انتهج حسين عبدالرازق، في مقالته المنشورة في "افكار" 4/10/2000 "التجمع المصري إلى التنمية المستقلة والتعدد في الإطار الوطني"، اسلوباً جديداً عليه في الرد على مقالتي المنشورة في 22/9/2000، فهو يرد على ما لم أقله، فيما لا يرد على ما قلته. فهذا اسلوب يلجأ إليه من يهرب من مناقشة قضية يدرك ضعف موقفه فيها، أو من يسعى إلى المراوغة ما وسعته الحيلة ولم أعهد عبدالرازق من هؤلاء أو أولئك. ولذلك عجبت عندما جاء رده على مقالتي بهذا الاسلوب. فقد هرب من مناقشة القضية التي طرحتها في مقالتي، وهي التعارض بين المرجعية الماركسية التي تقوم على الاحادية والصراع الدموي ورفض الآخر وبين الديموقراطية التي تبنى على التعددية والتنافس السلمي واحترام الآخر. ولم يرد على ما أثرته عن أن معظم اليسار العربي عموماً، وحزب التجمع المصري خصوصاً، لم يهتم بإجراء مراجعة جادة لمرجعيته الأساسية، بخلاف ما طالب به وسبق إليه شيوعيون بارزون في العالم مثل الإيطالي تولياتي منذ السبعينات. وفي المقابل، خصص عبدالرازق نحو ثلثي مقالته ليرد على ما لم أقله عندما سعى إلى اثبات أن حزب التجمع العلني ليس هو الحزب الشيوعي السري، علماً أن هذا ما قلته بوضوح تام في مقالتي. فقد أشرتُ الى اعتقاد شائع في أن التجمع ليس إلا الواجهة العلنية للحزب الشيوعي. وأوضحت عدم صحة هذا الاعتقاد لأن هناك تمايزاً تنظيمياً بين الحزبين. ولذلك لم يكن كاتب الرد يحتاج إلى الجهد الذي بذله، ولا إلى الاستعانة برواية يعرف جيداً أنها من "حكاوي القهاوي". وهي الرواية التي تتهم اليساري الراحل العظيم عبدالرحمن الشرقاوي بأنه كان عميلاً للرئيس السادات لمجرد أنه اختلف مع قيادة حزب التجمع. وشدَّ ما أحزنني أن يردد عبدالرازق بالذات مثل هذه الروايات المسيئة لرموز فكرية ونضالية كبيرة في تاريخنا الوطني. والمهم أن عبدالرازق لم يكن في حاجة الى أن يتورط في مثل هذه الإساءة كي يدفع عن حزب التجمع ما يصور أنه اتهام له اذا كان يعتبر الماركسية تهمة تقتضي كل هذا الجهد لردها! والحق الذي أشهد به مرة أخرى أن التجمع ليس هو الحزب الشيوعي. ولكن الحق أيضاً أن هناك علاقة وثيقة بين الحزبين يعرفها عبدالرازق جيداً لأسباب يدركها هو شخصياً ربما أكثر مما أتبين تفاصيلها الدقيقة. والحق أيضاً أن هذه العلاقة رتبت منذ البداية هيمنة للشيوعيين ومرجعيتهم الايديولوجية على حزب التجمع. وقال ذلك وكتبه ناصريون ساهموا في تأسيس حزب التجمع ثم خرجوا منه، وقوميون مستقلون تركوه عندما أدركوا استحالة أن يكون هناك تعدد في المرجعيات داخل الحزب نفسه. ويعرف عبدالرازق تفاصيل كل ذلك وغيره مما جعل الماركسية هي ايديولوجية حزب التجمع غير المعلنة والشيوعيين غالبية في قيادته وكوادره وقواعده. كل ذلك من نافل القول الذي لا أحب أن استطرد فيه. فلم أتطرق اليه في مقالتي السابقة، ومع ذلك أصر كاتب الرد على إثارته كي يتجنب التعليق على ما طرحته في شأن ضرورة اجراء مراجعة لمرجعية حزب التجمع اذا أراد أن يكون حزباً ديموقراطياً ويُفلت من أزمته الراهنة المستحكمة. وهذه دعوة مخلصة تنطلق من حرص حقيقي على دور لليسار، فقد أدى العجز عن مراجعة المرجعية الايديولوجية الى انزلاق الحزب في مسارات لا نرضاها له. وكان اخطرها حتى الآن المسار الطائفي الذي مضى فيه خلال العامين الأخيرين اللذين تحولت صحيفته فيهما الى احدى أدوات مستخدمة في إثارة فتنة طائفية بغيضة كان اليسار تاريخياً في صفوف من يرفضونها. غير أن انهيار الشيوعية دفع الحزب الى البحث عن أي دور بدلاً من أن يطور مرجعيته ويتطور إلى حزب اشتراكي ديموقراطي. ووجد الحزب دوراً سهلاً في محاربة الإسلام السياسي الذي اعتبرته الحكومة في مصر مصدر الخطر بعد انهيار الشيوعية. وأتاح له تصاعد العنف الديني في منتصف التسعينات، أي في ذروة أزمة التجمع، أن يمضي قدماً في دوره الجديد الذي يؤمن له مكافآت حكومية ما زال يحصل عليها حتى الآن. ولكن عندما تراجع العنف وهُزم، بات دور حزب التجمع هذا مهدداً بالاندثار. فاختار أن يجدده من خلال محاولة تضخيم مشكلات الأقباط ليحصل على شعبية زائفة في بعض أوساطهم، بما ينطوي عليه ذلك من اثارة فتنة طائفية. وعلى رغم انه تجاوز خطوطاً حمراً بأكثر مما فعل مثلاً حزب العمل الذي تم تجميد نشاطه أخيراً، فقد شفع له لدى الحكومة دوره المتابع في مواجهة الإسلام السياسي. وهو دور تسدد الحكومة حتى الآن فواتيره، في الوقت الذي تكتفي بتحذير حزب التجمع من مغبة الطائفية المقيتة التي تردى فيها وظهرت سافرة إبان مشكلة قرية الكشح الشهيرة في آب اغسطس 1998، والتي حاول البعض تجديدها في شباط فبراير 2000، ووصل الأمر إلى حد أن نشرت صحيفة حزب التجمع رسوماً كاريكاتيرية على صفحة كاملة ترمز إلى اضطهاد مزعوم للأقباط وينطوي بعضها على تهكم على مقدسات المسلمين! وكل ذلك لأن الحزب لم يمتلك شجاعة مراجعة مرجعيته الفكرية وتطوير دوره كحزب يبحث عن العدل الاجتماعي لا عن فتنة طائفية. وظلت مرجعيته مصدراً لبرامجه وآخرها البرنامج الانتخابي الحالي الذي بُني على مقولة التنمية المستقلة التي انتجتها احدى مدارس الماركسية. وهي مقولة لا تستقيم إلا في ظل نظام حزب واحد يحتكر السلطة والموارد الاقتصادية وتهيمن فيه الدولة على المجتمع. وبدلاً من أن يناقش عبدالرازق نقدي لهذه المقولة التي لم تحقق تنمية ولا استقلالاً في أي بلد أخذ بها بل أضعفت الاقتصادات الوطنية، إذ به يقفز الى ان البديل الوحيد عنها هو النموذج الاميركي للعولمة. وهذه خفة لم أكن اتوقعها منه واختزال شديد لا يعرفه إلا العقل المغلق على الأبيض والاسود. وكان عبدالرازق، ولا يزال، أحد اكثر اليساريين العرب انفتاحاً ورفضاً للانغلاق. ولا بد من أن يعرف أن نظرية التنمية المستقلة هدفت إلى فك الارتباط مع النظام الاقتصادي العالمي، وليس الى الانفتاح عليه. ولذلك عجبت لقوله: إن هذه التنمية تقوم على الانفتاح على النظام الاقتصادي العالمي في ظل العولمة علماً أنها نظرية سابقة على العولمة بطابعها الراهن. ولا أجد تفسيراً لذلك إلا اهمال المراجعة الفكرية، الأمر الذي يقود الى استخدام مقولات قديمة في غير محلها، أو إلباسها مضامين ليست لها. فالمراجعة الفكرية هي التي تتيح تجديد المقولات القديمة من خلال جهد نظري خلاق، بدلاً من محاولة إلباس القديم ثوباً جديداً اليوم ثم نزعه عنه غداً. وهذا أخطر ما في الأمر، لأن إلباس المرجعية الشمولية القديمة ثوباً ديموقراطياً فضفاضاً - من دون اعادة النظر في مضمون تلك المرجعية وركائزها - يمكن أن يؤدي إلى نزع الثوب الديموقراطي في أي وقت. والطريف أن هذا هو ما يقوله اليسار عن تيارات الإسلام السياسي، والأجدر أن يقوله لنفسه أيضاً إذا أراد أن تكون له صدقية وأن ينسى الناس مذابح الشيوعية من ستالين إلى الخمير الحمر. وهذا ما أود إعادة تأكيده هنا نصحاً مخلصاً للديموقراطيين من أهل اليسار. فعليهم الالتفات إلى أهمية المراجعة النظرية. فالمراوغة في هذا المجال لا تفيد اليسار بل تلحق به أبلغ الضرر. والماركسية ليست مرضاً كي يحاول عبدالرازق اثبات ان حزبه لم يصب به أبداً. انها فكر إنساني نختلف عليه أو نتفق، وكل فكر إنساني يحتاج إلى مراجعة كي لا يتحول إلى كهنوت. وقد جعل السوفيات الماركسية مقدسة فانهاروا بها ومعها. وواجب اليسار الديموقراطي أن يحررها من القدسية بدلاً من أن يتبرأ منها. وجزء من هذا التحرير هو الكف عن تقديس القطاع العام الذي ثبت أنه اداة الدولة في استغلال الشعب. وتبنى برنامج التجمع ضمنياً مبدأ التأميم عندما قام اساساً على استعادة قيادة القطاع العام لعملية التنمية. ويقول عبدالرازق إن التأميم لم يرد في البرنامج نصاً ولكنه واضح تماماً ضمنياً لأن القطاع العام لا يقدم الآن أكثر من 25 في المئة من الناتج المحلي. ولذلك لا يمكن اعادته الى قيادة التنمية إلا بتأميم جزء كبير من القطاع الخاص. أما مقولة ان المسؤولين الحكوميين في مصر اكدوا عزمهم على بيع البنوك العامة، فهذا خطأ في معلوماته عليه أن يدققه. فلم نقرأ شيئاً عن ذلك إلا في صحيفة حزبه التي يعرف هو شخصياً مدى تدهورها السياسي والمهني في العامين الاخيرين. وهو يعرف ذلك اكثر من غيره لأن هذه الصحيفة شهدت مجدها عندما تولى رئاسة تحريرها وكان معه صلاح عيسى مديراً للتحرير، قبل أن ينقلب عليها أعداء الديموقراطية في حزب التجمع ويروجون عنها اشاعات كاذبة وروايات مسيئة، وهما اللذان كانا وما زالا فخراً لليسار الديموقراطي في كل مكان. وعلى رغم أن هذا ليس شأني، أحب أن اطمئن عبدالرازق بحكم معرفتي بمسار الاقتصاد المصري الى أن بيع البنوك العامة وقناة السويس ليس مطروحاً، وأن أقصى ما يمكن الذهاب إليه في اصلاح البنوك هو بيع جزئي لواحد فقط من البنوك العامة الأربعة. وليت كاتبي برامج حزب التجمع، وأي حزب آخر، يدققون بعد ذلك في ما يضعونه في برامج أحزابهم لأن الحياة السياسية في مصر لا تتحمل المزيد من إهدار الصدقية. واعتقد أن حسين عبدالرازق يوافقني على ذلك من حيث المبدأ على الأقل. * كاتب مصري، مساعد مدير مركز "الاهرام" للدراسات السياسية والاستراتيجية.