يثبت معرض الفنانة الأميركية جوان ميتشل الجديد أن «التيار الانطباعي» ما زال على قيد الحياة، مستمراً منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى فترة ما بعد الحداثة الراهنة. ذلك انه من الشائع نقدياً أن تيار «التجريد الغنائي» الباريسي لما قبل الحرب العالمية الثانية كان استمراراً للانطباعية. ولكن الأمر في نيويورك كان مختلفاً فقد تجاوزت هذا التيار جماعة «التعبيرية التجريدية» (من روتكو وكوونينغ وحتى بولوك وستيل). فنانتنا تناسل تجريدها من التوليف بين هذين الاتجاهين، لذلك يعتمد عنوان المعرض على تعبير نقدي مجازي يسمها «بالانطباعية التجريدية» هي التي عاشت تجربتها الفنية متراوحةً بين طرفي المحيط الأطلسي ما بين نيويورك وباريس. وهو ما يثبت من جهة أخرى أصالة التراشح والتواشج بين مدرسة باريس ونظيرتها في نيويورك لما بعد الحرب العالمية الثانية. تكاد موهبة ميتشل الانطباعية تجعل من تقاليد المعلم كلود مونيه استمراراً عضوياً لرفيق فرشاته ونبض الضوء في ألوانه المعدنية وتعاكساتها، ليس بالصدفة إذ أن معرضها الراهن البالغ العناية أقيم في «محترف مونيه» التاريخي «جفرني»، فهو قصره المنيف الحافل بأزهار النينفار العائمة على سطوح المياه الآسنة في البرك والبحيرات وعلى كثب من جسره الياباني، أي أن المعرض (المستمر الى نهاية العام الراهن)، أقيم في متحف معلم الانطباعية وبجوار متحف الانطباعية الأميركية. يسمح لنا المعرض بمراجعة مسيرتها الفنية ومدة تطابق تجربتها الحياتية المعاشة مع أسلوبها التوليفي. هي من مواليد شيكاغوعام 1926، من عائلة ثقافية فوالدتها كانت أديبة معروفة، هو ما هيأ لها أفضل الظروف في تحصيلها الدراسي الفني في معهد فنون شيكاغو ما بين 1944 و1947 لتستكمل هذه الدراسة في نيويورك، حيث تعرفت الى آثار معلمي الانطباعية الفرنسيين، خصوصاً أن أغلب أعمالها الفنية كانت مقتناة من أميركيين منذ ما بعد الحرب، هو ما يفسر التأثير الانطباعي الفرنسي على نظيره الأميركي وتأثيره بخاصة على مدرسة نيويورك التجريدية في الستينات وسرعان ما استعارت ميتشل عصبية الأداء والفراشي المتسارعة لهؤلاء، لتشكل بعد فترة أحد أعمدة «التعبيرية التجريدية» أو بالأحرى «الانطباعية التجريدية» كما سماها المعرض الراهن، فلوحاتها تمثل مشاهد مجهريه مقطعية من لوحات مونيه بعكس الشمس (كونترجور) بديناميكية حركية محلية، يذكرني هذا باحدى أبرز صالات العرض في لندن وهي «تات غالوري» فقد عرضت في إحدى صالاتها الرحبة أربع لوحات عملاقة يتجاور فيها الأعلام مونيه وروتكو وبولوك مع ميتشل. هذا يكشف عمق التواصل التشكيلي الأميركي - الفرنسي الذي تعتبر ميتشل رمزاً له، وهي كانت تصرح بأنها تنقل عن الطبيعة منظار مونيه للمسافة اللونية أو القزحية الضوئية التي تقع بين عين المصور والمنظر الطبيعي. كما كانت تلح على العلاقة مع الموسيقى خصوصاً ما بين دوبوسي وسترافسكي. إذا عدنا إلى سيرتها المرتحلة وجدناها تستقر خلال ربع قرن (ابتداء من 1967) في منطقة مونيه نفسها، تصور لحظات زحف الليل من اجل ابتلاع آخر التفافات نهر السين، هي اللحظات الأشد صمتاً وتأملاً، والأشد هروباً من الزمن الوقائي الذي كان يشغل معلمها مونيه. وهكذا استقرت في وطن حلمها الانطباعي «باريس» وافتها المنية عام 1992.