بعدما جذب المخرجان بول توماس أندرسون وانطوني منغيلا اهتمام هوليوود كل بفيلم واحد من قبل، بات متوقعا عودتهما بعملين مختارين بعناية. كل عمل منهما يكشف اذا ما كان الأعجاب بهما مبكر او في محله. فيلم أندرسون السابق كان "ليالي خليعة" مجموعة من الشخصيات المتصلة بعالم صنع أفلام "البورنو": الممثل مارك وولبرغ الذي ينتهي الى أشلاء بعد وصوله الى قمة تلك الأفلام سريعا ثم غوصه في الملهيات، بيرت رينولدز في دور المخرج الذي ينظر الى ما يقوم به نظرة الفنان الى عمله، ويليام ه. مايسي الكاتب الذي تخونه زوجته في كل مكان. هذه الشخصيات ليست سوى حفنة من عدة شخصيات تتمحور حول عالم صنع تلك الأفلام في قصص أساسية وجانبية انضوت تحت إدارة المخرج الشاب اندرسون. منغيلا قدم "المريض الإنكليزي" بنجاح متعدد المستويات: حصل على اوسكار أفضل فيلم وأوسكار أفضل مخرج في العام 1996 وأعجب النقاد وحقق نجاحاً تجارياً كبيراً في الوقت ذاته: قصة المجند البريطاني الذي يعتقد أنه جاسوس يعمل كخلية مزروعة في شمالي أفريقيا، لكن كل ما يهمه من الظرف والمكان الوصول الى حبيبته زوجة الضابط الذي كان صديقا له، والتي - تبعاً لأحداث لاحقة - تموت بينما كان يبحث عن طبيب ينقله الى قلب الصحراء حيث كانا لجآ الى مغارة تأويهما. بول توماس أندرسون الآن يقدم فيلماً بعنوان "ماغنوليا" وانطوني منغيلا يعود هذا العام ايضاً بفيلم عنوانه "السيد ريبلي الموهوب". كلاهما فيلمان كبيرا الحجم، مبهران في أحيان وفي أحيان أخرى يبدوان نوعا من النفخ فيما هو عادي لدرجة التشبيع. ايضا كل منهما يحوي نجماً معروفاً يؤدي دوراً عكس المتوقع منه. لكن الأهم يبقى انهما فيلمان يدوران حول موضوع لا يبدو واحداً لدى النظرة الأولى، لكنه كذلك فيما بعد: الإنعتاق من الماضي في شتى صوره الذاتية والإجتماعية، ومن الشخص المكبل في إطاره. "ماغنوليا" ينطلق من محاولة شخصياته نبذ ذلك التاريخ الشخصي والوثوب الى حالة من طلب الغفران وتأسيس صرح من الحب الجديد، اما في "السيد ريبلي الموهوب" فالمسألة لا تأخذ بعداً اجتماعيا، لكن بطله هو ايضا انسان راغب في الإنعتاق من الذات المكبلة ولو أدى به ذلك الى تقمص شخصية الآخر. السماء تمطر ضفادع "ماغنوليا" اذا ما كان من الضروري ايجازه بكلمة، هو عن التاريخ الفردي وتأثيره في الذات. والمخرج لا يختار قصة او قصتين او ثلاثاً لإيصال رسالته، بل تسع قصص لتسع شخصيات كلها تلتقي مع بعضها البعض في مفاصل صغيرة بعد مفارقات بعضها يخرج عن نطاق المقبول وإن يبقى معقولا وواقعيا. ايرل بارتريدج جاسون روباردس يموت بالتدريج على سريره وزوجته الأصغر سناً جوليان مور تحاول إسعافه بالبحث عن الدواء المناسب تأخذها رحلتها الى أحداث منفصلة تعترف فيها بخيانتها لزوجها الذي لم تحبه الا مؤخراً. ايرل يعبر للممرض فيليب الذي يبقى الى جانبه فيليب سايمور هوفمان بأن لديه إبنا لم يره منذ ثماني سنوات ولا يعرف اين هو الآن، لكنه يود لو يراه. فيليب يبدأ بالإتصال ونتعرف على الإبن فرانك توم كروز الذي يلقي سلسلة محاضرات في موضوع الفحولة الذكورية بعدما سمى نفسه خبيراً في الموضوع ونال شهرة واسعة في الحقل الذي يدعو اليه. في هذا الوقت هناك شرطي عادي يعيش وحيدا أسمه جيم جون س. رايلي يتعرف على فتاة مدمنة كلوديا غاتور ويطلب منها موعد عشاء. أم هذه الفتاة ميليندا دالون زوجة مقدم برنامج تلفزيوني فيليب بايكر هول مصاب بالسرطان لكنه لا يزال يقدم برنامجه من الألغاز. أحد المشتركين في البرنامج صبي موهوب يعرف كل الإجابات لكنه في لحظة من اللحظات يمتنع عن الإجابة بعدما شعر بأن أحدا لا يكترث له شخصيا بل يكترث لتسويقه والإستفادة منه. هذا ما يصيب دوني ويليام ه. مايسي بالإحباط لأنه كان يوماً طفلاً عبقرياً يعرف كل الإجابات لكن ذلك لم ينفعه في حياته العملية، وهاهو الآن موظف صغير في شركة تستغني عن خدماته في مطلع الفيلم فيفكر بسرقتها. هذا هو أفضل تلخيص يمكن لي أن آتي به لفيلم متشعب يقع في 188 دقيقة تختلط فيه القصص والمواقف وتمر خيوط الشخصيات فوق خيوط الشخصيات الأخرى او توازيها. في الساعتين الأولين من الفيلم هناك تمهيد ثم تواصل في سرد الشخصيات ومنطلقاتها. فقط في الساعة الأخيرة، وعلى ايقاع موسيقى تستمر بلا توقف لنحو عشرين دقيقة كتبها جون بريون تتبلور الإتجاهات وتتنامى أزمات الشخصيات الى حصيلة موجعة. كل لديه ماض يؤلمه، وكل الآلام تصب في الساعة الثالثة من الفيلم كأفضل ما يمكن لتراجيديا حديثة أن تأتي به من شخصيات ورموز البيئة الإجتماعية التي نعيش فيها اليوم. بول أندرسون يفتح صندوقه ويخرج منها ما يبدو انه يؤرقه: الخيانة الزوجية، انهيار الأسرة، الوحدة في عالم موحش، العلاقات الشاذة ضمن الإسرة الواحدة، الأم التي تطلب الغفران لنفسها والأب الذي يضويه الموت والموهبة التي لا تجد لها مجالاً تنمو فيه فتنتهي الى حافة الجريمة. وفي هذه الساعة الثالثة تحديداً تنهمر السماء بمطر غريب: آلاف الضفادع تهطل علي الرؤوس في مشهد يستمر لنحو ربع ساعة زاخمة، لاهبة، مسيطرة على الحواس و... خاوية في ذات الوقت من كل رمز محدد. مشكلة "ماغنوليا" انه محشو دوماً بالاستطرادات يكفي المشهد الطويل الذي نعود اليه مراراً وتكرارً بين مذيعة تلفزيونية تجري تحقيقا مع توم كروز والذي يبدو أنه كتب ليناسب الممثل المعروف اذ أن دوره - رغم ذلك - صغير. كما أن شخصية الزوجة مور تخفق في ايصال ما هو مقنع. أحذفها من الفيلم تجد أن غيابها لن يترك تأثيراً فعلياً. هذا التطويل بما يحمله من حشد فائض عن الحاجة هو المشكلة الحقيقية الوحيدة في "ماغنوليا" الذي لا ريب يؤكد موهبة توماس بول أندرسون كمخرج ذي أسلوب فني وطاقات درامية وقدرة على إدارة الممثلين ضد اللون المعتاد لهم توم كروز ومايكل س. رايلي. البطل القاتل ريبلي "السيد ريبلي الموهوب" فيلم مختلف تماماً: قصة الكاتبة البوليسية الراحلة باتريشيا هايسميث تحت العنوان ذاته تجد في كتابة واخراج انطوني منغيلا روحاً سينمائية ذكية ومؤثرة ولو أنها تبدو أحياناً حائرة في معرفة الاتجاه الذي تريد أن تمضي فيه. قبل نحو ثلث ساعة من نهاية الفيلم يتاح للفيلم أن يتوقف عند موقف مناسب فيه من الحدة أكثر مما في النهاية الفعلية اللاحقة، لكن المخرج يختار المواصلة فيخسر الفيلم قدراً من زخمه. الفرنسي رينيه كليمان قدم القصة من قبل في فيلم من بطولة آلان ديلون بعنوان "شمس ساطعة" في العام 1960 اي بعد خمس سنوات من نشر القصة الأولى من بطولة الشخصية توم ريبلي اتبعتها المؤلفة بخمس روايات أخرى من بطولته من بينها "الصديق الأميركي" الذي حققه الألماني فيم فندرز في الثمانينات. اذا كانت السينما الأميركية تنوي تحقيق المزيد من روايات ريبلي/هايسميث فإن هذا الفيلم بمثابة بداية جيدة ومنطقية، ففيه نتعرف على ريبلي الشاب مات دامون موظفا صغيرا في شركة أميركية في الخمسينات . رئيس الشركة جيمس ريبهورن يعطيه 1000 دولار وتذكرة سفر الى ايطاليا على أمل إقناع إبنه ديكي جود لو بالعودة. ريبلي يعجبه الجو هناك أكثر واذ يصل الى ديكي وخطيبته مارج غوينيث بولترو يترك للرغبة في التقليد تقليد الحياة المرفهة التي لم ينعم بها يوماً الاستيلاء عليه. يصاحب ديكي بعدما كشف له السبب الذي جاء من أجله، ونراه بالنظرات والتعبير الصامت يتمنى كل شيء يملكه ديكي لنفسه: النظرات الجاذبة، الحرية، المال والقوة الجنسية، وهناك أكثر من مشهد يحمل رمزا في هذا الإطار، بل أن الغيرة الجنسية قد نكون الدافع الحقيقي الأول وراء تمنيات ريبلي ولاحقاً وراء قيامه بقتل ديكي خلال رحلة بحرية وإلقاء جثته في البحر. هنا تبدأ الحكاية بالنضح: ريبلي يقرر ان يعيش حياة مزدوجة: انه ريبلي أمام خطيبة ديكي التي لا تدري لماذا اختفى عنها؟ وأمام صديق ديكي الفطن فردي فيليب سايمور هوفمان مرة أخرى، لكنه ديكي أمام باقي الناس بمن فيهم المرأة الشابة التي كان التقى بها على ظهر الباخرة قبل وصوله الى ايطاليا كايت بلانشيت. المنهج هنا لا يزال بوليسياً، لكنه شفاف تستطيع أن تقرأ فيها لغة تواصل جنسي ونفسي بين ريبلي وديكي في البدن الواحد ومن بعد قتل الأول الثاني. ألفرد هيتشكوك حقق "غريبان في القطار" عن قصة أخرى لباتريشيا هايسميث وتستطيع أن تقرأ ميل الكاتبة للتعمق في مثل هذه المواجهات النفسية/ الجنسية الحادة. لكن كما حل هيتشكوك معضلة نقلها الى الشاشة من دون أن يجعل منها الهاجس الطاغي او المحور البارز، يفعل منغيلا الأمر ذاته والنتيجة في الفيلمين مبهرة: القدرة على تناول مثل هذا الموضوع الشائك من دون الخروج به الي الواجهة. تتعقد الأمور بقيام ريبلي بقتل فردي وهذه الجريمة تجذب البوليس الايطالي الى التحقيق الذي يحاول الوصول الى الحقيقة. ما يمنعه هو أنه يعتقد أن ريبلي هو ديكي فعلاً، بذلك يكون ريبلي هو الغائب وليس ديكي. الحياة المزدوجة الخطرة التي يقودها ريبلي تتجاوز معظم هذه الفخاخ المنتصبة أمامه. فقط مارج بولترو واثقة من أن ريبلي قتل ديكي... لكن أحداً لا يزمع تصديقها. النهاية تكشف عن حلقة أخرى أدعها للقراء حتى لا أفسد الحكاية كلها. في حين كان يمكن لمخرج آخر دفع الفيلم في قناة الأعمال البوليسية الداكنة يختار منغيلا معالجة شاملة. التشويق موجود دائماً لكنه مُحاك بنسيج لا ينتمي الى نوع أسلوبي محدد. هو أقرب الى تلك الكلاسيكيات في الستينات التي كنت تعرف أنك تشاهد نوعاً معيناً فيها، لكنك ترفض الإنضواء فيه. مدير التصوير جون سيل يلمع بتصوير تلك المشاهد الايطالية، ينقل الجمال الكامن تحت شمس المتوسط وعلى سطح بحره وفي المشاهد الداخلية يعني بإحكام اللقطات حول ريبلي لأنه المتهم الذي يحاول، وينجح في، الإفلات من الأطواق التي تلفه. مات دامون في أول خروج له عن صورة الفتى الجميل يجد مادة يمكن الدفاع عنها طويلاً: انه الشاب الذي عاش سابقاً شخصية سجينة وتواقة الى الحرية والحرية هنا هي الإنعتاق في الآخر الأنجح والأوفر حظاً.