الكتاب: يوميات فاسلاف نجنسكي تحرير: جوان اكوسيلا الناشر: بنغوين - لندنبعد حوالي خمسين عاماً على وفاته، لم يزل العالم المعني بفن الأوبرا يتذكر الراقص فاسلاف نجنكسي الذي سحر اوروبا في بداية هذا القرن بحركاته الراقصة الجديدة والمستوى الذي بلغته ولم يستطع احد من الراقصين بلوغها من قبل، اضافة الى ادائه الدرامي المؤثر ومحاكاته الداخلية العميقة لشخصياته الأوبرالية. نجنسكي واحد من قلة في تاريخ فن الرقص الاوبرالي ممن غيروا وجه هذا الفن، في الغرب بعد ان كان في نهاية القرن الماضي على وشك الاضمحلال. كان نجنسكي في قمة مجده عندما حجر في ملجأ او مصح عقلي في سويسرا سنة 1919، بعد فترة قصيرة من تقديم آخر عرض له، حيث اصيب بانهيار عصبي تحول في ما بعد الى شيزوفرينيا. لم يشف من مرضه هذا لكنه عاش واحداً وثلاثين عاماً بعد ذلك معتمداً على زوجته رومولا التي بذلت كل ما لديها لمساعدته ونشر يومياته. ولتعزيز صورة نجنسكي كفنان كبير اكثر منه ضحية الجنون قامت رومولا بتجميل كتاباته التي تفتقر الى الصياغة الأدبية وذلك من خلال اعادة ترتيب الجمل والفقرات المفككة وبذلك اقتطفت حوالي 40 في المئة من اجزاء مجموع مادة يومياته وهي الاجزاء التي كان يعتقد بأنها غير لائقة للنشر. بعد وفاة رومولا في 1978، بيعت ثلاثة دفاتر من يوميات نجنسكي المؤلفة من اربعة دفاتر في مزاد. غير ان حقوق النشر ظلت مقصورة على ابنتي نجنسكي اللتين نشرتا هذه الدفاتر الثلاثة في 1995. اما الدفاتر الأربعة فانها لم تنشر الى الآن بعدما ترجمتها كيرل فتسليون وتولت تحريرها الناقدة المعروفة الاميركية جون اكوسيلا التي وضعت لليوميات عنوان "نسخة غير مهذبة". تضم هذه الدفاتر الأربعة اضافة الى مادة المذكرات الأصلية، ستة عشر رسالة لم ترسل ابداً لأشخاص مهمين في حياة نجنسكي: سرغيه دياغيليف، جان كوكتو، اوتلين موريل ووالدته. اما الرسائل الاخيرة فكتبت في روسيا وفرنسا وهي غير قابلة للترجمة بسبب صعوبة فهمها وفك رموزها، وهي بشكل عام لعب على الكلمات حيث ايقاع حروفها المتشابهة والمكررة يشير الى الاعراض التقليدية لمرض الشيزوفرينيا. وتؤكد جوان اكوسيلا في مقدمتها الطويلة ان كتابات نجنسكي هذه تحمل في طياتها بعض الشبه من رقصه وذلك في تكرار ايقاع المفردات وأحاسيسها المشتعلة وحدّة كثافتها. ويكشف نجنسكي خلال سيل اعترافاته التي كتبها بين 1918 و1919 انه فقد السيطرة على فنه ورقصه، فاعتزل الرقص وبقي مع زوجته منتظراً نهاية الحرب. كانت حياة فاسلاف نجنسكي دراماتيكية حادة. ولد في كييف في 1890 لعائلة اصلها بولندي معروفة باحترافها رقص الباليه والسيرك وكانت لديها فرقتها الخاصة التي تقدم عروضها في كل انحاء روسيا. ولد نجنسكي في وقت كان فيه فن الباليه في روسيا يتطور تطوراً سريعاً مذهلاً، من ناحية الكم والنوع، ويحظى بدعم وتأييد القيصر ويحتل مكانة محترمة بين صفوف الروس خصوصاً الطبقات الارستوقراطية من المجتمع. امضى نجنسكي سنوات طفولته في القوقاز يرقص وهو في سن صغيرة مع شقيقه ستانسلاف وشقيقته برونيسلافا. كانت علاقته مع شقيقته وثيقة جداً منذ الطفولة وظلت كذلك حتى اصبحا راقصي باليه وأديا ادواراً مشتركة فكونا مثل موزارت وابنة عمه او مندلسون وشقيقته علاقة نسب فنية انتاجية. في التاسعة دخل نجنسكي مدرسة "امبريال" للرقص في سانت بطرسبورغ حيث اكتشف مدرسوه موهبته. وعندما بلغ السادسة عشرة الحق بمسرح ماريينسكي في موسكو للحصول على الدراسة العليا فتخرج منه في 1907، وفي العام نفسه اصبح الراقص الاول في مسرح ماريينسكي. اول ظهور له كان في باليه "الينبوع" مع الراقصة جوليا سدوفا. أذهل ظهور نجنسكي الجمهور والنقاد معاً فأصابتهم الدهشة والحماس حال مشاهدتهم قفزاته الجديدة وكيفية تحليقه في الهواء وأداءه الرقيق الناعم. بعد ذلك اخذ يؤدي الادوار الرئيسية الراقصة في باليهات عدة منها: "ايفانوتشكا"، "كيزيل"، "بحيرة البجع"، "الحسناء النائمة" و"شوبنيانا". سنة 1905 كان الدوق الأكبر فلاديمير كلّف سرغيه دياغيلييف تأسيس فرقة من اعضاء مسرح ماريينسكي والبولشوي فتكونت فرقة البالية الرومي التي انضم اليها نجنسكي. صنع ديا غيلييف من نجنسكي نجم الفرقة الاول فسافر معها الى باريس في 1909. احدث نجنسكي اثناء العرض الاول على مسرح "تياترو دو شانيل" هزّة كبيرة في نفوس الجمهور الفرنسي وأسر انظارهم بتعابير وحركات جسده ووزنه الخفيف وارتفاع قفزاته وظهوره معلقاً في الهواء لثانية او ثانيتين. ومنذ موسم الباليه الباريسي الاول هذا غيّر دياغيلييف كل شيء في فن الباليه خارج روسيا. كان دياغيلييف يتعامل مع هذا الفن باعتباره جدياً وخطيراً: الملابس، الديكور، الموسيقى، الإنارة، تصميم الحركات والفعل الدرامي كلها ينبغي ان ترتبط برباط وثيق وتتوحد في الكل. بالاضافة الى ذلك يأتي نجنكسي بموهبته النادرة ليس للظهور وأداء الادوار التي كان يريد ان يلعبها فوق خشبة المسرح فحسب، بل بقابليته وامكاناته في تخطيط ورسم كل التعقيد التخيلي لهذه الادوار وابهار المتفرج. ابدع نجنسكي في بعض اشهر ادواره الاوبرالية الراقصة المصممة له من مثل مصمم الحركات مايكل فوكين في اوبرا "الاسلاف" و"شهرزاد" و"بتروشكا" و"مفيستو" و"تنويعات على موسيقى باخ" و"المغني". كان اسم نجنسكي حتى 1917 يغطي كل اروبا والاميركتين. تزوج نجنسكي من روميلا الهنغارية في بوينس ايرس سنة 1913. خلال الحربين احتجز في هنغاريا لكونه احد رعايا دولة اجنبية. اعتزل الرقص في 1919 وهو في التاسعة والعشرين، وانصرف الى كتابة يومياته وكان يعاني من اضطرابات عصبية وحالة من حالات الشيزوفرينيا. ليس هناك فنان او اديب اصيب بالجنون، سواء كان نيتشه او شومان او جون كلير او فان غوغ، سجل انحداره المرضي بهذا التفصيل المباشر الدقيق مثلما فعل نجنسكي. خلال فترة تفاقم مرضه التي استمرت ستة اسابيع، سجل افكاره وذكرياته وردود افعاله ازاء كل ما كان يحيط ويحدث له. كان يعلم ان زوجته وظفت نفسها خصيصاً لخدمته ومساعدته من اجل نقله الى طبيب نفساني في زوريخ "عبرت عن حبي لزوجتي وذلك بعدم اخذي اليوميات منها لمعرفتي انها ستعيدها الي. قالت انها ستخفيها. فقلت لها متعمداً ان عليها ان تخفيها خوفاً من سرقتها مني، فأخفتها. تعتقد ان هذه المسودات ربما ستجلب لنا المال. انها لا تملك من المال الا القليل جداً". وفي ما يتعلق بهذه اليوميات يقول نجنسكي "ان كل شخص سيفاجأ لدى قراءته هذه السطور التي اريد نشرها خلال حياتي لأنني اعلم مدى تأثيرها. اريد ان اعكس الانطباع عن شيء حي وحقيقي. لا اريد من الناس ان تقرأ حياتي بعد موتي. لا اخاف من الموت لكنني اخاف من اتهامات الناس لي. سيسيئون فهمي". وعن رغبته في ان يصبح كاتباً يقول "قرأت رواية "الأبله" لدوستويفسكي وانا في الثامنة عشرة واستوعبت معناها. كنت اريد ان اصبح كاتباً فدرست دوستويفسكي وغوغول ولكن ليس بالشكل المناسب والصحيح، استنسخت اعمال بوشكين معتقداً انني عندما استنسخ استطيع تعلم كتابة الشعر والرواية مثل بوشكين. استنسخت الكثير لكني شعرت بعدم جدوى ذلك وتخليت عنه". وآخر فقرة من دفاتر يومياته تنتهي عندما يقف منتظراً سيارة الأجرة لكي تنقله الى محطة القطار، ثم الى المصح في زوريخ. عاش نجنسكي من 1919 حتى 1950 في سويسرا، وفرنسا وانكلترا. توفي في لندن سنة 1950 ونقل جثمانه الى باريس ودفن في مقبرة مونمارتر.