حين أطل الشاعر الياباني غوزو يوشيماسو على الخشبة يؤدّي قصائده إداء شبه مسرحي لم يتمالك الجمهور عن التصفيق له بحماسة. فالاطلالة غريبة حقاً والشاعر لم يقرأ قصائده في لغته الأم قراءة تقليدية بل اعتمد لعبة طقوسية جميلة: خلع حذاءه وركع في احدى زوايا المسرح وفتح صرّة من القماش وأخرج منها ثلاثة كتب ومطرقة ومسماراً. وراح يوقّع قراءته على ضربات خفيفة ووفق لهجته اليابانية. أما الممثلون المغربيون الذين قرأوا قصائده في ترجمتها العربية فكانوا مختلفين عنه تماماً وكأن هدفهم أن يوصلوا المعنى الى الجمهور بعدما نجح الشاعر في اداء طقوسه الشعرية. وان كان الشاعر الياباني من أطرف وجوه "المهرجان العالمي للشعر" الذي أحياه "بيت الشعر في المغرب" طوال ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ جاعلاً من الدار البيضاء مدينة شعرية بامتياز فأنّ الشاعر الروسي غينادي آيغي كان بحق مفاجأة المهرجان، فهو من كبار الشعراء الأحياء في روسيا المعاصرة بل أيضاً من الأسماء الكبيرة في حركة الشعر العالمي المعاصر واسمه يتردد دوماً ضمن المرشحين الى جائزة نوبل. وبدا ايغي خلال المهرجان أشبه بالكاهن الروسي الصامت الذي يتواصل مع الآخرين عبر لغة الإشارات إذ أنه لا يجيد الفرنسية جيداً ولا الانكليزية كذلك. علماً ان شعره مترجم الى لغات عدة وكانت صدرت بعض كتبه كاملة في الفرنسية والانكليزية ووضعت عنه كتب تناولت تجربته الشعرية والسياسية "المعارضة". فالنظام البولشفي كان طرده من معهد غوركي الأدبي تبعاً لعلاقته بالشاعر باسترناك ولعدم رضاه عن نشاطه الشعري والفني السري والمختلف. وعاش غينادي يناهز السادسة والستين من عمره حياة فقر وبؤس ولم تخرج قصائده الى النور الا في نهاية الثمانينات لتحظى بشهرة عالمية. وقد وصفه الشاعر الفرنسي جاك روبو في كونه "صوت الشعر الروسي المعاصر الأشد أصالة وأحد أكبر الأصوات غير العادية في العالم". غير ان فرادة "المهرجان العالمي للشعر" لم تكمن فقط في كونه موئلاً شعرياً حقيقياً يلتقي خلاله شعراء من أصقاع العالم على اختلاف لغاتهم ونزعاتهم بل أيضاً في كونه فسحة مشرعة على الفنون الأخرى كالمسرح والرسم والموسيقى. صحيح ان المهرجان شعري بامتياز أو هو لقاء بين شعراء يتحاورون عبر القصائد والنظريات لكنّ من أهدافه البارزة أيضاً ان يهدم الجدران المتوهّمة التي تفصل بين الفنون وأن يلغي الحدود التي تُبعد بعضها عن بعض. وقد دعا في الحين عينه الى ضرورة "استقلال" الشعر في معنى تحرره من ربقة أي سلطة تهدده كالسلطة الدينية أو السلطة السياسية. وهذه المقولة كانت عنوان الندوة النظرية التي تخللت المهرجان وترافقت مع القراءات الشعرية والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية. استقلال الشعر يعني أيضاً ابتعاده من أي تبعة غير شعرية ورفضه "الاستبداد" أياً كان ومواجهته الأخطار التي تحيق به وتهدده كالعولمة والاستهلاك والمكننة... وقد جاء في بيان "استقلال الشعر" ما يوضح هذه المقولة: "المسألة اليوم لا تكمن فقط في الدفاع عن الشعر، كخطاب له حق الكلام، بل ثمة أيضاً ما يستعجل تأكيد ضرورة استقلال الشعر في وصفه معرفة بالمفرد. ان الشعر لا يشبه سواه ولا يتشبه به، والمعرفة التي ينتجها تظلّ مرتبطة بالذاتيات في مجهولها ولا نهائيتها". سعى المهرجان إذاً الى فرض "سلطة" الشعر كمعرفة قائمة بذاتها ودعا الى تحريره من القيود التي طالما كبّلته في الماضي حين جعلته فعلاً تابعاً وكذلك من القيود التي تكبّله في الحاضر وتمعن في تهميشه ونفيه. ولعل اصرار المهرجان على صفته العالمية يدل على مضيّه في تخطّي الحواجز التي من الممكن أن تحول دون تواصل الشعر كقضية حضارية. وليس اختياره شعراء من أصقاع بعيدة إلا دليلاً أيضاً على كسر "الهيمنة" الأوروبية أو المفهوم الأوروبي للشعر وترسيخ المفاهيم الأخرى التي تعرفها بلدان شبه مستبعدة كاليابانوروسيا وايران وأفريقيا. إلا ان فرنسا لم تغب عن المهرجان ولا أوروبا الشمالية ولا البرتغال... الشاعر الفرنسي ميشال دوغي هو من الأصوات الشعرية الأشدّ حضوراً في فرنسا اليوم. وعلاوة على ادارته احدى أبرز المجلات الشعرية الفرنسية شعر فهو يمثل ذروة اللقاء بين الفلسفة والشعر حتى ان قصائده لم تنجُ من التجريد الذهني الذي غالباً ما يحول دون وصولها الى الجمهور حتى الفرنسي. شاعر نخبوي بامتياز، أكاديمي النزعة خير وارث للتجربة العدمية التي تجعل من الصنيع الشعري مواجهة للخواء اللغوي. أما الشاعر الإيراني يد الله رويائي فهو من الشعراء الإيرانيين المنفيين ويقاسي ألم الانفصال عن الوطن - الأم وكآبة الاغتراب اللغوي والوجودي. وبدت قصائده في ترجمتها العربية صاخبة بالنفس الرثائي المجروح والمكتئب. الشاعرة الأفريقية الجنوبية فيلما ستوكانستروم بدت صاحبة صوت مختلف تماماً: صوت أفريقي ولكن خارج الموضوعات المعروفة أو الجاهزة. قصائدها لا تخلو من النزعة الغنائية الصافية التي تحتفل بالإنسان كائناً من كائنات الطبيعة المزدوجة: روحاً وتراباً. ولم تغب الولاياتالمتحدة الأميركية عن المهرجان بل حضرت ولكن حضوراً خافتاً عبر صوت الشاعرة مارلين هاكر وهي غالباً ما تقيم في باريس وتترجم الشعر الفرنسي والفرنكوفوني الى الأميركية. ولم يجذب شعرها ذائقة الحاضرين ولا سيما الشعراء أو النقاد وقد تكون الترجمة العربية قصّرت في نقل جوهر تجربتها الشعرية. وحضر من البرتغال - أرض فرناندو بسّوا - الشاعر الشاب غاستاو كروز وغدا صوته برتغالياً بامتياز سواء عبر كثافته اللغوية وانصهاره الشكلي أم عبر استحضاره بعض الرموز البرتغالية والتجارب العالمية. واستوحى شعره الألم والموت كموضوعين يضعان الشعر في مواجهة نفسه وفي مواجهة الذات المغرقة في صمتها. أما الشاعر الهولندي هانس فاندي فارسنبورغ فلم يكن غريباً عن مناخ الشعر الأوروبي الشمالي وبدت قصائده أشبه بالمصهر الطبيعي والميتافيزيقي المنفتح على أسئلة الوجود. الشعر العربي في المهرجان حضر بشدّة ولكن بعيداً من سطوة الرواد أو الشعراء النجوم. أدونيس ومحمود درويش في الدورة الماضية كانا ساطعين في حضورهما الشعري وكادا يطغيان على الشعراء الآخرين ومن ضمنهم الشاعر الهندي الكبير لوكينات بطاشاريا. في الدورة الجديدة حضر الشعر العربي الجديد أكثر مما حضر الشعراء. حضرت القصائد أكثر مما حضرت الأسماء. الشاعر اللبناني عباس بيضون ترك في الجمهور أثراً عميقاً عبر قصائده التي تؤالف بين اليومي والميتافيزيقي، بين الرثائي والاحتفالي، بين العابر والأزلي. واستمع اليه الجمهور يقرأ مختارات متباعدة زمناً وتجربة ووجد فيه وجهاً آخر للشاعر العربي الذي عانى عتمة السجن الإسرائيلي كما عُرّف به. محمد الأشعري تخلّى عن منصبه كوزير للثقافة وأطلّ كما اعتاده جمهوره سابقاً شاعراً وشاعراً فقط. وأثارت قصائده حماسة الحاضرين الذين صفقوا له معبّرين عن فرحهم بعودته اليهم شاعراً يدرك أسرار الفصاحة الشعرية. الشاعر المصري محمد عفيفي مطر كان خفراً في اطلالته على رغم شاعريته العميقة التي تحفر في "ذات" الكائن و"ذات" اللغة بحثاً عن كينونة شعرية تصالح بين التاريخي والمطلق، بين الموضوعي والحلمي. المهدي إخريف مثّل الجيل الشعري المغربي المنفتح على التجارب العالمية والباحث عن لغة مغايرة وعلاقات شعرية تتخطى سطوة اللغة وهيولى الشعر. ولئن غاب الطاهر بنجلون قسراً تبعاً للحملة المغرضة التي تواجهه في فرنسا والتهم التي كيلت له جزافاً فأنّ عبدالوهاب المؤدّب مثّل ما يمكن تسميته الشعر العربي الفرنكوفوني. وبدا صوته فريداً سواء في نثريته الشعرية الساحرة التي لا تخلو من بعض الصنعة اللغوية والبحث الشكلي أم في عمقه الميتافيزيقي الذي يرقى بالمرجع الصوفي الى مرتبة شعرية ورمزية عالية. لكن بنجلون لم يغب كشاعر إذ قرئت مختارات من شعره بالفرنسية والعربية. وكان الشاعر محمد بنيس وجه اليه تحية في كلمته الافتتاحية شاجباً الحملة المشبوهة التي يتعرض لها معلناً مؤازرة "بيت الشعر" له ولقضيته. استقلال الشعر إلا ان المهرجان العالمي في دورته الثانية لم يقتصر على الأمسيات الشعرية فقط بل تضمن ندوة رئيسية عنوانها "استقلال الشعر" وشارك فيها الشعراء والجمهور في حوار مفتوح. والعنوان هذا هو أحد أهداف المهرجان الذي يسعى الى ترسيخ الشعر كحقل معرفي يكتفي بذاته وينفتح في الوقت نفسه وبحرية تامة على بقية الفنون وعلى بقية "المعارف" التي تسود العصر الراهن. ولعلّ العنوان هو أشبه بالشعار الذي على الشعر أن يتبناه ليخوض معركته وليحقق انتصاره على التحديات التي تواجهه بصمت وهدوء. وليس تأكيد محمد بنيس في كلمته الافتتاحية على دور الشعر في الحفاظ على "المعنى" الإنساني والوجودي إلا دليلاً على مضيّ "بيت الشعر" في جعل هذا المهرجان فسحة لا للتلاقي والتحاور فحسب وإنما لترسيخ الحضور الشعري في قلب العالم الآخذ في "التصحّر" الروحي والجمالي والمهدّد بفقد أبعاده الإنسانية والوجدانية. لم تغب الفنون الأخرى عن المهرجان الشعري الذي سعى الى ترسيخ علاقته بها بل هي حضرت كجزء منه وليس على هامشه. المخرج عبدالواحد عوزري ترك لمساته المسرحية على الأمسيات الشعرية وأحاطها بجو شبه درامي عبر اطلالة الشعراء والممثلين وعبر السينوغرافيا الشاملة التي ارتآها كبعد آخر من أبعاد الاطلالة الشعرية. وجعل عوزري الممثلين يؤدون القصائد المترجمة إداءً مسرحياً أكثر مما جعلهم يقرأونها على عكس الشعراء الذين قرأوا في لغاتهم الأم. ورسخ حضور الممثلة المغربية ثريا جبران البعد المسرحي إذ تولّت تقديم الشعراء تقديماً مسرحياً. وأدّت جبران مقاطع من قصيدة طويلة للشاعر الفرنسي جان بيار سيميون عنوانها "امرأة غاضبة" جاعلة من القصيدة نصاً مونودرامياً عاشت تفاصيله المأسوية وحوّلت صوته الوحيد الراوي الى شخصية أمّ حقيقية تعاني وتتألم، تصمت حيناً وتصرخ حيناً. وراحت تستعيد عبر حركة الجسد وتلاوين الوجه حكاية تلك المرأة المحاصرة بالمآسي الشخصية والجماعية. ونجحت ثريا جبران في كسر نظام الأمسيات الشعرية وقدّمت مقاربة مونودرامية للنص الشعري مرتكزة الى خبرتها الطويلة في عالم المسرح. واللافت ان النص الشعري يستوحي مأساة امرأة أو أمّ في جحيم الحرب اللبنانية. وكان الشاعر الفرنسي كتب النص - القصيدة خلال اقامته في لبنان. مقاربات فنية أما الفن التشكيلي فحضر من خلال معرض الرسام عبدالله الحريري وحمل عنوان "ديوان 2000". وجمع الرسام في لوحاته بين التجريد والتشكيل الخطيّ جاعلاً من بعض القصائد منطلقاً لرؤيته التشكيلية الى الشعر. ورسّخ الحريري العلاقة بين الرسم والشعر عبر الادراك الجمالي والتفاعل العميق. وقد تداخلت الجمالية الخطية والجمالية الشعرية في نسيج تشكيليّ هو أشبه بفضاء بصري. واللافت ان الرسم هنا ليس تفسيراً لونياً أو شكلياً للشعر وكذلك القصيدة التي لم تحضر لتفسّر الرسم أو تشرحه. هكذا بدا الرسم والشعر لدى الحريري قطبين متداخلين ومنفصلين عبر لعبة الغواية التي يتبادلانها. كأن القصيدة تستبد بروح اللون وروح الشكل وكأنّ الرسم يستبد بدوره بروح القصيدة. ولم يغب الفن الفوتوغرافي أو الصورة عن المهرجان الشعري. فالمصوّرة المغربية سعاد كنون شاءت أن تحوّل وجوه الشعراء المغربيين الى لوحات فنية عبر الكاميرا المرهفة واللعبة الفوتوغرافية الباهرة. وقد صوّرت الشعراء كما لو أنها ترسمهم ملتقطة تعابيرهم الداخلية وبداهاتهم والمعاني التي تفترضها الصورة كلحظة جامدة من لحظات الزمن المتحوّل والدائم التحوّل. ولعلّ المعرض الفوتوغرافي الذي ضم صور شعراء المغرب كان أشبه بالتحية الشعرية التي تؤدّيها الكاميرا كاسرة هذا الواقع ومحلّقة في فضاء شعري وحلميّ بامتياز. ولئن بدا المهرجان أقرب الى اللقاء الذي يضمّ شعراء من العالم يتحاورون مع أنفسهم ومع الجمهور ويتبادلون التجارب والأفكار على اختلافها، ساعين الى كسر جدار الغربة ولأم الشروخ التي تفصل بين اللغات والهويات والهموم فهو غدا أيضاً أشبه بالمنبر المفتوح أمام التجارب الجديدة. ومن المنبر هذا أطل المستشرق الألماني ستيفان فايدنر ليقدّم كتابه "مختارات من الشعر العربي المعاصر" وكان صدر حديثاً في المانيا وأثار بعض الجدل في الأوساط الأدبية إذ ان البعض انتقده آخذاً عليه سوء الاحاطة بالشعر العربي وكذلك تشويهه صورة بعض الشعراء العرب المعاصرين. وتحدّث المستشرق عن مختاراته مدافعاً عنها وعارضاً مفهومه للترجمة والصعوبات التي تواجه من يترجم من اللغة العربية. ومما قال "كانت هذه المختارات عملاً شاقاً، مصحوباً باليأس على الدوام، بمعنى التساؤل إنْ كان من مغزى أو معنى للترجمة". ومن المنبر نفسه قدمت الناشرة البريطانية مارغريت أوبنك مجلة "بانيبال" التي تقدم الأدب العربي المعاصر شعراً ونثراً مترجماً الى اللغة الانكليزية. وارتأى "بيت الشعر" ان يجعل من المهرجان فرصة ملائمة ليقدم العدد الأول من مجلته الشعرية الفصلية "البيت". وضم العدد الأول قصائد ودراسات وترجمات تدل بوضوح على مشروع المجلة. ومن الأسماء التي حضرت في العدد الأول: محمد بنّيس المدير المسؤول وصلاح بوسريف رئيس التحرير وعبدالرحمن طنكول وعبدالعزيز بومهولي ومصطفى النيسابوري والمهدي إخريف ومبارك الراجي وأبو بكر زمال الجزائر وحسن الوزاني وسواهم. اضافة الى ترجمات للشعراء: جاكومو ترينشي ايطاليا، ريوكو سيكيفوشي اليابان، روبرت كيلي أميركا، بانتي هولابا فنلندا وسواهم. وأفاد بعض أعضاء "جماعة الاختلاف" الأدبية الجزائرية من المهرجان لتوزيع بعض أعمالهم الجديدة في حقول الشعر والرواية والنصوص وللتعريف بحركتهم الأدبية الجديدة التي تسعى الى كسر الحصار المفروض عليها داخل الجزائر.