعون أن أخرج فيلماً بمواصفات معينة إذا لم تتوافر فيه، يكون سيئاً. يلاحظ أن أحمد زكي هو الجامع المشترك في معظم أفلامك. متى بدأت علاقتك به؟ - أحمد كان طالباً في معهد الفنون المسرحية، وكنت أول مخرج فكر أن ينقله من المعهد إلى بطولة الأفلام، إذ كنت مقتنعاً جداً بموهبته، وكذلك كان صلاح جاهين مقتنعاً به. رشحته إلى بطولة "الكرنك"، لكن موزع الفيلم رفض اسناد البطولة إليه، وعندما علم أحمد بذلك، أحس بصدمة كبيرة.