الكتاب: دير ياسين الجمعة 9/4/1948 المؤلف: وليد الخالدي الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت 1999 تفيد تقارير منظمة الهاغاناه أنه عند بزوغ فجر 9 نيسان ابريل 1948، شن مئة وعشرون رجلاً من منظمتي الأرغون وشتيرن هجوماً على قرية دير ياسين، فقتل أربعة من المهاجمين. ونفذ رجال المنظمتين مذبحة في القرية من دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وأنهوا عملهم بأن حملوا قسماً من "الأسرى" الذين وقعوا في أيديهم على سيارات وطافوا بهم في شوارع القدس في "موكب نصر" وسط هتافات الجماهير اليهودية. وبعد ذلك أعيد هؤلاء "الأسرى" الى القرية وقتلوا. ولهول المجزرة سارعت الهيئات الصهيونية الكبرى، كالهاغاناه والوكالة اليهودية ورئاسة الحاخامين، الى إدانة المجزرة. وسرعان ما غدت دير ياسين مضرب مثل ونموذجاً للفظاعات التي ارتكبت في سنة 1948. وأصبح تأثير المجزرة في هجرة الفلسطينيين، في تلك السنة، موضوع سجال كبير في الأوساط الاسرائيلية والفلسطينية. وتكثر المؤلفات عن مجزرة دير ياسين سواء بالعربية أو الإنكليزية أو العبرية، الا أنها ليست مرجعاً كافياً وافياً لما حدث في ذلك اليوم الرهيب والأيام التي تلته. لذلك عملت مؤسسة الدراسات الفلسطينية على اعداد دراسة خاصة تتعلق بهذا الموضوع صدرت في صيغتها الأولى في الذكرى الخمسين لدير ياسين ضمن سلسلة من عشرة مقالات للمؤلف نشرتها "الحياة" ابتداء من 9 نيسان 1998. اعتمد المؤلف نص "الحياة" أساساً لكتابه، لكنه أجرى عليه تعديلات وإضافات كثيرة، وأردفه بمئتين وثلاث وثمانين حاشية وملاحق ليتكوّن من ذلك هذا المرجع الموثق الذي يغطي أحداث تلك الأيام لحظة بلحظة. فماذا في الدراسة الجديدة؟ تتميز الدراسة عما سبق أن نشر بمختلف اللغات بأنها تقوم على ثلاثين شهادة تفصيلية لشهود عيان من الناجين من دير ياسين، بما في ذلك شهادات لمقاتلين دافعوا عن القرية أثناء الهجوم عليها. وضم المؤلف اليها شهادات من الأصول العبرية لقادة وأفراد من قوات المنظمتين الإرهابيتين إيتسل الإرغون وليحي شتيرن ومن قوات البلماح والهاغاناه، راقبوا سير الأحداث خلال الهجوم أو اشتركوا فعلاً فيه أو دخلوا دير ياسين في الأيام التالية مباشرة. وربط المؤلف جميع هذه الشهادات بعضها الى بعض، وأردفها بشهادة ممثل الصليب الأحمر الدولي الذي دخل دير ياسين يوم الأحد 11 نيسان 1948، وبوقائع اجتماع عسكري عقد في مقر المندوب السامي البريطاني في القدس في حينه، وبرواية للأحداث وردت في مذكرات المسؤول الفلسطيني الرئيسي في القدس الدكتور حسين فخري الخالدي أمين سر الهيئة العربية العليا نقلاً عن مذكراته المخطوطة، لتشكل هذه المواد جميعها سرداً متصلاً لسير الأحداث عشية الهجوم وخلاله وبعد انتهائه. وتتميز الدراسة أيضاً بأنها تعالج أحداث دير ياسين ضمن منظور عام لمسار القتال في الأسابيع الأخيرة من الانتداب البريطاني، وللاستراتيجية الصهيونية السياسية والعسكرية حيال التقسيم، خصوصاً تجاه القدس، ولموقع ما حدث في دير ياسين وأثره في مسار القتال عموماً، ولموقف كل من اليمين الصهيوني واليسار الصهيوني من واقعة دير ياسين، ولعلاقة ذلك بنهج قواتهما القتالي حينذاك. لم تكن دير ياسين أول قرية فلسطينية تعتدي عليها القوات الصهيونية سنة 1948، نسفاً وقتلاً، فقد سبقتها الطيرة وشفا عمرو وسعسع وبيار عدس والحسينية وغيرها الكثير. كما لم تكن دير ياسين أول قرية فلسطينية تحتلها القوات الصهيونية سنة 1948 وتطرد سكانها منها بعد أن استشهد منهم من استشهد، فقد سبقها كل من خُلدة ودير محيسن ولفتا والقسطل. كذلك لم تكن دير ياسين آخر قرية فلسطينية يصيبها ما أصابها سنة 1948 من قتل ونسف وتهجير واحتلال، فقد تبعها خلال السنة ذاتها أربعمئة قرية ونيف درست معالمها ومنازلها درساً ووُزِّعت أراضيها ومزارعها على سكان مستعمرات يهودية أنشئت على أنقاضها. فلماذا اكتسبت دير ياسين دون غيرها من قرى فلسطين المذكورة هذه "المكانة"؟ أولاً - تميزت دير ياسين بقربها من العاصمة القدس، الأمر الذي مكن من الاطلاع على ما جرى فيها بكل تفاصيله. فقد دخل ممثل الصليب الأحمر الدولي المقيم بالقدس صباح يوم الأحد 11 نيسان الى القرية لينقل الى العالم الخارجي ما شاهده قبل أن ينجح المعتدون في اخفاء معالم جريمتهم. كما أن المعتدين أنفسهم طافوا "بأسراهم" في الأحياء اليهودية قبل ارتكاب مجزرتهم وقذف من تبقى من النساء على حدود الأحياء العربية. ثانياً - عقد قادة المنظمتين الإرهابيتين شتيرن والارغون في القدس مساء الجمعة 9 نيسان مؤتمراً صحافياً دعوا اليه ممثلي الصحف والإذاعات الأميركية دون غيرهم، وتباهوا فيه بنصرهم "العسكري"، كما تباهوا باشتراك قوات البلماح في الهجوم - وهو ما أحرج الوكالة اليهودية - وذكروا كذباً انهم قضوا على 245 عربياً، وهو رقم تناقلته فوراً الإذاعات الحكومية والعالمية والعربية. ثالثاً - اضطرت الوكالة اليهودية في أعقاب ضجة الاستنكار العالمية الى تكذيب اشتراك قواتها - أي قوات البلماح - في الهجوم، واضطرت أيضاً الى توجيه برقية اعتذار الى الملك عبدالله، تلتها برقية اعتذار شخصية اليه من ديفيد بن غوريون، وتصاريح تشجب أفعال "المنشقين"، أي أعضاء العصابتين من قبل كبار الحاخامين، الأمر الذي ركز الأنظار على هول ما حدث. هذه أهم أسباب تسليط الأضواء على دير ياسين تاريخياً، إذ أن قوات الوكالة اليهودية الهاغاناه والبلماح دمرت بصمت مئات القرى بعيداً عن الضجيج الإعلامي والرقابة الصحافية. وما جرى في دير ياسين ان هو إلا اختزال لمجمل ما حدث في سائر القرى الأربعمئة، بحيث غدت دير ياسين رمزاً لتقصير القيادات الفلسطينية والعربية الفادح والفاضح نتيجة سماحها للعدو باستفراد قرى فلسطين قرية قرية، ومدنها مدينة مدينة، سماح لا عذر له ولا غفران. وما حدث في دير ياسين مثال صارخ على هذا التقصير، فعند بدء الهجوم على القرية توجه مختارها محمد سمّور الى القدس طلباً للعون والإمدادات، فوجد الآلاف من رجال الجهاد المقدس المسلحين يستعدون لاستقبال جثمان عبدالقادر الحسيني. وكان مئات منهم تجمعوا عائدين من معركة استرداد القسطل في قرية عين كارم بالذات، على بعد أقل من كيلومترين من دير ياسين، ينتظرون وصول الجثمان من القسطل لمواكبته الى القدس، ولم يلتفتوا الى نداءات طليعة اللاجئات اللاتي وصلن مع أطفالهن الى عين كارم ناجيات من جحيم دير ياسين. كذلك لم تحرك القوات البريطانية، المرابطة في القدس، ساكناً طوال المعركة. ويروي أحمد عيد أنه توجه برفقة علي جابر، وكلاهما من دير ياسين، الى مركز البوليس الرئيسي في "قشلة القدس" حيث قابلا العقيد محمد السعدي طالبين اليه التدخل، فاعتذر لكون الأمر خارجاً عن ارادته. كما أنهما اتصلا باللجنة القومية في المدينة من دون أية جدوى.