ثمة زاويتان متناقضتان للنظر إلى العلاقة بين العالم العربي - الإسلامي، والغرب الأورو أميركي. فمن زاوية أولى يتبدى العالمان كحضارتين شقيقتين، اعتمدت كلتاهما، ولو بنسب مختلفة، على التراث المشترك للوحي التوحيدي والنبوة الإبراهيمية وتغذتا معاً على الفلسفة والعلوم اليونانيتين، وعلى تراث الشرق الأدنى وفكره الضارب في أعماق التاريخ. والناظرون من هذه الزاوية يستلهمون حكمة تاريخية تؤكد أن الأديان الحق لا تتصادم بل تتكامل، وأن الحضارات الحية لا تتصارع بل تتنافس، وأن من يتصادم ويتصارع حتماً هم كهنة الدين وسدنة السياسة، استغلالاً لمخاوف الإنسان أو جشعه، حيث يوسوس شيطان السياسة لا الدين، ويعلو صوت الدولة، لا الحضارة، داعياً إلى القهر أو الثأر. ويرى هؤلاء أن محمداً قد أكمل عمل عيسى، واضعاً العدالة بجانب المحبة، مثلما أضاف عيسى إلى عمل موسى واضعاً الشريعة في قالب الرحمة. وأن ابن رشد وقًّر أرسطو كما لم يوقر فيلسوفاً مسلماً آخر، وأن أوروبا اللاتينية بادلته هذا التوقير بمثله، فاستدعته إلى نهضتها الحديثة. وكما قدم الإسلام إلى الغرب الأوروبي جذره اليوناني، قدم الغرب الأوروبي إلينا بعض جذورنا التي كادت تستغلق علينا لو لم يكن هناك أمثال شامبليون الذي منحنا إحدى أهم أبجدياتنا القديمة «الهيروغليفية» لنتعرف بها على أنفسنا، ويتعرف بها العالم علينا. وفيما يعترف هؤلاء، من على الشاطئ الغربي، بفضل علماء العرب والإسلام على الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى، فإنهم يستدعون، من على الشاطئ الإسلامي، فلاسفة الغرب، كرواد للنزعات العقلانية والإنسانية من ديكارت وحتى هابرماس، مروراً بالعظيم كانط الذي صاغ أفضل قاعدة للتعايش الإنساني في مشروعه ل «السلام الدائم» ضمّنها اعتقاده بأن التاريخ كبنية حضارية مدفوع إلى الرقي دوماً، ولكن التاريخ السياسي لن يتحقق له هذا الرقي إلا إذا تأسست منظومتان قانونيتان تسيران جنباً إلى جنب، إحداهما تسيّر الشؤون الداخلية للمجتمع الواحد على أساس من الحرية وصولاً إلى الديموقراطية، والأخرى تنظم العلاقات بين الأمم على أساس من العدالة وصولاً إلى السلام، مؤكداً أنه لا يمكن تحقيق الحرية داخل الأمم إذا لم يتحقق العدل والسلام بين هذه الأمم. - أما من الزاوية الأخرى، فيتبدى العالمان في حالة صراع، وتبادل للهيمنة الاستراتيجية معظم عصور التاريخ، بدءاً من العصر المحوري، مروراً بالعصرين الكلاسيكي والوسيط، وحتى النظام العالمي الواسع للحداثة. ففي جانب من جغرافيا الحضارة كانت هناك مصر وبابل وقرطاجنة وفارس ثم الخلافتان الأموية، والعباسية، وحتى الإمبراطوريتين المغولية والعثمانية. وعلى الجانب الآخر ثمة الدول الكريتية والمينوية والأثينية، ثم الإمبراطوريات المقدونية والرومانية المقدسة، والبيزنطية، وحتى الإمبراطوريات الأوروبية الحديثة. وفي مقابل الهيمنة العربية على جنوب الغرب الأوروبي، والتوسع العثماني في البلقان وشرق أوروبا، كانت هناك الهيمنة الأوروبية «الصليبية» على شمال المشرق العربي، والاستعمار الأوروبي الحديث لمعظم أرجاء العالم الإسلامي. والناظرون من تلك الزاوية يحملون تصورات عديدة اختزالية كل عن الآخر، ظلت تنمو حتى بلغت اليوم ما يمكن تسميته «العُقد الحضارية» على منوال نظريتي «المؤامرة» و»صدام الحضارات». ولعل تفسير التناقض بين الرؤيتين هو أن ذلك الصراع المتوهم على المصير وليد شعور عميق بالغيرة لا الاختلاف. والغيرة بالمعنى الحضاري نتاج لتشابه جوهري، يدركه المتعصبون كتناقض جذري خصوصاً إذا مارس هذا التشابه حضوره في مجال جغرافي واحد، أو حيز تاريخي مشترك، أو ادعى الرسالة الإنسانية نفسها، وهو ما حدث بالفعل تاريخياً، حيث ادعى الدين المؤسس لكلتا الحضارتين، المسيحية والإسلام، أفقاً عالمياً، ومارس كلاهما تبشيراً إنسانياً، رغم الاختلاف المشهود بينهما في درجة التنزيه. كما تشارك العالمان في قيادة الحضارة المتوسطية التي تكاد تكون هي الحضارة الإنسانية حتى مطلع العصر الحديث، حينما دخل العالم الجديد إلى الزمن القديم، فأضاف الفضاء الأطلسي إلى الامتداد المتوسطي. وهكذا نجد العلاقة بين العالمين حمالة أوجه، فمن زاوية هناك أواصر قربى في الدين، وشراكة في الحضارة، ومن زاوية أخرى هناك ثارات التاريخ، وصراعاته. ولعل الرؤى الإختزالية لدى المتطرفين هنا معتنقي نظرية المؤامرة، والعنصريين هناك دعاة صدام الحضارات، تبدأ مع تجاهل آصرة القربى، وشراكة الحضارة، والنفخ في صراعات التاريخ التي تبقى في حاجة إلى إعادة تفسير بنيوي وتاريخي! فمن يستطيع القول، مثلاً، إن تلك الصراعات كانت غريبة على زمن تقليدي صاغته دوماً قوة السيف، والقدرة على الكر والفر. أو يستطع تمييزها جوهرياً عن تلك الاجتياحات التي مورست داخل كل مجال حضاري على حدة كالغزو النورماندي لبريطانيا السكسونية، والقوطي لأسبانيا الكلتية، والجرماني للإمبراطورية الرومانية المقدسة، أو حتى الحروب الدينية في القرن السابع عشر. وذلك في مقابل الغزو المغولي، ثم التركي للمشرق العربي، أو الصراع العثماني - الصفوي على هذا المشرق مطلع العصر الحديث. أريقت دماء غزيرة طوال التاريخ، وراح ضحايا كثر على مذبح حاكم مستبد، أو عائلة ملكية، دفاعاً عن دماء نبيلة أو حق إلهي مقدس في حكم الشعوب، وبالأحرى إذلالها، قبل ميلاد ذكاء تاريخي جديد تم معه تجريم فكرة الحرب، ما لم تكن دفاعية، بمواثيق وعهود دولية. ومع وجود منظمات دولية مثل عصبة الأمم، ثم الأممالمتحدة صار ممكناً أن يكون أمن المجتمعات وقداسة الحدود وسيادة الدول في عهدة المجتمع الدولي، وانتفى «حق الفتح» الذي ألهم حركة الجيوش في شتى الحضارات، وعبر كل العصور. ففي هذه اللحظة الفاصلة من التاريخ، تم تحقيق التوازن الذي نعيشه الآن بين عنصر الحضارة وبين عنصر القوة العسكرية، وهو توازن لم يكن موجوداً قبل القرن التاسع عشر على أفضل تقدير. ومن نتيجته أنه بات ممكناً لدولة أن تحوز موضعاً جغرافياً شديد التقدم، مع غياب أداء عسكري موازٍ له، فعال في حمايته. والثمن الذي قد تدفعه هذه الدولة هو فقط غياب «دورها» الدولي أو الإقليمي، فيما لم يكن هذا الثمن، في سياق الذكاء التاريخي القديم، يقل عن فقدانها للاستقلال وربما الهوية، حتى لو استمر العطاء الحضاري «لموضعها» الجغرافي دونما انقطاع، ولكن ضمن تشكيلات جيوسياسية مغايرة. ولا يعني ذلك بالطبع أن الحرب قد انتفت من التاريخ، بل تكررت سواء في إطار الاستعمار الغربي للمجتمعات العربية، أو داخل العالم الغربي نفسه مثلما كان الأمر في الحربين الأوروبيتين «العالميتين» في النصف الأول من القرن العشرين! بل وداخل العالم الإسلامي نفسه ولكنها، صارت استثنائية بعد أن ظلت هي الظاهرة الأكثر جوهرية وتأثيراً في التاريخ. وإذا كان التاريخ الإنساني قد نضج بما يكفي لأن نتجاوز معاً، شرقاً مسلماً، وغرباً مسيحياً، لحظات ضعفنا فيه، وغياب حكمتنا عنه، فإن أبرز تحد لحكمتنا المشتركة اليوم يتمثل في إسرائيل، التي تهدد، بقوة الأسلحة النووية وإلهام أساطير توراتية، منطقة القلب للحضارة الإسلامية. وهنا يبقى مستقبل التعايش بين العالمين رهناً بالإجابة على سؤال مركزي هو: هل يتم تطبيع إسرائيل للمنطقة ليتسنى لها العيش الآمن بها، كما تقضي حكمة التاريخ، أو تستمر محاولة تطويع المنطقة كلها، لإسرائيل كما يدعي منطق القوة؟ انحاز القادة الأوروبيون إلى منطق القوة فجعلوا تأسيس إسرائيل أمراً ممكناً، ربما بدافع عقدة الذنب التاريخي تجاه اليهود، سواء في أوروبا «الكاثوليكية» التي فرضت تراث الغيتو، أو الحديثة التي أكدت على جذرها الإغريقي الروماني، ولم تعل كثيراً على الجذر اليهو - مسيحي، أو تتصالح تماماً مع اليهود، وصولاً إلى المحرقة النازية التي فجرت عقد الذنب، والرغبة في البراء التاريخي ولو على حساب العرب الفلسطينيين. القادة الأميركيون، دعموا منطق القوة، وجعلوا هيمنة إسرائيل أمراً واقعاً، إذ نظروا إليها باعتبارها تجسيداً للجذر الثاني «اليهو - مسيحي» الذي أعادت الولاياتالمتحدة تدشينه في الفكر الغربي ولكن على مقاسها هي، أي على ركائز النزعة البيوريتانية الخلاصية، المتصالحة مع الحرية، حيث تم إعادة الاعتبار لليهود، على قاعدة الوئام بين المسيحية الأنغليكانية، واليهودية الأرثوذوكسية. وعندما وقعت أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، 2001، حاولت إسرائيل، والعنصريون في أوروبا والولاياتالمتحدة استغلالها في إعادة رسم الحدود الفاصلة بين العالمين، بالتأكيد من جديد على انتماء إسرائيل للغرب كقلعة متقدمة في قلب العالم العربي والإسلامي، في موازاة حضور الجاليات العربية والإسلامية في قلب المجتمعات الغربية، باعتبارها «طابوراً خامساً» قادراً على إحداث الفزع بين أهلها. وفيما كانت إسرائيل - شارون تقوم بحصار غزة وتدميرها، كان ثمة حصار للجاليات الإسلامية في الغرب بتهمة الإرهاب، وإذلالها في الولاياتالمتحدة ببنود القانون الوطني، وهنا بدا الواقع مسيّراً نحو استقطاب كامل بين يهودية - مسيحية متصالحة يجسدها الغرب خصوصاً الأميركي، وبين إسلام راديكالي يتمحور حول العالم العربي. وهكذا يستمر هذا المنطق - غير القادر على تحقيق انتصار نهائي - في ممارسة حضوره البشع، الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من مأزق يتلو آخر، وحرب تعقبها أخرى، على طريق صيانة إسرائيل كقلعة يهودية محاصرة دوماً بعقدة خوف أبدي، ومحكومة أبداً بحالة شك وجودي، تقتات على أنقاض صراع حضارتين كبيرتين، عبر حروب متقطعة، وإرهاب متصاعد، وهروب دائم إلى الأمام. وبالأمس جاء الرئيس باراك أوباما إلى القاهرة مخاطباً العالم الإسلامي «كمنطقة حضارية لا أقاليم استراتيجية» كما اعتاد العقل الأميركي العام، وعلى قاعدة «التعايش لا الصدام» كما ذهب هانتنغتون. ولكنه، في الوقت نفسه، أعاد التأكيد على علاقة أميركية جوهرية بإسرائيل غير موضع لخلاف، أو نقاش. فهل يعني ذلك أنه يبقيها في إطار ذلك الرباط العاطفي للعقيدة الألفية، بحيث تسمو على المصلحة الأميركية نفسها ناهيك عن الشرعية الدولية، وأسس التعايش مع العالم الإسلامي؟ إذا كان هذا هو أفقه النهائي، يكون ذلك نفياً لجوهر خطابه «الرائع»، لأنه يعني الخضوع لمنطق القوة مجدداً، ويترتب على ذلك أن مسعاه في حل الصراع العربي - الإسرائيلي سوف يفشل، وأن رغبته في تكريس التعايش الإسلامي - الغربي لن تتجاوز كونها عملية تجميلية، وأنه نفسه لن يعدو أكثر من ظل لبوش الأب أو بيل كلينتون. وأما تكريس هذا الجوهر والانتصار لحكمة التاريخ، فيفرض عليه أن يمدد أفقه إلى أعلى وإلى أبعد، بنفي الاستثنائية الإسرائيلية «العاطفية»، ورعاية دولة وطنية عادية، في جغرافية طبيعية، وحال سلم، تمارس من خلاله انتماءها الثقافي الذي تراه، ولكن باحترام للواقع السياسي المحيط بها، وضمنه دولة فلسطينية كاملة السيادة وقادرة على العيش، تبقى هي الخيار الوحيد الممكن، بجانب خيار الدولة الواحدة العلمانية والديموقراطية لكل مواطنيها العرب واليهود، وهو خيار أكثر إنسانية، ينادي به بعض المؤرخين الجدد خصوصاً آفي شلايم، ولكنه يبقى خياراً مرفوضاً من قبل التيار السائد في إسرائيل خشية الذوبان في نسيج المنطقة. ولا شك في أن تلك مهمة ثقيلة جداً على التاريخ، وليس على رجل واحد، ولو كان في حجم رئيس الولاياتالمتحدة. غير أنها، للأسف، تبقى مهمة عاجلة. كما تبقى، لحسن الحظ، ممكنة لرجل يمتلك العزم، ويراهن على صياغة التاريخ وليس اكتساح الانتخابات. سوف تواجهه عقبات نعم، ولكن تبقى معه أدوات للتغلب عليها. ربما هاجمه اليهود الأميركيون اليمينيون ولكن سوف يقف إلى جانبه الليبراليون. سوف يراوغه نتانياهو بكل ما يملك من صنوف الدهاء وأساليب الممانعة، ولكنه يظل قادراً على تطويعه بعشرات الوسائل التي يتيحها النفوذ الأميركي في إسرائيل والعالم. قد يمانع الجمهوريون في الكونغرس، بل ربما تململ الديموقراطيون أيضاً، ولكن إصرار رئيس قوي لديه تفويض شعبي كبير، كروزفلت إبان الصفقة الجديدة، سيمكنه من تجاوز تلك الممانعة، وذاك التململ. وأخيراً قد يعيش الرئيس أوباما نفسه لحظات شك قاسية في قدرته على النجاح، بل ولحظات يأس إزاء تفاقم الصعوبات، والتحديات، ولكن في تلك اللحظات نفسها سوف يختمر الحل، ويصير النجاح حليفه، وحينذاك سيصفق له كثيرون، على رأسهم كل الذين مانعوه، وعندها لن يصبح مفوضاً فقط، كرئيس، لولاية ثانية، بل متوجاً أيضاً، كصانع سلام، لعصر جديد في التاريخ، تتوازن فيه الحكمة مع القوة، وتتوارى عقد المؤامرة والصدام، أمام دفق العالمية الإنسانية وصيرورة التعايش الحضاري. * كاتب مصري.