قد يكون العرب في مقدم الشعوب التي استكشفت مصائرها في الألفية الثالثة، وبعد نصف قرن من مفردات الاستعمار وحركات التحرر ونصف قرن آخر من هزائم الصراع مع العدو. تبدأ مئوية السلام والتطبيع وتبادل السفارات والاعلام والسياح والتجار. اسرائيل تفتح ذراعيها ل"الشجعان" بعدما تجاوزوا عقدة التعايش معها، وتاريخ المجازر والتنكيل والتشريد والتزوير. كلها باتت من مفردات الماضي، تلك الألفية الثانية التي استطاع العرب الصمود حتى نهايتها وعبروها بسلام، الى عصر سلام المهزومين، وفيه لا بد ان يسقط كل اللاءات ويتغير التاريخ بل يُغيّر، استعداداً لمواجهات اخرى مع اسرائيل قيل انها ستكون مشرّفة، من دون طائرات او صواريخ. الشجعان لم تعد تخيفهم "خرافات" من نوع اخطار التطبيع وخطط الغزو الاقتصادي لتدمير اقتصادهم، ولا سيناريوات الاختراقات المخابراتية للعب على اوتار امنهم واشعال الفتن الداخلية وتحريض الاقليات… لا تخيفهم "خرافات التهويل" لأن النية طيبة، وفي كل الاحوال التعاون مع الاسرائيليين لن يبقى محصوراً بين رجال الاعمال، فمن مقتضيات التطبيع فتح كل الحدود امام رجال الاستخبارات، لا لشيء سوى محاصرة "اعداء السلام". عصر جديد للعرب في بداية الألفية الثالثة، عنوانه الأبرز انهاء الصراع مع اسرائيل لتأمين العيش الكريم للمواطن! والبشرى له لأن قضايا كثيرة ومفردات اكثر ستختفي من قاموس حياته، او هكذا يصوّرون له: ضرورات الصراع فرضت الرقابات والمطاردات والتعذيب وتكبير معتقلات الرأي بحجم الجيوش المتأهبة منذ خمسين سنة… والآن لا يبقى على العربي الا انتظار تحقيق حلم الرخاء، فلا عداوات ولا حروب ولا هموم قومية او وطنية او قطرية، اما السجون فيعدّون لاغلاقها مثلما يحضّرون لتسريح الجيوش واما الكلمة فانتزعت مخالبها بعدما فقدت روحها، ولم تعد تخيف حاكماً. يطمئنه ان الجميع سيكون منهمكاً بالصفقات لحصد ثمار السلام مشاريع واموالاً، دليله "ابن العم" الشاطر. وبشرى للعرب، بعد انتهاء الصراع مع العدو الذي سيتحول "شقيقاً"، ان عصر العيش الكريم سيرغم زعماء على الرحيل اذا فشلوا في برامج التنمية، ورفع مستوى دخل الفرد، وسيدفع قادة الاحزاب الى الاعتراف بعبثية بعضهم وانتهازية بعضهم وعمالة غيرهم، والاقرار بممارسة خداع الفقراء، وسياسة المعارضة للتسلق الى كراسي الحكم… وسيرغم المثقفين على رفع الراية البيضاء لأن الفكر المغيّب لا ينتصر الا في الاوهام، وافكار النخبة ظلت لدى العامة مثل الكماليات المستوردة. اذ ذاك، هل يبقى مبرر لطرح السؤال: اي قضية يدافع عنها العرب في بداية القرن الجديد؟… بعد اندحار العروبة امام السلام الاسرائيلي المتأمرك، وبعد مراحل تعريب الصراع وأسلمته ومآسيه "المجانية" وحقبة الارهاب والترهيب وتحديات مجانين التطرف. أي سلاح في ايدينا للتخلص من كابوس الدونية وعقدها؟ الجواب الوحيد الأكيد ان المعرفة والقوة لا تتعايشان مع الجهل والتخلف والفقر والتعصّب، بالتالي تبقى المواجهة غير متكافئة وليست مشرّفة. بعض الجواب ايضاً ان تصغير الاوطان بحجم تجارة، يدحر كل القيم امام رأس المال الجشع، ومعه تترسخ "اخوة" العدو!