قبل شهور كنا في «الملحق» قد بدأنا نشر سلسلة من المقالات حول من سمّيناهم «ستة من الكلاسيكيين الجدد في السينما الهوليوودية المعاصرة»، ولكن بعد نشرنا مقدمة للسلسلة ثم الحلقة الأولى التي كرسناها للحديث عن المخرج دافيد فينشر، أدت «هجمة» المهرجانات والمناسبات السينمائية الخاصة الى تأجيل بقية الحلقات التي كان يفترض ان تتناول على التوالي، سينما بول توماس أندرسون وجيمس غراي وألكساندر باين وفيس أندرسون... الخ، على اعتبار أنهم أبناء الجيل الهوليوودي التالي لجيل جيم جارموش ودافيد كروننبرغ... إلخ. واليوم، في انتظار «هجمة» أحداث ومهرجانات جديدة نخلي المكان لتناولها، نستعيد نشر بعض ما يمكن من هذه الحلقات، فنتناول هنا المخرج بول توماس أندرسون الذي يبدو متميّزاً الى حدّ كبير حتى بين المتميّزين، الى درجة ان ثمة من بين النقاد من يقارنونه بالراحل ستانلي كوبريك، من ناحية قلة إنتاجه، ولكن ايضاً بأورسون ويلز من ناحية دقّته في عمله، وتنوع مواضيعه، ثم بخاصة دنوّه من السينما دنوّ كبار المخرجين المؤلفين، ناهيك بمواضيع أفلامه التي تلامس أحياناً خطوطاً حمراً في المجتمع الأميركي. ملحمة عن سيّد ما... ونعرف ان الفيلم الأخير الذي حققه أندرسون خلال العامين الفائتين، اعتبر تحفة سينمائية استثنائية، إسوة بمعظم ما حقق هذا المخرج «الشاب» (44 سنة) من أفلام هي قليلة العدد حتى الآن، إذ لا تحمل الفيلموغرافيا الخاصة به سوى أسماء سبعة أفلام، يقابلها في لائحة ترافق سيرته عشرات الجوائز التي نالها والمهرجانات التي تنازعت تلك الأفلام. هذا الفيلم هو «السيّد» («ذا ماستر») الذي اتى اشبه بملحمة تتناول فصولاً من سيرة مؤسس غامض لطائفة دينية/اجتماعية في أميركا منظوراً اليها من وجهة نظر العلاقة التي تقوم بين ذلك المؤسس - الذي لعب دوره في شكل استثنائي الراحل فيليب سايمور هوفمان الذي رافق أندرسون في معظم أفلامه كما حال الكثير من الممثلين والتقنيين الذين عملوا دائماً مع هذا المخرج كفريق متجانس - وتلميذ له يصبح نوعاً من العبد المقرّب اليه خلال فترة قصيرة. ونعرف ايضاً ان الفيلم قد اثار الكثير من الضجة عند عرضه، ولا سيما في أوساط طائفة «العلماوية» التي رأت في الفيلم مساساً بتاريخ مؤسسها رون هوارد الذي كان من الواضح ان شخصية السيد إنما رسمت انطلاقاً منه. وقد كان هذا السجال الذي وصل الى القضاء يومها، مناسبة لتذكّر القضية التي رفعها الثري دافيد هيرست ضد أورسون ويلز متهماً اياه، في سنوات الأربعين، بتصوير سيرة حياته بشكل مشوّه، تحت قناع السيد كين في فيلمه الأول «المواطن كين». لكن المؤسف ان كل هذا لم يشفع ل «السيد» أوسكارياً حيث نال فقط ثلاثة ترشيحات أوسكارية، منها أفضل ممثل لبطله الثاني الذي قام بدور تلميذ السيد و «عبده» الأمين جواكيم فينيكس، من دون ان يعطى اي اوسكار. شكسبيرية سينمائية مثل هذا كان قد حدث قبل ذلك مع الفيلم السابق، أو لنقل من دون اي تحفظ، التحفة السابقة لبول توماس أندرسون «ستكون هناك دماء» المأخوذ عن رواية «بترول» للكاتب الاشتراكي الأميركي آبتون سينكلير. يومها ايضاً، في العام 2008، كانت كل التوقعات تشير الى ان «ستكون هناك دماء» الشكسبيري بامتياز، و «الويلزي» بامتياز ايضاً - نسبة الى اورسون ويلز -، سيحصد عدداً كبيراً من الأوسكارات، لكنه لم يفعل واعتبر كثر الأمر ظلماً لذلك الفيلم ومخرجه من دون أن يروا عزاءً كافياً في فوز بطله دانيال داي لويس بأوسكار افضل ممثل عن دوره فيه هو الذي قدّم في الدور واحداً من اقوى الأدوار التمثيلية في تاريخ السينما المعاصرة، تحت إدارة بول توماس اندرسون. يومها لمناسبة عرض هذا الفيلم الذي يأخذ الألباب بقوته، ناهيك بكونه قد عرف كيف يخرق كل القوانين التي تتحدث عن تعقّد العلاقة بين الأدب والسينما لمصلحة السينما، تحدثنا هنا عن المخرج وعن حضوره الفذ في السينما المعاصرة، مشيرين الى انه ينتمي الى ما يسمى ب «الجيل الجديد» من السينمائيين الأميركيين، حتى وإن كان مشاهد ذلك الفيلم كما قلنا سيخيّل اليه انه أمام مخرج حقق عشرات الأفلام في سنوات طويلة، اي حقّق عدداً من الأفلام كافياً لإيصاله الى حال النضج التي ينم عنها هذا الفيلم. والحال أن دهشة كبيرة تستبد بمن يكتشف أن أندرسون لم يكن حينها قد تجاوز بعد، الثامنة والثلاثين، ويتساءل هذا المندهش: كيف تمكن اذاً مقارنة «ستكون هناك دماء» ب «المواطن كين»؟ من الواضح ان هذا المتسائل ينسى ان أورسون ويلز حين حقق فيلمه التحفة هذا، كان بالكاد تجاوز الخامسة والعشرين... فحقق فيلماً استثنائياً، بل مثّل فيه أيضاً دور كهل يكاد ينتقل الى سن الشيخوخة. بول توماس اندرسون لم يمثّل، طبعاً، في «ستكون هناك دماء» ولم يمثل في أي فيلم له من قبل ومن بعد. بل انه - على عكس المخرجين المؤلفين الذين يحسب في عدادهم - لم يكتب، هذه المرة، قصة الفيلم كما اعتاد أن يفعل في أفلامه السابقة («سيدني» أو الثمانية القاسية» 1996، و «بوغي نايت» 1997، و «ماغنوليا» 1999، و «غرام حيص بيص» 2002)... ذلك انه، وكما يقول بنفسه، كان يستعد لكتابة قصة وسيناريو فيلم جديد، حين قرأ مصادفة، رواية «نفط» لآبتون سنكلير، فقرر من فوره أن يحولها فيلماً، إذ رأى فيها كل امكانات تشكيل قاعدة لسينما كبيرة من النوع الذي يحلم به. منذ فيلمه الأول الذي حققه وهو في السادسة والعشرين، اكتشف النقاد - ومحبو السينما المستقلة - سينما هذا الشاب الآتي الى السينما من التمثيل والبرامج التلفزيونية، والمولود أصلاً (عام 1970) في مدينة الاستوديوات في كاليفورنيا لأب كان ممثلاً. غير أن الإخراج ولد لدى بول توماس باكراً، ومنذ كان على مقاعد الدراسة الثانوية، حين حقق فيلماً ساخراً عن واحد من وجوه السينما الإباحية الأميركية - وهو جون هولمز، الذي سيعود اليه لاحقاً في فيلمه الثاني «بوغي نايت» الذي يتمحور كله حول هذا النوع من السينما -. وبعد ذلك سيواصل بول توماس تحقيق الأفلام القصيرة، ورسم المشاريع الكبيرة في خلواته، حين انتقل الى العمل مساعداً للإنتاج، على أثر دراسة السينما لسنوات قليلة، في إمرسون كولدج ومدرسة نيويورك، حتى حقق فيلم «سجائر وقهوة» القصير (1992) ليعرض في مهرجان ساندانس وينال اعجاب النقاد وجائزة، ما مكنه عند ذاك من تحقيق فيلمه الطويل الأول «سيدني» (أو «الثمانية القاسية»)، الذي حقق من النجاح - وإن بتواضع - ما جعله ينصرف من فوره، في العام التالي الى تحقيق «بوغي نايت» مستخدماً فيه نجوماً من الصف الأول (بيرت رينولدز، مارك وولبرغ، هيذر غراهام، وخصوصاً جوليانا مور، التي ستبدع واحداً من أفضل أدوارها في فيلمه التالي «ماغنوليا»). والحقيقة ان هذا الفيلم الأخير، أتى تحفة سينمائية استثنائية، من ناحية قدرة مخرجه (وكاتبه طبعاً) على ربط مجموعة من الحكايات ببعضها بعضاً، ثم المقاربة بينها، فالمباعدة من جديد ودائماً انطلاقاً من التركيز على «مبدأ الصدفة» الذي خصّه بتمهيد في الفيلم كان إحدى علامات ما - بعد - الحداثة في السينما الأميركية الجديدة. اشتغل بول توماس على «ماغنوليا» الذي تدور أحداثه في يوم واحد، في شكل تجديدي تماماً، حتى وإن كان استخدم فيه - أيضاً - عدداً لا بأس به من نجوم الصف الأول، وصولاً الى جاسون روباردز (الذي لعب في الفيلم دور عجوز يحتضر وهو ما سيكونه روباردز بعد أسابيع قليلة من عرض الفيلم)، الذي سيدور اليوم الطويل من حوله، شاملاً رغبته في رؤية ابن كان هجره منذ زمن (توم كروز)، وفي الإفصاح عن حبّه لزوجة صبية تبذل طوال ذلك اليوم جهداً هائلاً لمنع عذاب الاحتضار عنه (جوليانا مور)... وهذه الحكاية تتيح للمخرج أن يمر على عالم الإنتاج التلفزيوني وبرامجه المدمرة للصغار والكبار (خصوصاً من خلال حكاية رابح في مسابقات الصغار دمر ذلك الربح حياته، ومراهق يشارك اليوم وتستعد حياته لأن تدمر) وعلى عالم الوعظ التبشيري - الذي سيعود اليه في شكل خلاق في أخيره حتى الآن «السيّد» - على الشاشة الصغيرة، وما الى ذلك. وهذه الشخصيات جميعاً، يوحّدها الفيلم في كآبة الزمن واليأس الوجودي، قبل أن يعود الى توحيدها في أغنية جماعية رائعة من ناحية، وفي تلقي أمطار تنزل ألوف الضفادع فوق المدينة من ناحية أخرى. المجد يأتي باكراً إذاً، في «بوغي نايت» و «ماغنوليا»، جعل اندرسون لنفسه سمعة المخرج الذي لا يعطي البطولة في عمله لممثل واحد، بل يجعل الفيلم - كما الحياة - ميداناً للبطولة الجماعية التي تتحول بين لحظة وأخرى الى لا/بطولة. غير انه في فيلمه التالي، عاد الى ما يشبه النمط الكوميدي والبطولة المحصورة. ففي فيلم يمكن أن نطلق عليه في العربية اسم «غرام حيص بيص» وجعل البطولة فيه لآدم سندلر وإيمي واطسون، صوّر اندرسون حكاية غرامية رومنطيقية تبدو للوهلة الأولى كلاسيكية وعادية، لكنها مع شيء من التدقيق، ستبدو طارحة مجموعة من الأبعاد الجديدة كالعلاقات العائلية، والخوف من الحب، مع اشارات الى زمن الاستهلاك والعنف، إذ يصبح ما وراء الخير والشر... هذا من دون أن ننسى لمسات تنتمي الى حيز يتأرجح بين السوريالية وعبثية سينما الهزل الصامت في عشرينات هوليوود. وبعد ذلك في «ستكون هناك دماء»، تمكن اندرسون من أن يحقق واحداً من أفضل الأعمال التي خرجت من هوليوود خلال السنوات الأخيرة... بل حتى، عملاً، من الصعب القول انه ينتمي تماماً الى ما كان متوقعاً من سينماه، خصوصاً أن مخرج الأداء الجماعي، هذا، قدم هنا فيلماً يكاد لا يوجد فيه سوى ممثل وحيد، سيُجمع كل الذين شاهدوا الفيلم على أنه اذا كان ثمة من منافس لبول اندرسون وقوة تعبيره في الفيلم، فإن هذا المنافس لم يكن سوى الممثل الاستثنائي الذي قام بالدور: دانيال داي لويس، الذي نال عن هذا الأداء أوسكار أفضل ممثل، كما ذكرنا، فيما لم ينل اندرسون أي جائزة أوسكار خاصة. والحقيقة أنه لو نالها لكان السؤال الآتي سيصبح: ما الذي يمكنه أن يفعل بعد، هذا المخرج إذ يصل الى ذروة لغته وذروة المجد بفضلها، حين يتقدم به العمر سنوات أخرى؟ كان «السيّد» هو الجواب، إذ - وعلى غير توقّع - عرف فيه أندرسون كيف يتفوق على نفسه، ولا سيما هذه المرة ايضاً في ادارة الممثلين وجرأة تناول الموضوع، وابتكار لغة سينمائية خاصة تجعلنا مرة أخرى أمام تلك النزعة الملحمية التي ميّزت «ستكون هناك دماء». ومن بعد «السيّد» وكما يحدث في كل مرة أمام عمل إبداعيّ كبير، طُرح السؤال عما سيكون من أمر بول توماس أندرسون من بعده. فأتى قسم من الجواب مباغتاً هذه المرة أيضاً: سيحاول ما كان يعتبر مستحيلاً: فهو اليوم في صدد إنجاز فيلمه الثامن، وعنوانه «رذيلة موروثة». والحقيقة أنه إذ يبدو العنوان مألوفاً لمن هم مطّلعون على الأدب الأميركي الحديث والطليعي والذي اشتهر بأنه عصي على الأفلمة، سنبادر الى إخبارهم بأنهم محقّون. ففيلم أندرسون الجديد مقتبس عن واحد من أكثر هذه الأعمال غموضاً وسحراً، الرواية بالعنوان نفسه لكاتب هو الآخر من أكثر كتاب الحداثة الأميركية غموضاً وسحراً: توماس بينشون. هذه الرواية كما معظم روايات بينشون تعتبر تحدياً حقيقياً لأي قارئ... فكيف بحالها مع مبدع سينمائي يحاول تحويلها صوراً؟ يقيناً اننا هنا أمام واحد من اصعب التحديات في السينما المعاصرة. فهل سينفد بول توماس اندرسون بجلده مرة أخرى ويثبت مكانته السامية في عالم السينما الكبيرة حين ينجز الفيلم في مجرى هذا العام وتتخاطفه المهرجانات كالعادة؟