بعيداً من الضجيج وصخب العاصمة الفرنسية الإعلامي والفني والتدافع الثقافي والسياحي، ينتبذ «متحف سان إيتيان للفن المعاصر» زاوية قصية في الخريطة الفرنسية تلامس الحدود الإيطالية، في مقاطعة زاهية تقع بين نهر الرون وجبال الألب (رون - ألب)، منفردةً بمعرض حدثي بالغ الأهمية وبالتعاون مع «دار الأوبرا». تستقبل جدران المتحف وقاعاته الرحبة مختارات من ممثلي الجيل الرابع منذ تأسيس الفن الأميركي واستقلاله عن الأوروبي (خصوصاً الإنكليزي). ومن دون التقصير التحليلي بدراسة مرجعياته في الجيل السابق، أي الثالث وهو جيل الخمسينات مؤسس الحداثة والمعاصرة لما بعد الحرب العالمية الثانية، مستثمراً أبحاث الذين هربوا إلى نيويورك مع بداية، أو قبيل الحرب من أمثال الفرنسي مارسيل دوشامب والألماني موهولي ناجي، علماً أن رواد هذه الوثبة الخمسينية التي وصلت إلى ذروتها في بداية الستينات تعتمد على أميركيين من أصول أوروبية، هم الذين أطلق على كوكبتهم: «التعبيرية التّجريدية» بصفتها توليفاً نيويوركياً بين التعبيرية الألمانية والتجريدية الغنائية في مدرسة باريس. معروف أن هؤلاء (الجيل الثالث) انتزعوا «مونوبولية» باريس وريادتها للفن الحداثي لمصلحة نيويورك التي أصبحت العاصمة التشكيلية الجديدة للمعاصرة المستقبلية. من أبرز هؤلاء المؤسس الأرمني أرشيل غوركي، تبعه جاكسون بولوك، ثم روتكو ثم أبرزهم الهولندي الأصل وليام دوكوونينيغ. ثم تدعّم استقلال المحترف النيويوركي عن أوروبا بسيطرة تيار «البوب آرت»، ثم تطويره بالتوليف مع «الدادائية المحدثة» ومع الواقعيات الجديدة الفرنسية، لعلّ أبرز هؤلاء هو الألماني الأصل روشنبرغ، ثم تتالت تيارات السبعينات لتطل على وسائط «ما بعد الحداثة»: من فيديو وإنشاءات ومنمالية وبرفورمانس (نتيجة تطوير مجموعة لوكسوس الألمانيّة، ناهيك عن تأسيس مدرسة باوهاوس جديدة في نيويورك) ثم اللاندآرت وفن البيئة وسواهما. الواقع أننا لا نعرف عن الفن النيويوركي سوى رواد هذه المرحلة، كما لا نعرف الجيل الثاني ما بين الحربين، ولا الأول المؤسس. هنا، تبدو الأهمية الاستثنائية للمعرض الجديد الذي يعرض نماذج الجيل الرابع الراهن الذي ابتعلت شهرته نجومية الجيل الثالث. لعل الأبرز في معرضنا هما جويل شابيرو المولود عام (1941)، وبيتر هالي (1953)، رافقا المعرض وسافرا إليه، الأول يعمل عميداً للبوزار بصفته نحاتاً معروفاً منخرطاً ضمن تيار المنمالية الهندسية. شارك في المعرض بإنشاءات معمارية في باحة العرض الرحبة، محققاً كعادته إعادة توزيع الأشكال المعروفة أبجدياً، أو التي تحفظها الذاكرة في التنظيم الحضري الحديث، يتركنا كوميسير المعرض (المفوض) نُصغي إليه بسبب سعة ثقافته: «أنا لا أخترع، بل أعيد استخدام أشكال موجودة، محاولاً إحكام تنظيمها مجدداً، تماماً كما هو التأليف الموسيقي». وعندما طرح عليه السؤال الجوهري حول وجود أسلوب نيويوركي متمايز؟ أجاب بأنه لا يعتقد أبداً بذلك وأنه: «يجب الشك في هذه الدعوى الواهية». والشك في القول الشائع أن «الفنانين الذين يعملون في نيويورك يحولون الروث إلى ذهب!». «بالطبع أنا مارست مهنتي في هذه المدينة وفي شروطها، لكن أعمالي لا علاقة لها بها ولا حتى بأميركا. لأن هذه الأشكال بالنسبة إلي مرتبطة بالحياة، هي التي تعيد بناء الثقافة البصرية، بل إن الثقافة مشروطة بالشكل الشمولي الفني الجديد». يقول إنه وزميله بيتر هالي ينتميان إلى كوكبة النيويوركيين الأصليين مع ألكس كاتز، ويخلص إلى نتيجة بأنه «إذا كان لا يجمعنا أسلوب واحد فهناك قرابة بدرجة ما». هذه القرابة في لوحات الجالية النيويوركية تقع على مستوى وحدة الحساسية الشمولية، يرصدها الزائر أكثر من العارض، مقارنة ببقية التظاهرات على الأقل في الموسم الراهن. والمثال الساطع أن هؤلاء يعترفون بتأثير موسيقى فيليب دوغلاس في أعمالهم، هو الذي يعزف مع فرقته طوال فترة العرض في الساحة المركزية، وهو ما جعل للافتتاح نكهته الإيجابية الخاصة. إن تجريدات هالي تقع بين خصائص هذه الموسيقى ومشاهد ناطحات سحاب نيويورك (المستطيل المتطاول الذي يشق السماء) أو السطح المعدن البرّاق. أما بقية العارضين فغالبيتهم أصغر عمراً منهما، مثل بريان بللوت بملصقاته التي تستعيد تبصيمات أشكال القرن العشرين، أو الفنان كاماشو الذي يقدم تأويلاً شاباً للبرفورمانس (مشاهد مختلطة أدائية في حضور الجمهور)، يعتبر النقد أن عروضه جعلت نيويورك أشد حيوية. ثم هناك الفنان تايلور الذي راجعت محاولاته منطلقات باسكيا الهمجية... المعرض يُثبت أن محترفات نيويورك الفنية الراهنة رسّخت معنى التبادل والمثاقفة التشكيلية الحيوية، من دون أدنى انغلاق أو انطواء على ذاكرة تاريخ الأجيال الثلاثة السالفة.