لا شك في ان العقد الاخير شهد مراجعات جذرية على الصعيد العالمي بشأن العديد من الامور التي كان بعضها يتم التعامل معه من قبيل المسلّمات والبعض الآخر بقي في مكانه عقوداً طويلة الى ان اصابه الجمود وربما تعاملنا معه على انه من الثوابت التي لا يمكن المساس بها. وان كانت هذه المراجعات شملت الميادين الفكرية والسياسية والاستراتيجية والاقتصادية، فان ما يعنينا هنا هو ما يتصل بالنتائج المترتبة على انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وانحسار الاشتراكية - طبقاً لتعريفها الماركسي اللينيني - عنه وعن دول شرق ووسط اوروبا وبدء عملية واسعة للمراجعة النقد على المستوى الايديولوجي لم تقتصر على التجربة والنموذج السوفياتيين فقط بل امتدت لتشمل مجموع مفهوم "اليسار" الى الحد الذي تحدث البعض معه عن "نهاية التاريخ" والانتصار النهائي للنموذج "الليبرالي" الغربي، وغير ذلك من مقولات خلطت بين رغبات قائليها والواقع المعاش في عالمنا اليوم. والواقع ان التطورات على الصعيد العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى الآن تدفع باتجاه قراءة متأنية ومتعمقة في آن واحد لمفهوم "اليسار" لا تقتصر على المنظور التاريخي فقط - وان كانت تستفيد منه بالضرورة - وصولاً الى اعادة بناء هذا المفهوم وتحديد مكوناته الاساسية من منطلق التعاطي مع الوقائع الجارية من حولنا، واخذاً في الاعتبار القيم الانسانية العامة والثابتة التي تضع حدود هذا المفهوم، ومن دون تجاهل للتباينات بين مختلف الثقافات والنظم الاجتماعية وانماط التطور التاريخي ما بين شعب وآخر ومنطقة جغرافية واخرى. ونرى ان ما اطلق عليه "طرح الطريق الثالث" والذي برز بقوة خلال السنوات القليلة الماضية على المستوى الفكري، خصوصاً منذ تولي توني بلير زعامة حزب العمال البريطاني، ومنذ سعت شخصيات في الحزب الديموقراطي بالولايات المتحدة الى البحث عن توجه فكري يميز الحزب ويمنح برنامجه نوعاً من التأصيل الايديولوجي، بالاضافة الى حصول الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية على الاغلبية البرلمانية في معظم الدول الاوروبية على المستوى السياسي، زاد من ضرورة اجراء هذه المراجعة المطلوبة لتعريف مفهوم اليسار. ف"الطريق الثالث" يعني بوضوح طريقاً مستقلاً عن اليسار واليمين، ويتحرك بأحزاب جرت تسميتها لفترة طويلة بأنها "يسار الوسط" الى الوسط، وربما ينتهي الامر بانتقال الدول الاشتراكية ذاتها الى هذا الوسط او استبدالها بإطار مؤسسي جديد يجسد هذا النزوع نحو وسط الساحة الفكرية والسياسية. الا ان الاعتبارات التي تدفع باتجاه المراجعة تلك لا تقتصر على دول المركز اي اوروبا واميركا الشمالية بل هي تمتد بالضرورة الى بلدان العالم الثالث التي انهارت فيها الغالبية الساحقة من التجارب التي كانت تعلن اتباع النموذج الماركسي/ اللينيني، وبقيت فقط تلك الحالات التي كانت الاحزاب الشيوعية فيها راسخة في جذور مجتمعاتها للعبها دوراً في تحرير بلدانها وانجاز مهمات الاستقلال الوطني او انهاء التبعية. وحتى في هذه الحالات، فان بعض هذه الاحزاب الشيوعية صارت تقود بذاتها عملية تحول واسعة باتجاه الرأسمالية في بلدانها على الصعيد الاقتصادي مع محاولة ضبط التداعيات السياسية والاجتماعية لهذه التحولات. وعلى المستوى الفكري، فان الكثير من مثقفي وتكنوقراط البلدان النامية تحولوا الى مواقع فكرية اخرى بعيداً عن اليسار بمعناه التقليدي، سواء كان ذلك باتجاه التيارات الاشتراكية الديموقراطية، او الليبرالية او حتى الدينية. ومن المهم ان نشير ايضاً في هذا السياق الى ان الاحزاب والقوى الفكرية والسياسية التي بقيت على انتمائها لليسار انقسمت ما بين من تمسكوا بالمواقف التقليدية لليسار وبين من سعوا الى احداث عملية تجديد ولكن داخل الحدود العامة لليسار بمعناه التقليدي، مع التأكيد على ابراز قبول اليسار - فكرياً وليس فقط سياسياً - لقيم التعددية والديموقراطية بمفهومها الليبرالي. وعلى الجانب الآخر، فإن ما اعتبر هزيمة للنموذج السوفياتي اعطى دفعة للتيارات التروتسكية - وبدرجة اقل الماوية - في صفوف معسكر اليسار خصوصاً في اوروبا الغربية كما بدا واضحاً في حالتي ايطاليا وسويسرا وزاد من الوزن النسبي لهذه التيارات داخل هذا المعسكر. ولا جدال في ان الاتجاه لاعادة تعريف مفهوم اليسار سابق على سقوط النموذج السوفياتي. فهو يعود تاريخياً الى احداث 1968 في اوروبا التي تزامنت مع الغزو السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا حينذاك، كما انه تعاظم في ظل تصاعد قوة احزاب وجماعات الخضر الدفاع عن البيئة في بلدان اوروبا الغربية بدءاً من عقد السبعينات وبداية البحث عن المضمون الاجتماعي والانعكاسات الاقتصادية لبرامج تلك الاحزاب. كذلك فان ظهور لاهوت التحرير في اطار الكنيسة الكاثوليكية والدور السياسي المهم الذي لعبه في دول اميركا اللاتينية والوسطى في عقدي السبعينات والثمانينات وامتداد تأثيره الى بعض رجال الدين في اوروبا، وحدوث بعض المحاولات لصياغة اطروحات تقدمية في اطار الفكر الاسلامي في عدد من البلدان الاسلامية على فترات متفاوتة ومتقطعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كلها تطورات اكدت الحاجة لاجراء عملية المراجعة تلك والسعي الى اعادة تعريف مفهوم "اليسار". على ان النقطة الفاصلة تبقى بلا شك هي انهيار الاتحاد السوفياتي وانحسار الحكم الشيوعي عنه وعن بقية دول شرق اوروبا ووسطها. ولئن كان البعض يراهن على ان بديل اليسار التقليدي سيكون خليطاً من الافكار الليبرالية وتلك النابعة من الاشتراكية الديموقراطية، بينما يرى آخرون انهيار النموذج السوفياتي كان نعمة - وليس نقمة - لليسار لأنه خلص اليسار من وصمة الشمولية التي كان ينعته بها خصومه مشيرين الى الحالة السوفياتية من جهة ومن "وصاية" الاخ الاكبر ممثلاً في الحزب الشيوعي السوفياتي من جهة اخرى، فاننا نرى ان هناك عدداً من المعطيات الاساسية التي سيتعين اخذها في الاعتبار عند اعادة تعريف مفهوم اليسار. فعلى المستوى الفعلي - وأُسوة بما تم مع جماعات الخضر في عقد السبعينات - فان عقد التسعينات افرز جماعات وتيارات جديدة خاصة بحماية حقوق الانسان والدفاع عن الجماعات المهمشة والاكثر ضعفاً في المجتمع مثل النساء والاطفال والشيوخ، وتبنت دعوة للقضاء على الفقر والبطالة ومفاهيم التنمية المحلية في الريف والحضر والمشاركة في تنمية وادارة المجتمعات، من دون ان ننسى جماعات الدفاع عن الاقليات اياً كان اساس تعريفها، وكذلك الحديث المتزايد عن الحقوق الاجتماعية والثقافية - وليس فقط القانونية والمدنية والسياسية - وجماعات الدفاع عن اللاجئين والمهاجرين ونصرة حقوقهم ومطالبهم. ولا يعني هذا انكار ان بعض هذه الدعوات والجماعات تحركها مصالح واهداف سياسية - لا تخلو احياناً من اضمار النوايا السيئة - لدول وقوى بعينها، وانما نركز هنا على تلك المنظمات والهيئات التي تدعو لهذه القضايا وتتبناها عن قناعة ورغبة في اصلاح الاحوال بشكل ايجابي. وعلى المستوى الفكري فإن قيم العدالة والحرية والتعددية وتكافؤ الفرص والحدود الدنيا لمستويات الدخل والمعيشة والبنية الاساسية والاجتماعية والثقافية من علاج وخدمات وتعليم صارت مفتوحة لتأويلات مختلفة وتفسيرات متباينة، واصبح تحديد المصلحة المحددة لكل تفسير وتأويل هو معيار الحكم على اي منها ان كان ينتمي لليسار او اليمين او الوسط. كما ان ما كان من محرّمات تابو بالنسبة الى كل من يتبع اليسار في الماضي لم يعد يصلح لأن يكون كذلك الآن. واثبات المصداقية في الدعوة للتعددية والانفتاح الثقافي والفكري ونبذ التعصب والاضطهاد وتبني نهج الحوار والديموقراطية لا تصلح لان تكون مطالب موجهة للغير فقط، من دون ان تمارس في صفوف الداعين اليها. لقد اثبتت تجارب الماضي ان تحقيق العدالة بمعزل عن الحرية هو امر صعب المنال - وفي افضل الظروف موقت - كما اثبتت ان اياً من القيم والمطالب العامة التي يحملها اليسار لا يتحقق بعيداً عن اطر مؤسسية تأخذ في الاعتبار احتياجات الشعوب وظروفها وخصوصياتها ومراحل تطورها. ويبقى ان النظر الى المستقبل مرهون بالاستفادة من قراءة الماضي واستيعاب واقع الحاضر. * كاتب وباحث مصري.