اختتم وحيد عبدالمجيد رده المعنون "الماركسية فكر إنساني ومراجعتها خير من المراوغة" على الرد الذي كتبه حسين عبدالرازق "التجمع المصري إلى التنمية المستقلة والتعدد في الإطار الوطني" تعليقاً على مقال سابق في "الحياة" لعبدالمجيد عنوانه "أزمة اليسار العربي: برنامج حزب التجمع المصري نموذجاً" ينصح كاتبي برامج حزب التجمع، وأي حزب آخر بأن يدققوا في ما يضعونه في تلك البرامج، لأن الحياة السياسية في مصر لا تتحمل المزيد من إهدار الصدقية. نشر الردان في "الحياة" في عددي 22/9، 4/10 على التوالي. وأود أن أبدأ مداخلتي بالإشارة الى ما كتبه عبدالمجيد من أن التجمع يسار، وأن اليسار ماركسي، ومن ثم فإن التجمع ماركسي العقيدة والمرجعية بالضرورة. ولما كان عبدالمجيد يعتقد أن الماركسية في أزمة، فإنه يرتب على افتراضه السابق النتيجة الآتية: التجمع في أزمة مستحكمة لأنه لم يقم بمراجعة جادة لمرجعيته الفكرية - الماركسية. ويسلم عبدالمجيد بأن التجمع طوَّر في خطابه السياسي العملي. ولكن، لما كان هذا التطوير جرى في غيبة مراجعة نظرية للمرجعية الماركسية، فقد وضع ذلك حزب التجمع وبرامجه وشعاراته في تناقضات خطيرة. ولا يحسم هذه التناقضات في نظر عبدالمجيد سوى مراجعة الايديولوجية التي يفترض حيازة التجمع لها - أي الماركسية، مع نزع القداسة عن هذه الايديولوجية المفترضة باعتبارها فكراً إنسانياً - لا كهنوت. وعلى رغم الإيضاحات التي قدمها عبدالرازق، لم يزل عبدالمجيد على اعتقاده الراسخ بأن حزب التجمع حزب شيوعي، وأن الماركسية هي ايديولوجيته غير المعلنة، وأن كلام التجمع عن الحرية السياسية والديموقراطية هي شعاراً بلا مضمون، لأن الماركسية لا تعرف الديموقراطية، ولأنه - علاوة على ذلك - لا يوجد أي ضمان لإلتزام حزب التجمع بالحرية السياسية إذا وصل إلى السلطة ولستُ أفهم لماذا يصر عبدالمجيد على الوقوف موقف ضابط المباحث المصمم سلفاً على تلفيق "تهمة" الشيوعية أو الماركسية للتجمع، والذي يذهب في سبيل ذلك إلى التفتيش في صدور الناس، وإلى افتراض مداراتهم للحقيقة، ضارباً عرض الحائط بما يقولون وبما تنطق به وثائقهم. وكان الأحرى به أن يقف موقف القاضي الذي يكتفي بالنظر في ما بين يديه من أوراق، ويصرف النظر عما سواها، ولا يقيم من نفسه حكماً على ما تنطوي عليه الصدور، باعتبار أنه لا علم لأحد به سوى العلي القدير. لماذا يصر عبدالمجيد على أن التجمع حزب شيوعي، وأن عقيدته هي الماركسية، بينما وثائق الحزب وأدبياته المتعددة تقول بغير ذلك، وبينما عضوية الحزب وتشكيلاته القيادية تنطق بغير ذلك، وبينما حوارات الحزب حول برامجه ومواقفه المختلفة والكثير منها موثق ومنشور على الملأ تشير إلى غير ذلك؟ لم ينكر أحد أن التجمع يسار، بل هو على حد قول البرنامج العام للتجمع "أهم ممثل لليسار في مصر" كتاب الأهالي رقم 64 ص 31. ولم ينكر أحد أن التجمع يضم ماركسيين في صفوفه. ولكن الشيء الذي ننكره، والذي لا دليل عليه سوى التصورات المسبقة لعبدالمجيد، هو أن التجمع هو اليسار كله، وأن اليسار كله ذو مرجعية ماركسية. فالتجمع عناصر قومية وناصرية. ومن ثم فلا يجوز مطالبة التجمع - ولا حتى اليسار في مجموعه - بمراجعة ايديولوجية لا يملكها - لا في الظاهر ولا في الباطن - وهي الايديولوجية الماركسية. ومن باب أولى، لا يجوز مطالبة التجمع بالتوفيق بين ما يطرحه من خطاب سياسي عملي وبين المقولات الماركسية التي يرى عبدالمجيد أنها لا تستقيم مع هذا الخطاب. وثمة اعتبار مهم في التعامل مع مقولات حزب كالتجمع لم يصل الى السلطة، ومن ثم لم يتيسر قياس ممارساته الفعلية على شعاراته وإدعاءاته، ألا وهو: على أي أساس يمكن التكهن - كما فعل عبدالمجيد - بأن الحرية السياسية التي يدعو إليها التجمع هي شعار بلا مضمون من دون أي ضمان لإلتزام الحزب بها إذا وصل الى السلطة؟ وكيف تكون الحرية السياسية وقضية الديموقراطية برمتها شعاراً بلا مضمون، وأفرد البرنامج العام للتجمع حيزاً كبيراً من أجل توضيح فهمه لهذه القضايا الديموقراطية والمشاركة ص 49 - 56، ومن أجل بيان الاجراءات المحددة التي يلزم اتخاذها في مصر لتحقيق "إصلاح سياسي وترسيخ الديموقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية" ص 76 - 92، ومن أجل بيان مكانة الديموقراطية والاشتراكية ضمن الأولويات السياسية للحزب ص 64 - 68، وذلك فضلاً عن بيان العلاقة بين الديموقراطية والاشتراكية التي يدعو إليها الحزب على المدى الأطول ص 36 - 37. ولنا على ما كتبه عبدالمجيد في هذا الشأن ملاحظتان. الأولى: أن التجمع غير مسؤول عن التجارب الاشتراكية السابقة، ومن ثم فلا يمكن الحكم على ممارساته المستقبلية على أساس ما جرى في هذه التجارب. والثانية: ان التجمع دان غياب الديموقراطية في التجارب الاشتراكية السابقة، واعتبرها سبباً اساسياً في انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي ذلك يذكر البرنامج العام للتجمع بكل صراحة وشجاعة: "إن انهيار الاتحاد السوفياتي على رغم كل ما حقق من تقدم علمي وتكنولوجي وبناء صناعي وتوفير كل الخدمات الاساسية لكل الناس مجاناً، يرجع في الاساس الى غياب الديموقراطية" ص 36 -37. ورداً على اتهام عبدالمجيد بسرقة شعار الحرية السياسية من الأحزاب الليبرالية، وبالسطو على شعار "المشاركة الشعبية طريق التغيير" الذي هو "مقولة ليبرالية، لا يسارية"، لا يسعنا إلا أن نتساءل: منذ متى كانت المطالبة بالحرية السياسية حكراً على الليبراليين؟ وما علاقة الليبراليين أصلاً بمسألة المشاركة الشعبية؟ إن مقولات عبدالمجيد تنطوي على خلط جسيم بين الليبرالية بمعناها الأصيل والديموقراطية البرلمانية بصورتها الحالية المعروفة في الدول الرأسمالية المتقدمة حالياً. ولكن موقف التجمع واضح جليُّ في هذه المسائل. وحدده البرنامج العام في كلمات موجزة ص 50 - 51، حيث يذكر أن الليبرالية هي ما جاءت به الرأسمالية الغربية بعد أن قويَّ عودها واستطاعت اطاحة الطبقة الاقطاعية. ومعناها الأصيل يتمثل في ثلاثة أمور: "أولها- حماية الملكية الفردية وحق المالك في التصرف في ملكه من دون أي تدخل من الدولة، وثانيها- ألا تفرض ضريبة أو يزيد سعرها إلا بموافقة دافعي الضرائب. وثالثها - أن سلطات الأمة تتجسد في ممثليها المنتخبين الذين يقومون بسن القوانين ورقابة الحكومة. ويرى عبدالمجيد أن التنمية المستقلة التي يتمحور حولها برنامج التجمع لا تنسجم مع الحرية السياسية. لماذا؟ لأن للتنمية المستقلة مفهوماً خاصاً لدى عبدالمجيد، وهو مفهوم لا صلة له من قريب أو بعيد بمفهوم التنمية المستقلة كما طرحه التجمع في برنامجه العام على امتداد الصفحات من 47 حتى 197. فهو يحاسب التجمع لا على هذا المفهوم المحدد في برنامجه، وإنما على ما يعتبره هو شخصياً "المفهوم الأكثر شيوعاً الذي صاغته مدرسة التبعية"، والذي يقتضي - في نظره - "تعبئة كاملة ليس فقط للموارد الاقتصادية، ولكن أيضاً لفعاليات المجتمع واخضاعها لتوجيه مركزي يعني بالضرورة مصادرة استقلال المنظمات غير الحكومية وبالتالي تقويض المجتمع المدني"! كما أنه يحاسب التجمع على "التنمية المستقلة بمفهومها الماركسي بما يعنيه من تقييد لاستقلال المجتمع"! وهكذا نصطدم مرة أخرى بافتراض امتلاك التجمع لمرجعية ماركسية، وذلك على خلاف الحقيقة والواقع كما سبق لنا بيانه، وبافتراض أن الماركسية وليس فقط التطبيق السوفياتي للاشتراكية معادية للحريات على طول الخط! ولا يتسع المجال للدخول في مجالات حول الأصول الفلسفية أو العقائدية للتنمية المستقلة، ولكننا سنكتفي بتوضيح أن المقصود بالتنمية المستقلة لدى التجمع هو "حرية الإرادة الوطنية المعبر عنها ديموقراطياً في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على نحو يضمن معدلات نمو اقتصادي مطردة وتحقيق العدل في توزيع مردود ذلك النمو. وهذا مسعى لا يتحقق ويطرد تقدمه إلا في جو ديموقراطي كامل يفتح الأبواب عريضة للمشاركة الشعبية في صنع القرار والمحاسبة على تنفيذه في كل المستويات والمواقع. ومن ناحية أخرى تفترض التنمية المستقلة الاعتماد على النفس الى أقصى الحدود كمجتمع وكأفراد وكمؤسسات وسيطة. ويكمل هذا الجهد ويسهم في زيادة عوائد التنمية الاعتماد الجماعي على النفس". هذا ما يقوله البرنامج العام للتجمع ص 33 - 34" فبأي منطق يقال إن هذا المفهوم للتنمية المستقلة يخاصم الحرية السياسية، ويفترض نظام الحزب الواحد الذي احتكر السلطة والموارد الاقتصادية، وتهيمن فيه الدولة على المجتمع - كما يزعم عبدالمجيد؟! وأخيراً فإن عبدالمجيد رتّب على تصوره لعجز التجمع عن القيام بالواجب المقدس الذي افترضه هو، أي "مراجعة المرجعية الايديولوجية للتجمع" نتيجة عجيبة، ألا وهي أن التجمع وصحيفة "الأهالي" وجدا لهما دوراً بديلاً. وهذا الدور هو التحول إلى أداة لإثارة "فتنة طائفية بغيضة"، وذلك "بتضخيم مشكلات الأقباط" من جهة، و"محاربة الإسلام السياسي الذي اعتبرته الحكومة في مصر مصدر الخطر بعد انهيار الشيوعية" من جهة أخرى. وهكذا استطاع خيال عبدالمجيد الخصب أن يحول حزب التجمع ذا التاريخ النضالي الناصع، حزباً عميلاً للحكومة يقبض منها المكافآت والعطايا. ولم يدر بخلد عبدالمجيد أن يتساءل: وكيف يتأتى لحزب يعلن في برنامجه العام ص 90 - 91 رفضه للدولة الدينية وتمسكه بالدولة والمجتمع المدني الديموقراطي، والتزامه شعار "الدين لله، والوطن للجميع"، ألا يدافع عن "حقوق المواطنة لجميع المواطنين والمساواة بينهم بصرف النظر عن الجنس والدين والعقيدة واللون"، وألا يرفض "تقسيم المصريين على أسس دينية"، وألا يؤكد على "ضمان حقوق متكافئة للمسيحيين سواء في بناء وإصلاح دور العبادة أو تولي الوظائف العامة"؟! ولو كان حزب التجمع سكت عن هذه المطالب التي يجأر الأقباط بالشكوى من إهمال الحكومة لها، ألم يكن عبدالمجيد سيعتبر ذلك من قبيل التناقض المنطقي في برنامج التجمع - وهو الأمر الذي يُعنى عناية خاصة بالكشف عنه؟! * عضو اللجنتين المركزية والاقتصادية في حزب التجمع المصري