أصدر الكاتب المصري اسامة أنور عكاشة روايته الثانية "منخفض الهند الموسمي" دار التحرير بعدما بلغت أعماله الدرامية المقدمة في مسلسلات تلفزيونية قرابة ثلاثين عملاً، تمثل الركيزة الأساسية للدراما المرئية في العالم العربي، حتى يمكن اعتباره في هذا الفن الجديد العديل المناظر لنجيب محفوظ في الرواية. لعل عشق عكاشة للكتابة المقروءة قديم، فهو بدأ ينشر قصصه القصيرة من بداية الستينات حتى تفرغ لكتابة السيناريو الدرامي خلال الربع الأخير من القرن العشرين بأكمله، وها هو يعاود تجربة كتابة الرواية في مغامرة طريفة، يحكي كيفية التورط فيها - بعفوية شديدة - في المقدمة الفورية التي سجلها لروايته، حيث وقع فريسة مأزق صحافي لجريدة "الجمهورية" المصرية، إذ أعلنت من دون اتفاق دقيق عن نشر عمل روائي جديد له قبل أن يكتبه. وبدلاً من أن تأخذه العزة وينتقم بالرفض ممن ورطه، قرر أن يتحدى نفسه، ويكتب ما تاقت روحه إلى إنجازه منذ فترة طويلة لكنه يترك انطباعاً خفيفاً بمسحة من التعجّل، تلقي بظلها على هذا العمل المثير، على رغم مما يتراءى فيه من دلائل النضج الفني، والاقتدار التعبيري، والموهبة في رسم الشخوص والمواقف، بضربات ماهرة ليد صناع، تعرف كيف تصنع القوالب الإبداعية، وترسم القسمات الحيوية، وتجسد الأفكار والمشاعر في ملامح محسوسة ملونة. يعرف عكاشة كيف ينحت بالكلمات الساخنة وجوها ومشاهد شديدة التبلور والوضوح، مفيداً من خبرته العالية في كتابة السيناريو الدرامي، فيدخل على الرواية تقنيات مهجنة، في التقسيم والتوزيع، في تحديد المنظور المتحرك وتكييف اللغة الواصفة، في لعبة التعبير بالكادر واللقطة والمشهد بعد ترجمتها إلى جمل وفقرات. لكن المفارقة الطريفة أنه بقدر ما استثمر من هذه التقنيات الدرامية اجتهد في تشكيل المناطق والتجارب التي لا تستطيع الدراما التلفزيونية أن تصل إليها في الشروط الراهنة. ومع أن عكاشة يعتمد على تقنية مألوفة في تقديم فصول هذه الرواية، بوضع عناوين رئيسة لها، غير أنه يمزجها ببعض الأساليب المستخدمة في السيناريو. فهو اعتاد إعداد "ملفات" خاصة بالشخصيات، تتجمع فيها أوصافهم وتاريخهم، مما لا تظهر مادته في صلب الكتابة. لكنه يظل السند المرجعي لكل ما تفعله الشخصية أو تقوله. فالفصول الأولى من الرواية تحمل أسماء الأشخاص، وتمس المناطق الحميمة الخاصة في تكوينهم النفسي والجسدي، واللحظات الحاسمة المترسبة في أعماق ذاكرتهم، مثل "حمادة غزلان" القواد المحترف، و"سيد العجاتي" الضابط المطارد له، و"شاهندة" زوجة الضابط وغيرهم... من دون أن تخلو هذه الفصول في طبيعة الحال من الأحداث المتسربة من ثوبها، والمتراسلة مع بعضها في معظم الأحيان، أي أن عملية التقديم ليست سردية، بل هي أشبه بالتوثيق الحي، والتاريخ المكثف المشاهد، ثم تأتي الفصول الباقية لتطلق العنان لأهم الوقائع الجامعة لحركة هذه الشخوص والمحددة لمصيرها. لكن هناك سمتين أساسيتين تحددان لون هذه الكتابة الروائية المضمخة بعطر الأدب المنظور وتقنياته في الرصد وهما: - اشتمال كل فصل على عدد من العناوين الفرعية، تحدد مذاقه وأفقه، وتوجه القارئ بسهولة للعثور على بؤرة دلالته. مثلما نجد في الفصل الأول من علمات "فجر مخنوق" "مونولوج خارجي" "صور شخصية" إلخ. ولا تقف أهمية هذا التوزيع على ترجمة المؤشرات في الكتابة الدرامية إلى نظائرها السردية، بل تقدم لوناً من الحركات، تنتقل باللغة من حال الاستقرار الوصفي المعتاد في السرد إلى التناوب، وتغيير الموقع، وقطع التواصل، والتقريب والتبعيد، والتبئير الذي تقوم به الكاميرا في الفعل الدرامي المنفذ للسيناريو، مستبعدة عمليات الاستطراد والتداعي المعهودة في الكتابة الروائية" أي أنها توظف أسلوباً جديداً يمتص تقنيات الكتابة والإخراج معاً، ويعهد بهما إلى لغة حركية مازجة، شديدة الحيوية والنضرة. - أما الأمر الثاني فهو من أكثر خصائص لغة السيناريو تجسيداً لشعريته البصرية، حيث يكتب للتنفيذ العملي لا للقراءة، مما يجعله يستمد كينونته الإبداعية، ويبني تقنياته الفنية على أساس نجاعته في التمثيل البصري للشخوص والأشكال، حيث يمكنك دائماً أن ترى كل منظر وأنت تكتبه. كل هذا يجعل سمته اللغوية البارزة أنه يكتب دائماً بصيغة فعل المضارع، لا مجال فيه للماضي إلا في أضيق الحدود، كما أن احتمالات المستقبل فيه مضمرة إلى أقصى درجة. الطابع العياني للمشهد الدرامي ينجم عن الكتابة بفعل المضارع الحاضر. وهذا ما يتجلى في رواية عكاشة بوضوح عجيب، حيث يستعيد فيها الكاتب قدراته على الإبداع القصصي، فيطعم هذا الإبداع بعناصر مهجنة يستقطرها من تجربته الفنية في عالم الدراما، إذ ليس بوسعه أن ينخلع من جمالياتها، ولا أن ينحى جانباً ما اكتشفه فيها من طبقات في النغم وأساليب في التعبير، لقد صنع عكاشة لغة بصرية متميزة، تضفي على كتابته الروائية حضوراً متوهجاً في الزمن الراهن، وألوانا ناطقة بأشكال الحياة الفورية. حتى وهو يكتب ما يعتبر ماضياً لا يتخلى عن راهنية المضارع" يقول مثلاً في فصل "سيد العجاتي" بعنوان "تاريخ حالة": "جبين الطفل يلسع الكف التي تستطلع الحرارة، والسعال يمزق رئتيه، وقلب الست أم ممدوح ليلتها ثارت على الطبيب حين أمر بتكرار المضاد الحيوي: - يا شيخ روح، أي كلية طب هذه التي أعطتك الشهادة! لم يغضب الدكتور بدير ولم ينزعج، فهو طبيب العائلة وهو يعرف الست أم ممدوح جيداً، وقد تعود على غضبها الدائم الذي تضعه كالقناع وتخفي وراءه أرق المشاعر". إن حيوية المضارعة تلتحم في مثل هذا المشهد بحيوية الحوار لتجعل الكتابة الروائية فعلاً منظوراً بقدر ما هو حواري في الزمن والشخوص والحركة والإيقاع الشعري الكلي في بحثه عن الجذور. حالات سيد العجاتي هذا نموذج يشبع به الكاتب توقه لاقتحام العوالم التي لا يستطيع فضحها على الشاشة الصغيرة، لأن نسبة المحرمات في تناول بعض الفئات بالنقد والتحليل عالية، فزعماء التاريخ المشهورون - خاصة القريب منه - ممنوعون من التداول والصرف في حساب هذا الإعلام المدجن الذي يخشى فيه الساسة من منافسة الأشباح لهم واستقطاب حب المشاهدين المحجوب عنهم، وعقد المقارنات العادلة معهم. مما يحرم الدراما التلفزيونية من مقاربة طبقات السلطة من جيش وشرطة، تفادياً لإسقاط حنق الشعب على المؤسسة العسكرية، أو المساس برموزها الواضحة، وهذا ما يدخره عكاشة للكتابة الروائية، حيث يقدم نموذج هذا الضابط الجموح الذي كان وديعاً في طفولته ثم لم يلبث أن دخل كلية جعلت منه "كلب سلطة" على حد تعبير أخيه: "نزعوا قلب الإنسان من جوفه وزرعوا بدله جزمة ميري" فهو لا يتورع عن الولوغ في الدم وتعذيب ضحاياه بإدخال العصا في دبرهم، وعندما يندفع كالمجنون في مطاردتهم ينتهك حرمة البيوت وهو يعرف أن ذلك خطأ يعاقب عليه القانون الذي يزعم تنفيذه" يخترق مثلاً شقة غريمه "حمادة غزلان" ليصل بزوجته التي تفوح منها رائحة الشهوة إلى لحظة الاستسلام له ثم يصفعها على خدها ويخرج، ليعرض على زوجها صفقة "يحل فيها عن سمائه" في مقابل إخباره بهوية المرأة الأخرى التي رآها يوماً تدلف الى سيارته من دون أن يتحقق من وجهها" الضابط يكاد يقتله الشك في زوجته ذاتها نظراً لعقمه وقصوره عن الإنجاب، ويظن ان غريمه يعبث بشرفه. هذا اللون من السلوك المرضي الذي يصيب بعض ممثلي السلطة بالعمى يحيلهم إلى طغاة مستهترين مولعين بالتدمير. وتلك المشاهد الشبقية المفعمة بنار الشهوة والألفاظ الجارحة التي تستخدم في الاشارة إليها محرمات لا يستطيع عكاشة أن يقربها في كتاباته الدرامية المعروضة. من هنا فإنه يمارس درجة أعلى من حرية الإبداع في الرواية المقروءة، حيث يطلق لخياله العنان في استحضار المواقف الملتهبة والتعبير عنها بسخونة حارقة. فكرة النموذج وإذا كانت فكرة النموذج هي سر إبداع أسامة أنور عكاشة في أعماله الدرامية أولاً، إذ يصل بالشخصية التي يرسمها إلى أقصى درجة متاحة للفن في تجسيد خواصها الفردية المميزة، وتمثيل المرحلة التاريخية التي تحياها في الآن ذاته، حيث تلتقي فيها الوراثة بالبيئة، والخاص بالعام، كما نعرف في نماذجه الكبرى في "ليالي الحلمية" و"الراية البيضاء" و"ضمير أبلة حكمت" حتى "امرأة من زمن الحب"، فإنه في هذه الرواية المكتوبة يستثمر التقنية النموذجية ذاتها التي سبق لنجيب محفوظ أن وظفها بمهارة بالغة، لكن عكاشة يعمد إلى الايجاز والتكثيف، فالأسرة الواحدة المقدمة هنا تضم أربعة رجال يمكن اعتبارهم أيقونة مصغرة للمجتمع المصري. "ممدوح" المحبوب الذي استشهد في الحرب قبل الدخول بخطيبته وانفطر قلب أمه عليه، وظل مكانه شاغراً يفعل بالغياب مثلما يفعل الآخرون بحضورهم في اضفاء روح التضحية والمثالية على الخلفية الأخلاقية المفقودة للآخرين. و"نبيل" الأوسط الذي رقص على السلم فلم يحصل على معزة الكبير ولا دلال الصغير، تعود على الحرمان من العطف صار مثقفاً ماركسياً يحترف الصحافة ويدخل المعتقل ويناقش الحراك الطبقي والمادية الجدلية وهو يعلق صورة ماركس ولينين في حجرته وتحتهما شعار "يا عمال العالم اتحدوا" ويكتب مبشراً بالعلمانية، ثم يجرؤ على جرح شعور أمه ويتزوج بخطيبة أخيه الشهيد معلناً أنه كان يحبها قبله، ولا تغفر له الأم هذه الخيانة لذكرى الغالي. ثم "سيد" الذي كان مثل "البنوتة" في صغره، ثم انقلب الى كلب سلطة ينهش في لحم البشر ممن يوقعهم القدر تحت سطوته. ولكي تكتمل صورة العائلة المصرية فالرابع هو الشيخ سعد عمهم الذي كان قريباً منهم في السن ولا يكف عن الشجار مع نبيل واتهامه بالإلحاد، ثم لا يلبث أن يطلق لحيته ويكتشف عقب اعارته للعمل الديني خارج البلاد أن الناس في مصر أبعد ما يكونون عن الدين الصحيح، ليصبح داعية مشهوراً تعقد له الندوات ويتألق كواحد من نجوم التيار الديني، فإذا ما احتاجت زوجته لعملية بسيطة حتى تنجب حرم ذلك عليها لمخالفته إرادة الله في تقديره وأحل لنفسه الزواج بأخرى على عادة المشتغلين بالدعوة. هنا تصبح الأسرة خلية حية تتركز فيها العناصر الجوهرية للوجود المصري والعربي في العقود الثلاثة الأخيرة بكثافة بالغة، تصبح نموذجاً مصفى لهذا المجتمع المتجاذب المتناحر الجامع بين الأضداد في فورة احتدامها وارتطامها، بعد أن عاشت مرحلة من العمر تتفاعل وتتجاور في اتساق خلال مباذل الصبا وحماقات المراهقة، ثم أخذت تتباعد بينها المصائر وتختلف التوجهات، ولكن اللافت للنظر أن تكوين هذه الخلية النموذجية المقطرة التي تفشي سر المكان والزمان معاً، وتصلح معادلاً متخيلاً للواقع المشكل الملتبس لا يتم بطريقة آلية ثابتة، بل يتكشف من خلال نمو الأحداث وتشابك المواقف وحركية الشخوص، مما يجعل الصورة الناجمة عنها ناطقة بما يغلي به المجتمع من تيارات تفقد كثيراً من انسجامها في لحظة معينة، لتسترجعه على مستوى كوني أكبر. بوسعنا أن نشهد للكاتب بالمصداقية في اعترافه في مقدمة الرواية بأن موضوعها ظل يخامره لمدة عشر سنوات كاملة، يتقلب "كالجنين في رحم أفكاره" على حد تعبيره، ذلك لأن الرقعة التي يسلط عليها ضوءه الغامر تقع في قلب الصراع الاجتماعي المتحرك بين رموز السلطة من الشرطة ورموز التحولات الاقتصادية الاخلاقية التي تهز بنية المجتمع وتطول أجياله العديدة. وهو يكشف أوتار هذا الصراع في جذورها الغائرة وتجلياتها الظاهرة معاً، ويرسم نماذجها بعرامة فنية واقتدار تقني، بما يضمن تدفق البيانات الواقعية والجمالية في أنساق مضبوطة" فإذا أراد أن يقدم شخصاً فطر على الشك في الرجال والنساء معاً حفر في طفولته حتى وصل الى هذا المشهد الذي يجمع بين أمه وخطيبها السابق وهي تدفع يده الممتدة إليها، وربما كان المشهد بريئاً لكنه دال على طبيعة الإنسان الذي سيصبح الشك من عاداته الأصيلة، مما يجعله يشم رائحة الخيانة في كل شيء، ثم تبرز حاسة الشم هذه لتؤكد مصيره باعتباره "كلب سلطة" وهي ليست من قبيل المجاز، بل تؤدي خاصية الصفة الملحمية اللصيقة بالشخصية" فهو يعرف الأماكن بروائحها، والأشخاص بعبقهم الطيب أو الكريه، مثلما يبرز رفيقه عمر الجندي بأنه دائم التحدث لمن يصحبه في الشقة وهو يستحم، حتى أنه إذا لم يجد أحداً أحضر معه جندياً "ليستحم عليه"! وتتوالى أحداث الرواية ليفضي شك سيد العجاتي إلى اكتشاف خيانة زوجة صديقه كمال له، وتلذذ هذا الأخير بدور "الخائن المخدوع" حتى إذا تكشفت الفضيحة عمدت الزوجة إلى الانتحار غرقاً في البانيو، وحتى هذا الانتحار يشك سيد العجاتي في احتمال أن يكون مدبراً، ويمتد الشك الذي يسعى إلى اليقين ليصل إلى زوجته هو، إذ يتهمها بعلاقة آثمة مع غريمه القواد "حمادة غزلان" الذي يشارك في تجارة الممنوعات، ومع أن عدد الشخوص التي يحركها المؤلف يظل محدوداً لكنك تشعر دائماً بأن عين الكاميرا أو بؤرة الرصد لديه واسعة تشمل قطاعاً عريضاً من الأماكن والمواقف والأفراد. ويصل الصراع بين الضابط وغريمه إلى حدود التناحر الشخصي الرهيب، يتجاوز فيه ممثل الأمن حدود سلطته ليضرب ويعذب ويطارد، ويشعل الفتنة بين المجرمين، ولا يهدأ له بال حتى يصل إلى قاع الأسرار، كذلك يمعن عدوه في كيده فيشعل في قلبه نار الغيرة عندما يزعم له تأكيد شكوكه في سلوك زوجته ويعطيه علامة حسية على صدقها - مثل تلك العلامات الملحمية أيضاً - فهناك ندبة في بطنها تحتها "حسنة" غامضة، وتبرر الزوجة معرفته بهذه العلامة عن طريق رفيقته في المهنة التي رأتها وهي تغير ملابسها في حمام السباحة بالنادي، وهو يفتري عليها انتقاماً من الضابط الذي كشف له عن سقوط ابنته وزواجها عرفياً من شريكه في التجارة، وتسفر الأحداث عن ارتطام المصالح واصطدام المدارات في معارك تخلف عدداً من القتلى والجرحى، بما يعكس طبيعة التفسخ الذي يسود هذه المرحلة والعنف المصاحب لها. ولأن عكاشة يخترق هنا حاجز المحظورات الإعلامية فإنه يصل إلى أغوار عميقة في تعرية أسباب هذه التحولات، من دون أن يفقد قدرته على تفجير اللحظات الشعرية المرهفة لشخوصه وهي في أشد حالات التوتر والقلق، ويتجلى الطابع الملحمي في لمس العرق الإنساني الحساس فيها حتى يصل إلى قاع ذاكرتها ا وهي تسعى في سديم الحياة. ومع أنه يمتلك رؤية استراتيجية يرصد بها حركة المجتمع ويحذر من بعض تقلباتها فإن تقنية تعدد الأصوات واستبطان الشخوص والحفر في الجذور تضمن لروايته مساحة نبيلة من التفتح التاريخي الخصب والوعي الحضاري الناضج بجدلية الواقع وشعريته الخلاقة.