الموت التلفزيوني الذي ماته الطفل محمد الدرّة مئات المرّات أمام ملايين المشاهدين في جميع أطراف العالم، صادر نفسه في لحظة حدوثه - ليس فقط لأن هذا الطفل، بعد أن استُنسخت مأساته وفقاً لقواعد الاستبذال الاعلامي، لم يعد له الحق حتى بامتلاك لحظة موته ناهيك بامتلاك أي شيء آخر، بل لأننا رأينا في لحظة موته ما أرادت عيوننا أن تراه، وليس ما كان، ربما، يحدث بالفعل. وما أرادت عيوننا أن تراه، من دون أن تبصره، هو الموت المجازي، إذ لا حقَّ للأطفال في فلسطين بأن يلاقوا حتفهم خارج الرمز. فالسبيل الى الدولة، إذا أمسى استرجاع الوطن في حكم المستحيل العرفاتي، لا بد إلا أن يكون معمّداً بالموت. والموت الفلسطيني، منذ الانتفاضة الأولى، هو موت مُشَهْدَن، عرس تطلق فيه الزغاريد لإيقاف الدموع المأتميّة في المحاجر، وتقدّم فيه التهاني بدل التعازي، ويلفَّع فيه الجثمان بالعلَم لإخراجه من حيّز الأم إلى حيّز الأمّة. يخرج الطفل الجائع من بؤس بيته وبؤس مدرسته في المخيّم الذي لا تصله أموال المساعدات الأوروبية إلاّ بالخطأ، بعد مرورها في جيوب "السلطة" وقد أثقلت عظم كاهليه البارز، دون أوانه، أعباء الكبار. والكبار ينتمون الى جيل كُبرى مآسيه أن الاحتلال الاسرائيلي لوّث مياهه الجوفية بالعنف، فأصبح "الموت في سبيل الوطن" بالنسبة إليه كشربة الماء. و"الموت في سبيل الوطن" هو اللعبة الدموية التي تلهي "العامّة" عن فضائح "الخاصّة" بعدما باعت هذه الأخيرة، في أوسلو، الوطن والدولة والذاكرة والتاريخ، من دون أن يطرف لها جفن. إذ لا أجفان لعيونها، ولا دموع تدرّ بها على محمّد الدرة، الطفل الذي لم يدر بأن عين القنّاص الاسرائيلي الجليدية تقرأ على أضلاعه نص صحيفة المُتلمّس، بأحرف عربيّة. مصرع محمد الدرة يجب ألا يؤيقَن، بل يجب أن يفتح باب الإبصار على مصراعيه، من دون الدخول من قريب أو بعيد في باب تحميل الضحية جريرة موتها. إذ لا نقاش حول الأمر البدَهيّ: الشخص الذي أطلق النار على محمد الدرّة هو مجرم حرب يدعى إيهود باراك. هذا أمر مفروغ منه. ولكن المشهد التلفزيوني المقضّ للمضاجع يحمل دلالات أخرى. أوّل ما تبادر الى ذهني حين رأيت المشهد للمرة الأولى كان خاطراً سارعت الى استبعاده، لكنّه ألحّ عليّ وأبى أن يفارقني في المرّات التالية، حين استعدت المشهد إطاراً بعد إطار، على رغم تعاطفي الذي لا حدود له مع الأب المفجوع. "أقرأ" إيقونوغرافيا المشهد، إذا كان يمكن هذا المشهد أن يُقرأ، من اليسار الى اليمين، خلافاً للرؤية العربية الأبوية السائدة، وأقرأ لغة الجسد، فيكون تعاطفي مع محمد، وأكون أنا، للحظة منهوبة، ذلك المحمد. فأراني أحاول أن أختبئ داخل جسد أبي، داخل ملجأ الابوّة الحميم، ليحميني من الرصاص، ولكن أبي مشغول بحماية نفسه، فلا يمنحني غير ظهره وغير يد مترددة. أنا أريد أن يعيدني الى صلبه، وهو يكتفي بمنحي ظهره ويده المترددة. وأنا أعلم، في لحظات الهلع الجحيمية، انه هو أيضاً خائف مثلي. ولكني الصغير الأعزل في هذه المعادلة القاتلة، وهو الكبير صاحب الكنفَين. ولا أرى سكيناً في يده، ولا أرى كفناً، ولكني أود أن أصرخ: أنا إسماعيل يا أبي! هذا ما يحدث اليوم في فلسطين: دولة افتراضية تسوق بأطفالها الحقيقيين الى حتفهم، وقد أقنعتهم بأن العين تستطيع محاربة المخرز، وأن الحجارة تستطيع محاربة البنادق، وأن هتافات "بالروح، بالدمّ..." تستطيع إسقاط المروحيّات. وفي هذه الأثناء، وفي طريقه من "مؤتمر قمّة" آخر من المؤتمرات التي أوصلتنا الى الحضيض، يعيد ال"تشيرمان" ويؤكد لنا بأن الدولة آتية لا محالة... دولة بلا أطفال.