سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رياض الترك، في أول حوار سياسي، يعتبر "الديموقراطية أفضل وسائل الحكم": الصراع العربي - الإسرائيلي سيأخذ أشكالاً جديدة تدخل في باب الصراع الحضاري يجب اطلاق الحريات على أنواعها وتحرير الدولة من أسر السلطة - قسم أول
اطلق القائد الشيوعي السوري رياض الترك قبل سنة ونصف سنة. وشكل اطلاقه، بعد فترة اعتقال دامت 17 سنة، أحد المؤشرات الملموسة إلى الانفراج الذي يمضي قدماً في سورية في فترة ما بعد نهاية "الحرب الباردة". ورفض الترك بعد خروجه من السجن الإدلاء بأي تصريح سياسي ليس خوفاً، بل لأنه لا يستطيع التكلم لا على الحاضر ولا على المستقبل قبل أن يستوعب الأوضاع السياسية. فالكلام بالنسبة إليه مسؤولية ويجب أن يقال بعد التفكير في نتائجه وعواقبه. ولكن يبدو أن الأمور اختلفت اليوم وبات الترك في وضع يسمح له بالتحدث بحرية ومسؤولية عن أوضاع بلاده والمنطقة وظروفه الشخصية والبيئة التي يتحرك فيها الحزب الشيوعي السوري. ولأن الحوار يتزامن وبدء المفاوضات السورية - الإسرائيلية، انطلقت الأسئلة من التطورات الأخيرة وآفاق الصراع العربي - الإسرائيلي في المدى المنظور. وهنا نص الحوار: إذا وقعت معاهدة سلام بين سورية واسرائيل ما هي حظوظ عملية التطبيع بين الشعبين؟ - إن محصلة ما يجري اليوم على جبهة الصراع العربي - الاسرائيلي، هو الثمن الذي يدفعه العرب عن هزيمة حزيران يونيو عام 1967. اما سبب التأخر فهو ما جرى في أعقابها من محاولة لرفض تلك الهزيمة وعمل دؤوب لاسترداد الحق العربي على كل المستويات الرسمية والشعبية. وشهدت الساحة العربية على مدى بضع سنوات نهوضاً قومياً، تمثل في إعادة بناء الجيشين السوري والمصري والتضامن العربي والمقاومة الفلسطينية وحرب تشرين 1973. الا ان ما أقدم عليه الرئيس أنور السادات وما جرى بعد حرب الخليج الثانية وصولاً إلى هذه اللحظة شكلا مساراً انحدارياً في الأوضاع العربية أوصلنا الى ما نشاهده الآن على مسارات التسوية. إن توقيع معاهدات سلام بين الأنظمة العربية واسرائيل لا يعني في الضرورة ان الشعوب العربية ستسير في عملية التطبيع، والمثال المصري خير دليل إلى قدرة هذه الشعوب على رفض السياسات الرسمية لدولها حيال اسرائيل. لكن أشكال مقاومة التطبيع مهما تنوعت، لا يجوز ان تمنعنا من رؤية ما يجري في المجتمع الاسرائيلي من تحولات وتناقضات. ففي ظروف التسوية المقبلة ستسود حالة من الهدوء النسبي من شأنها ان تضعف الطروحات العنصرية والصهيونية والاستيطانية لدى بعض الأوساط اليهودية في هذا المجتمع. وكما يقول بعضهم ربما أخذ الصراع العربي - الاسرائيلي أشكالاً جديدة تدخل في باب الصراع الحضاري. لذلك ان شعار "أعرف عدوك" ينبغي ان يحتل مكاناً في المرحلة المقبلة، على الأقل لدى القوى الحية في مجتمعنا. وهذا يتطلب ان نكون على دراية بما يجري هناك. بل علينا اتخاذ مواقف ايجابية من القوى المعادية للطروحات الصهيونية والعنصرية والمتضامنة مع الحقوق العربية والساعية الى حلول جذرية للصراع العربي - الاسرائيلي بعيداً عن السياسة الرسمية الاسرائيلية وعن مواقف غلاة الصهاينة، الأمر الذي يجعلنا نتلاقى معها في هذه القضية أو تلك. اليوم، بعد أكثر من سنة ونيف على إطلاقك، هل غدوت قادراً على التحدث عن الحاضر والمستقبل؟ هل أصبحت مستعداً للتكلم في السياسة؟ - أستطيع القول اليوم بعد إطلاقي وعودتي إلى الحزب الشيوعي السوري وعضوية التجمع الوطني الديموقراطي، انني أصبحت قادراً على الإجابة عن أي سؤال. علماً أنني ما زلت بحاجة الى استيعاب الكثير من الظاهرات التي لم تختمر في ذهني بعد، إلا أن هذا لا يمنعني من التكلم بوضوح ومسؤولية. ولكن هل تشعر أنك حر بلا قيود؟ - بالمعنى العام لا أعتقد بأننا في سورية نتمتع أو نستمتع بحريتنا. انني حر بمعنى خروجي من السجن الصغير الى السجن الكبير. وعلينا جميعاً ان نسعى إلى فتح أبوابه ليس بحثاً عن الحرية القصوى وانما سعياً إلى استرداد الحريات العادية التي سلبت من الناس. وهذا لا يمكن ان يتحقق الا من خلال نضال شعبي وتعاون مختلف القوى ضمن اطار برنامج وطني ديموقراطي. من جانب آخر لا أواجه الآن مضايقات مباشرة من السلطة، فهذه لا تراقبني أو تراقب منزلي. لكنني، مع ذلك، لا أعتبر اطلاقي منحة من السلطة أو حالة من التسامح كما قال بعضهم، إذ أن خروجي من السجن كان حقي. والحقوق تنتزع ولا تستجدى. من حقي ان اكون حراً. ومن حقي ان أصرح بما أقتنع به في كل القضايا السياسية والاجتماعية وسواها. ولكن ألا تخشى إعادتك الى السجن من جديد؟ - وأنا لن أتخلى عن حقي في ممارسة السياسة أياً كانت الظروف، وأهلاً بالسجن اذا كان ثمناً للتمسك بالرأي وحرية التصريح بالمعتقد، سبق لي ان قلت في حوار سابق مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، انني منذ العام 1960 تاريخ أول تجربة فعلية لي في السجن وأنا أعيش أياماً إضافية، وهذا ليس تبجحاً على الإطلاق، السجن بالنسبة الي ضريبة لا بد من سدادها في مقابل الموقف السياسي، على رغم ان هذه الضريبة ليست شرعية وظالمة ومنافية لأبسط حقوق الإنسان. بعد خروجك من السجن، دار حوار واسع على صفحات جريدة "الحياة"، عن تاريخ الحركة الشيوعية السورية، ودورك الشخصي ودور حزبك في تطوير الماركسية وتجديدها بعيداً عن النموذج السوفياتي. بعض هذه الكتابات وصفك بأنك "مثقف انتليجنسوي حالم تعتبر الفكرة واقعاً"، وانك وقعت "ضحية جموحك الراديكالي السياسي" في ما اتخذته من مواقف سياسية في نهاية السبعينات... فما هو تعليقك على هذه المقولات؟ - أظن ان هذا الطرح ليس دقيقاً، فأنا كسياسي لست حالماً. وحزبنا منذ مؤتمره الخامس 1978 طرح برنامجاً وطنياً ديموقراطياً سلمياً للتغيير. لم يلجأ الى العنف ولم يؤيده، بل تعرض لأقسى أنواع العنف والاستبداد. أما ان "يحلم" الشيوعيون ويناضلوا من أجل العدالة الاجتماعية التي يرونها جملة من التدابير لتحقيق مصالح الطبقات الشعبية، فليس في هذا شيء من الخيال الجامح أو الراديكالية غير الواقعية! أراد بعض من أتعبهم النضال، بحجة ما يسمونه الواقعية، أرادوا منا ان نتهرب من مسؤولياتنا، في حين نرى ان على المناضل السياسي ان يبقى على صفاته وان لا يتنازل عن طروحاته وعمله السياسي، على رغم الضغوط والمضايقات والسجن والتعذيب. وإلا فلا داعي لأن يعمل في السياسة. فليذهب إلى بيته كغيره من الناس، ان على السياسيين الذين يتنطحون لطرح برامج ومواقف ان يتحملوا مسؤولية أعمالهم. وإذا كنت رضيت بالسجن ثمناً لموقفي السياسي وطالت المدة وغُيبت، فهل هذا هو ذنبي أم ذنب النظام؟ هل هذه مسؤوليتي أم مسؤولية الاجهزة؟ أنا كسياسي أحاسب على ما طرحه حزبنا في تلك المرحلة. فأين الخطأ وأين التطرف؟ أنا اعتقد بأننا عموماً أدينا واجبنا. ولكن خلال هذه المواجهة سقط من سقط واعتزل من اعتزل وصمد من صمد. وهذه هي سنة الحياة. وبصرف النظر عن الامكانات الحالية فإن العاقبة هي للخط الصحيح. العاقبة هي للصامدين. نحن لم نزاحم السلطة على شيء من مكاسبها. وموقعنا أقل من ان يدفعنا الى التطلع إلى السلطة، نحن نتطلع الى نظام وطني ديموقراطي يتيح للناس الحرية الكاملة في التعبير عن مصالحهم المتناقضة في اطار توافق اجتماعي وتنافس سلمي يجري من خلال انتخابات تسمح بالتداول السلمي للسلطة. وهناك اقتناع اليوم، بأن الأساليب السابقة في ممارسة الحكم شاخت، وان النظام، وإن أبقى على اجهزته الأمنية بكامل قوتها، فإنها لم تعد مطلقة اليد، على رغم وجود "رؤوس حامية" فيها. وعلى رغم الخروقات هنا وهناك، فإن ممارسة تلك الاجهزة تدخل في اطار "المعقول" إذا ما قسناها على الماضي، فالاستدعاءات التي تحصل تتم بهدوء والتوقيفات لا تدوم طويلاً. ولم يعد المعتقل في السجن يهمل، بل يجري الاهتمام بملفه ويحل سريعاً وتتخذ التدابير اللازمة حياله. تبقى هذه التدابير مقبولة إذا قيست بما كان أيام الثمانينات، لكنها مرفوضة قطعاً في ظل نظام ديموقراطي سليم. عدت بعد خروجك من السجن إلى تحمل مهماتك في اطار الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي الذي خاله بعضهم انتهى في أعقاب الضربات المتتالية التي وجهت إليه. هل يعود رياض الترك إلى الحزب ذاته الذي تركه في العام 1980؟ وما هي المهمات المطروحة أمام الحزب لتفعيل دوره وتطوير خطابه في ضوء التطورات الجديدة التي حصلت إثر انهيار الاتحاد السوفياتي؟ وهل تعتبر ان الماركسية سقطت بانهيار الكتلة الشيوعية؟ - الأحزاب الحقيقة لا تنتهي عندما تواجه بالقمع. الاحزاب يمكن ان تضعف، يمكن ان تتراجع، لكنها لا تزول على رغم قسوة الضربات وتتاليها. بهذا المعنى نحن موجودون. وان كانت بنيتنا محاصرة، وفاعليتنا أضعف بكثير مما كانت في السابق. لكن ركائزنا الباقية لا تزال قادرة على الاستمرار. وتستطيع في ظل ظروف أفضل ان تعيد البناء. نحن لسنا معزولين، وفي ضوء احتكاكي بالناس العاديين، وجدت انهم يكنون احتراماً عميقاً لحزبنا، بمعزل عن موافقتهم على مبادئنا الشيوعية أو عدم موافقتهم، انهم يجدون فينا مثالاً يحتذى. وينظرون إلينا كضمير عبر عن مشاعرهم وتطلعاتهم. إن حرية تشكيل الأحزاب وحقها في الوجود والعمل، هما ما نطمح اليه ونناضل من أجله مع بقية الاحزاب والشخصيات المنضوية في اطار التجمع الوطني الديموقراطي. وباختصار يمكن القول اننا حققنا انسجاماً بين ما طرحناه من برنامج ديموقراطي وما قدمناه من ممارسة سياسية وتضحيات في سبيل تحقيق هذا البرنامج. اما عن سقوط الاتحاد السوفياتي، فأنا لا أشعر بحرج ولا بأزمة ضمير. فحزبنا لم يكن تابعاً لهم، ولم أكن تالياً شيوعياً تابعاً كي أتحمل مسؤولية ما جرى، مثلما هو حال الاحزاب الشيوعية التابعة. بنى حزبنا نفسه ضمن منطق تجديد الفكر الشيوعي انطلاقاً من واقعنا العربي، وبعيداً عن السوفيات وطروحاتهم. والكل يعرف قصتنا معهم منذ نهاية الستينات وكيف حاولوا خنقنا ومحاربتنا حين كنا لا نزال في بداية الطريق. إذاً نحن كشيوعيين لا نحمل إثم القيادة السوفياتية التي استبدت وفرطت وألحقت وشقت في اطار الحركة الشيوعية. ولا أريد ان أكون متبجحاً، لكن الحياة أثبتت صحة موقفنا، إلا أنني لست من الناس الذين يحملون سكيناً ويجهزون على الدابة التي تسقط. أنا بخلاف ذلك أعف ولا أتشفى. أما القول بأن الماركسية سقطت بسقوط الاتحاد السوفياتي، فهذا ما لا أوافق عليه مطلقاً. الماركسية كانت بالنسبة إلي ولا تزال منهجاً علمياً في تحليل الرأسمالية وفهمها ونقدها. ونظرتها إلى المجتمع الرأسمالي لا تزال سليمة وصحيحة. الماركسية لا تموت ما دام هناك شيء اسمه الرأسمالية. ولكن على الماركسية ان تعيد تجديد نفسها باستمرار، سواء وجد حزب أو دولة تطبق الماركسية أم لا. وبغض النظر عن انهيار الاتحاد السوفياتي. إن ما طرحه ماركس وانغلز في القرن التاسع عشر مضت عليه 150 سنة، حصل فيها ما حصل من أحداث وتبدلات على النطاق العالمي، فكيف يمكننا بعد ذلك ان نردد ما كتباه، كما يفعل ضيقو الأفق والجامدون! حتى انغلز نفسه كان يقول: في كل فتح علمي كبير على المادية أن تجدد ثوبها. الماركسية منهج وما سقط هو التجربة، إذا كان هناك فعلاً في الاتحاد السوفياتي ما يمكن ان يصطلح على تسميته تجربة اشتراكية، لأن ما جرى - في رأيي - لا يخرج عن اطار رأسمالية الدولة. في أي حال تبقى هذه الأمور مفتوحة للنقاش ويجب عدم الجزم بها، وعلينا ان نساهم في هذا المجال مع الباحثين والمفكرين والمؤرخين لتقديم أجوبة عن الاشكالات المثارة. غير ان الأمانة تقتضي الإشارة الى الدور الكبير الذي لعبه الاتحاد السوفياتي في مساندة حركات التحرر هنا وهناك في بلدان ما كان يعرف ب"العالم الثالث". وأخذت هذه المساندة أكثر من شكل سياسي وديبلوماسي وثقافي وعسكري واقتصادي، لكنها أيضاً اخذت شكل المساعدة المباشرة في الإعمار والتنمية وتطوير البنى التحتية التي تظل الشعوب هي المستفيدة الأولى منها، حتى بعد تبدل الأنظمة والايديولوجيات. إذا كانت الماركسية، كما تقول، منهجاً علمياً أو لنقل بعبارة أخرى أحد مناهج العلوم الانسانية، لماذا إذاً اعتبارها هوية يجب التماهي معها؟ ولماذا لا تزال كلمة شيوعي من اسم الحزب؟ وهل ما زلت كفرد متمسكاً بهويتك وانتمائك الشيوعيين؟ - أنا في هذه المسألة أخالف كثيرين، فالشيوعية بالنسبة إلي ليست نظريات فقط، بل تاريخ في الممارسة والنضال والعمل والتضحية. أنا واحد من الذين يصعب عليهم التخلي عن هويتهم الماركسية الشيوعية. ولماذا أتخلى عن صفتي كشيوعي؟ هل يرفضني الشعب؟ هل يعارض الناس طرحنا للخيار الديموقراطي؟ قد تكون هذه حالة حزب ما، عندما تتلوث سمعته نتيجة ما ارتكبه من اخطاء، فيسعى الى تبديل ثوبه عساه يستعيد شعبيته المفقودة. اما أنا فلا أجد نفسي معنياً بذلك، لأننا منذ مطلع السبعينات، حققنا من خلال حزبنا قطيعة كاملة مع الدوغما السوفياتية والحزب الشيوعي السوري القديم. ووضحت تماماً الفروق بيننا وبين اخواننا الشيوعيين الآخرين، في ما طرحناه من برامج ديموقراطية وما دفعنا من ثمن لهذه المواقف منذ عشرين سنة. إنني عندما أعلن نفسي شيوعياً لا أحس بتأنيب الضمير، لا أحس بالهزيمة ولا أحس بالذل، لأن شيوعيتي منطلقة من انسان يطمح إلى العدالة الاجتماعية وينشد كل ما هو مشترك وخير وجيد بين الناس. وبالطبع ليست هذه القضايا حكراً على الماركسية وإنما هي قضايا انسانية بالمعنى الحضاري الشامل للكلمة. أنا أخشى، عندما أريد خلع هذا الثوب وارتداء ثوب آخر، ان أكون منافقاً. وأنا أرفض ان اكون منافقاً. لكنني اليوم، أنا الآتي إلى الموقع القومي من موقع ماركسي، أقف الى جانب كل من يريد ان يجدد الماركسية ويطورها من خلال فهم أفضل لواقعنا في المنطقة كشرقيين، عرباً بمسلميهم ومسيحييهم. إذن رياض الترك لا يزال يعتبر نفسه شيوعياً ماركسياً؟ - نعم ما زلت، ولن أعمل تحت راية أخرى إلا في إطار التحالفات. يعتبر بعض المراقبين ان الوضع السياسي في البلاد يمر بمرحلة انتقالية عنوانها الرئيسي تجديد الطواقم الحاكمة ومدّها بالدم الشاب. ولكن في ظل الاستمرار، كيف تقوّم الوضع الحالي وما هي رؤيتك للمخارج الممكنة؟ - في بلدنا أزمتان: أزمة السلطة وأزمة المجتمع بجوانبها المختلفة. ولفهم حقيقة أزمة النظام، يجب العودة قليلاً الى الوراء. فالمفاهيم والبنى والمؤسسات التي يقوم عليها شكل الحكم في سورية، لم تكن شيئاً ابتدعه النظام، وإنما هي نقل وتقليد لما كان سائداً في دول الكتلة الشرقية الزائلة، فمركزة السلطة ومركزة القرار ومفهوم الحزب الحاكم والجبهة الوطنية التقدمية والنقابات الشعبية والاجهزة الأمنية والصحافة الرسمية، كل هذه كانت سائدة بشكل أو بآخر في تلك الدول. المشكلة اليوم هي ان هذا الشكل والأسلوب في الحكم شاخا. والمسألة بالتالي ليست قضية فساد أو خلل اداري كما يحاول بعض الصحف تصويرها، المسألة هي أسلوب وشكل في الحكم تجاوزهما الزمن. هناك حاجة موضوعية إلى التغير، سواء أتى من داخل النظام أو من خارجه، وتجد هذه الحاجة منادين بها من داخل أروقة السلطة، ضمن اطار ما بات يسمى إعادة ترتيب البيت الداخلي، وضمن منطق المحافظة على المكاسب والامتيازات. فالتغيير في نظر المعنيين ليس انتقالاً من سياسة الى سياسة، وإنما انتقال من شخص الى شخص. وإذا اقتضى الأمر يجرى بعض التغييرات خلال هذه العملية، بما لا يعدو كونه اجراءات تجميلية في داخل البيت الواحد. إن عملية الانتقال والتغييرات وتبديل بعض مراكز القوى والأشخاص ببعض آخر، تعتبر شكلاً من التخبط بحثاً عن مخارج لأزمة البلاد من خلال البحث عن حلول لأزمة النظام، في حين بات من المستحيل العثور على حلول لها إلا من خلال البحث عن مخارج لأزمة البلاد أولاً. أما أزمة المجتمع فهي نتيجة ومحصلة لما مارسه النظام خلال فترة حكمه الطويلة، خصوصاً منذ الثمانينات، فقد أقصى السياسة عن المجتمع وأفقر شرائح واسعة من الناس، وخلق تمايزاً اجتماعياً رهيباً وأزمة اقتصادية خانقة يعاني منها القطاع العام والخاص، في وقت انتشرت البطالة وبات المواطن العادي مشغولاً باللهاث وراء لقمة العيش بعيداً عن السياسة وهمومها. قرأت في بعض الصحف العربية سجالات وتحقيقات عن محاربة الفساد في سورية وترتيب أوضاع البيت الداخلي شارك فيها كتاب واقتصاديون سوريون معروفون. وزار سورية أخيراً الاستاذ جوزف سماحة من أسرة "الحياة" والتقى كثيرين من الشخصيات العامة واستقصى آراءها، وكتب مقالاً طويلاً على حلقتين عن محاولة الاصلاح والتجديد من داخل النظام، تلاه كثير من السجالات. أخشى ان يكون هذا الملف فُهم نوعاً من الترويج للنظام. لم يعمد أحد، ويا للأسف، إلى ربط الفساد بغياب الديموقراطية. إذ لا علاج للفساد الا بعودة الديموقراطية والمشاركة الشعبية من خلال نظام وطني ديموقراطي تعددي