لم يعد الرضا هو الشعور الوحيد المصاحب لأعمال اسامة أنور عكاشة فور عرضها على الشاشة، ثمة شعور بالحسد من أقرانه، كتاب السيناريو، ما دفع بعضهم الى اطلاق اتهامات سرعان ما ثبت زيفها، اتهمه بسرقة فكرة كاتب ناشئ وتطويعها بطريقته، أو بالسطو على سيناريو معد سلفاً وإعادة صياغته، وهي اتهامات لم تصمد طويلاً، وبقيت "فرقعاتها" الإعلامية داخل نطاق محدود للغاية. ويؤخذ على عكاشة دفاعه عن الناصرية في مسلسلات قدمها وتنتمي الى تلك المرحلة، وعزز الاتهام مسلسله الناجح "ليالي الحلمية" بأجزائه الأربعة الذي تناول حقبة زمنية ممتدة منذ ما قبل ثورة تموز يوليو 1952 حتى نهاية السبعينات، وهي حقبة انطوت بطبيعة الحال على أشياء يرفضها عكاشة وأخرى يقبلها، فهو - بحسب ما قال - مع التوجهات الأساسية الكبرى التي ميزت فترة حكم عبدالناصر، من بناء السد العالي الى تأمين قناة السويس الى توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين الى القوانين الاشتراكية، وقضايا التصنيع الكبرى، ومن سوء حظ الرئيس السادات، أن عكاشة ضد السلام مع إسرائيل وضد الانفتاح الاقتصادي بالصيغة التي تم بها، وهما عمادا سياسة السادات وحكمه الذي استمر عقداً كاملاً. ولعل هذا ما حفز الساداتيين ضده، ويتذكر الرأي العام في مصر، معركة شرسة خاضتها أقلام صحافية عدة في مؤسسة "أخبار اليوم" لكي لا يكلف إلى عكاشة إعداد سيناريو فيلم عن حرب أكتوبر تموله وزارة الدفاع، خشية أن يبخس السادات حقه. وكان أغرب ما قيل في هذه المعركة الكلامية، أن عكاشة يكتب أعماله محملاً إياها وجهة نظره الخاصة، وهو اتهام مدهش لا يحتاج الى دفاع، إلا إذا كان مطلوباً من الكاتب أن يتبنى وجهة نظر كاتب آخر، أو يدافع عن وجهة نظر فئة بعينها، متخلياً عن قناعاته وخلفياته السياسية والاجتماعية والثقافية. ولم يسلم مسلسل عكاشة الأخير "امرأة من زمن الحب" الذي عرض في رمضان الماضي من الاتهامات ذاتها، حتى أن أحدهم سماه "امرأة من زمن الحقد" لأنه لم ينتصر لتوجهات المرحلة الساداتية خصوصاً على الصعيدين السابق ذكرهما. أما زملاؤه من كتاب السيناريو، فأشاعوا أن مسلسله الأخير، ليس إلا صورة من مسلسل آخر أنجزه عكاشة في النصف الثاني من الثمانينات عنوانه "رحلة السيد أبو العلا البشري"، والفارق الوحيد أنه استبدل سميرة أحمد بمحمود مرسي، الذي لعب بطولة أبو العلا البشري، وهكذا، يبدو عكاشة كأنه يدور في حلقة مفرغة، عالمه ضيق ورؤاه محدودة، وهو اتهام الى جانب عدم وجود ما يسنده، ليس معيباً، وقراء نجيب محفوظ يعرفون أنه لم يقترب مطلقاً من عالم القرية أو الصعيد، ولم يكتب عن مآسي فلاحي مصر ومواجعهم، مكتفياً بالكتابة عما يعرف. فهو قاهري، لا يعرف ما وراء حدود العاصمة، ودارت معظم رواياته في مساحة لا تتجاوز بضعة كيلومترات، تمتد من الجمالية في وسط القاهرة إلى العباسية، لكن موهبته الكبيرة، تغلبت على محدودية الجغرافيا، ومكنته من النفاذ الى الأعمق، حيث النفس الإنسانية بكل تناقضاتها وإحباطاتها وتطلعاتها، وإلى الأبعد حيث تاريخ مصر الحديث الذي كان شاهداً عليه، ومشاركاً في صياغته، بالرصد والتحليل. وهذا بالضبط ما يفعله أسامة أنور عكاشة، الذي ينتصر دائماً لقيم الطبقة الوسطى المصرية من دون إبحار أفقي في المكان، فعل ذلك في مسلسل "البشري"، وفي "ليالي الحلمية" و"الشهد والدموع" و"الراية البيضا" و"ضمير أبله حكمت" وغيرها. والجديد في "امرأة من زمن الحب" التي كانت تسميته الاصلية "امرأة من الجنوب" وكانت فاتن حمامة مرشحة للعب دور البطولة فيه، هو البعد العربي الذي حبس عكاشة عبره أنفاس المشاهدين وهم يتابعون رحلة السيدة سميرة أحمد وابنها هشام سليم بحثاً عن حفيدها الذي خطفه الإسرائيليون من لبنان بعد ما قتلوا أمه "ميشيل" الصحافية الفرنسية صاحبة المواقف المناصرة للقضية الفلسطينية والحق العربي أثناء مهمة صحافية في الجنوب اللبناني. ولكي تصل رسالته ترك عكاشة نهاية مسلسله مفتوحة، فالأم تصحب ابنها في رحلة لاسترداد الحق المسلوب الحفيد هو أيضاً رهان المستقبل من "براثن الهمج"، أما اختيار امرأة الجنوب القادمة من الصعيد لإنجاز المهمة فلم يأت اعتباطاً، والإشارة الأكيدة الى أصول الأشياء وجذورها، تتبدى أكثر في محاولتها تعديل المعوج في أسرة أخيها الديبلوماسي الذي استدعاها للإقامة مع ابنائه اثناء عمله في جنيف. وكان عليها أن تواجه أشكالاً من الخلل والتسيب والانحراف لم تعتدها، وهي تمزقات يعانيها جيل كامل من الشباب في مصر، تتجاذبه أمواج متلاطمة من البطالة والإدمان والتغريب والتطرف واللاانتماء، على رغم حماسته وشغفه بدور يلعبه. والى جانب هذه الشخوص الرئيسية، قدم لنا عكاشة نماذج انسانية، اعتبرها البعض زوائد، مثل شقيقة الزوج العانس التي لعبت دورها ببراعة عبلة كامل، أو ذلك الشيخ الطيب رشوان توفيق، المربوط بجدائل الآخرين وخيوط الوجد الصوفي، أو المناضل اليساري المهزوم يوسف شعبان، وهو نموذج لكثيرين من المثقفين، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أو الفنانة الشابة الباحثة عن الشهرة الهاربة من عالمها الأضيق من طموحها في الاسكندرية الى رحابة القاهرة واتساعها، صفاء جلال وشخصيات عدة، تركت انطباعاً ما في نفوس المشاهدين، وهو ما ينفي كونها زوائد أو حلية للعمل، ويؤكد ارتباطها الوثيق بالنسيج الدرامي. اسامة أنور عكاشة هو ابن الطبقة الوسطى المصرية بامتياز، المعبر عن انعطافاتها الخطيرة، خصوصاً خلال سنوات السبعينات عبر دراما تلفزيونية شدت انتباه الناس ولفتت الانظار إليه منذ البداية، وفي أعماله السينمائية - على قلتها - كان هذا هو الإطار الذي تحرك خلاله، ويشهد فيلمه "دماء على الأسفلت" الذي أخرجه عاطف الطيب على صدق هذا التوجه. ويعرف عكاشة الطبقة الوسطى بقوله: "أتصور أن طبقة متوسطة في مجتمع ينتمي الى عالم ثالث مختلفة من ناحية التكوين والدور، ففي هذا المجتمع تقود هي حركته، وتضم في داخلها فئة المتعلمين وأصحاب المهن، وهي دائماً تتأرجح بين عالمين ورغبتين: رغبتها في الصعود الى الطبقة الأعلى، والخوف من الهبوط الى الطبقة الأدنى، وتتميز هذه الطبقة بأن المعايير الأخلاقية لديها صارمة. ومقاييسها دائماً متسقة وفيها شيء من التعصب، وفي هذه الطبقة ناس معذبون باستمرار، وكانت مغرية دائماً للفن والأدب، ليس في مصر وحدها، بل في دولة مثل فرنسا مثلاً، فكان بلزاك كاتب الطبقة الوسطى الفرنسية قبل الثورة، والنماذج كثيرة في آداب وفنون دول مختلفة، فتحولات الطبقة الوسطى بقيت دائماً الموضوع المفضل لدى الكتاب الذي يسعون للقيام بعملية رصد اجتماعي عبر أعمالهم. وبالنسبة إلى مصر، فإن هذه الطبقة حملت أعباء ثورة 1919، والضباط المنتمون الى هذه الطبقة قاموا بحركة التغيير. ويضيف ان الروائي محمد عبدالحليم عبدالله "اهتم بالمسألة من جانبها الرومانسي، ونجيب محفوظ بقيت الطبقة الوسطى هي المفضلة لديه وظهرت في معظم أعماله، وإن كان أحياناً يقسو في الحكم عليها كما فعل في روايته "بداية ونهاية". والدراما لم تشذ عن هذه القاعدة، ولو تأملنا أعمال رائد الواقعية في المسرح المصري نعمان عاشور، لوجدنا أن الطبقة الوسطى هي موضوعه الوحيد، سواء في "الناس اللي تحت" أو "الناس اللي فوق" أو "عائلة الدوغري" الصراع بين أبطاله قائم حول معايير هذه الطبقة وقيمها وحركة التطلع داخلها. وفي السينما شغل الموضوع المخرجين من كمال سليم الى صلاح أبو سيف، من فيلم "العزيمة" الى "القاهرة 30" و"بداية ونهاية" وغيرها. هل ما يطرأ على أبطالك من تحولات يجد أصله أو صداه في الواقع؟ - بالضبط، ولو نظرت "حواليك"، ستجد أن الطبقة الوسطى في مصر تمددت "وانفلشت" بتعبير إخواننا الشوام، وصار جزء كبير من ابنائها من سماسرة الانفتاح، وعاملين في خدمة "الهبيشة" والشركات الوهمية، وانحدر منها قطاع لا يستهان به ضد قناعاته. وفي فيلمي "دماء على الأسفلت" يمكن أن تلحظ الانهيار القيمي فهو بالضبط انهيار الطبقة الوسطى. لكنك تفترض ثباتاً في قيم هذه الطبقة لا وجود له في الواقع، فالمناخ السياسي والاجتماعي حين يتغير تتغير معه بالضرورة أولويات هذه الطبقة وقيمها؟ - هذا صحيح، لكن ينبغي أن نميز بين القيم والعرف الاجتماعي، القيم ثابتة لأنها متصلة بمعايير مطلقة مثل الخير والشر، والتغيير فيها لا يكون كبيراً، إنما العرف الاجتماعي هو الذي يتأثر بالظروف السياسية والاقتصادية وغيرها. لكن كتابات كثيرة، خصوصاً على صعيد التنظير ومتابعة تحولات الطبقة الوسطى، انتهت الى خيانة ابنائها للقيم التي تمثلها؟ - أنا معك، لكن هذا ليس عندنا وحدنا، حدث هذا في العالم كله، خصوصاً بين فئة التكنوقراط، أما المثقفون فهم غالباً متمردون، عندهم رغبة في الصعود والتميز، وطموحاتهم هي التي تحدد معايير الخير والشر عندهم، وهؤلاء يقودون التغيير في هذه الطبقة، وعندما ينجرفون وراء طموحاتهم، يبدو لنا أن الطبقة الوسطى بكاملها خانت، والحقيقة أن آفة هذه الطبقة هو في شريحتها العليا المثقفة، التي يمكن أن نسميها الشريحة الخائنة. ومع الأسف، مثقفو هذه الطبقة أو بعضهم، لعب دور حملة المباخر قبل تموز يوليو 1952، وبشروا بمقولة المستبد العادل، وظهر عبدالناصر رمزاً لهذه المقولة، وحين اختلفوا معه اختلفوا معه من منطلقات لا صلة لها بحركة الجماهير، اختلفوا معه في تنظيمات سرية تحت الأرض وحول مفاهيم هي بطبيعتها خلافية، لم يقودوا حركة تمرد أو تصدٍ داخل الطبقة، وظل هذا هو منهجهم حتى في السبعينات، لعبوا الدور نفسه مع نقل البندقية من كتف الى كتف، وبعضهم تحققت له طموحات الارتقاء اجتماعياً وصار من قادة الرأي ووجهاء المجتمع، ثم استقر ونسى كل شيء عن المبادئ وعن الكفاح.