سنتوقف في هذه الحلقة الختامية مع بعض الاسهاب عند القضايا الرئيسية التي يثيرها اليمين الصهيوني في صدد ما حدث في دير ياسين وكنا لمحنا اليها في مطلع هذه السلسلة وسنعقب ذلك بتقييم لموقف اليسار العمالي الصهيوني منه ونختتم باستعراض ما جرى لدير ياسين منذ يوم الجمعة في 9 نيسان ابريل 1948. اما القضايا الرئيسية التي يثيرها اليمين الصهيوني فيمكن تناولها تحت عناوين أربعة: أولاً: عدد الضحايا في يوم المعركة. ثانياً: اثر ما حدث في دير ياسين على مجرى القتال في فلسطين في نيسان ابريل وأيار مايو 1948. ثالثاً: ادعاءات الحرص على أرواح النساء والأطفال. رابعاً: الدوافع للهجوم على القرية. عدد ضحايا دير ياسين الراسخ في الذاكرة الفلسطينية والعربية والمتواتر الى الأمس القريب في العالم بأسره بما في ذلك اسرائيل والجاليات اليهودية خارجها ان عدد شهداء دير ياسين في حدود 245 - 250 شهيداً، هذا هو الرقم الذي أعلنته الأطراف المعنية العدة في حينه اليهودية والبريطانية الرسمية والدولية والفلسطينية والعربية وهو الرقم الذي أجمع عليه الصحافيون والمؤرخون والمراقبون من مختلف الجنسيات منذ 1948 بيد ان المفارقة وأي مفارقة ان هذا الرقم ليس هو الرقم الذي قدمه في حينه الطرف الأكثر دراية ومعرفة بالأمر أي الناجون من وجهاء القرية وكبارها. ويذكر القارئ ان عدد سكان دير ياسين عام 1948 كان كما أسلفنا حوالى 750 نسمة انقسموا الى ثلاث حمائل وانهم اتسموا بقدر غير مألوف في ريف فلسطين من التماسك في ما بينهم كما كان الزواج بين الحمائل دارجاً شائعاً على نطاق واسع حتى غدا أي فرد في البلدة على علاقة قربة أو نسب بمعظم سائر أهاليها. وهكذا لم يكن خارج قدرة كبار الناجين من الواقعة القيام باحصاء دقيق لمن فقد أو استشهد منهم غير ان تشتت سكان القرية يوم المعركة في أكثر من اتجاه وهول صدمة ما حصل اقتضيا مرور بضعة يام قبل انجاز الاحصاء الذي تم قبل نهاية شهر نيسان 1948 وهي الأيام التي ترسخ فيها الرقم 240 - 250 شهيداً المبالغ فيه وتوالت خلالها الأحداث الجسام من سقوط طبريا 18 نيسان الى سقوط حيفا 22 - 23 نيسان الى سقوط يافا 25 - 30 نيسان التي حلت محل دير ياسين في اهتمامات الرأي العام العربي والدولي المباشرة. اما نتيجة احصاء وجهاء دير ياسين لشهدائها في نيسان 1948 فكان في حدود مئة شهيد معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال يضاف اليهم حوالى 15 جريحاً جروحهم بليغة. ذكرت "البالستين بوست" اليهودية في عددها الصادر في 11 نيسان 1948 ان عشرة منهم أدخلوا المستشفى الحكومي في القدس وان سبعة من هؤلاء دون الرابعة عشرة من عمرهم يضاف اليهم العشرات المصابون بجروح أقل خطورة. ظلت معرفة عدد شهداء دير ياسين الحقيقي مقتصرة على الناجين من سكان دير ياسين وذريتهم ومعارفهم وعلى عدد قليل من الباحثين ولم يشق العدد الحقيقي طريقه الى أدبيات 1948 الفلسطينية الا في نهاية السبعينات عندما أصدرت جامعة بيرزيت في الضفة الغربية كراساً عن دير ياسين من ضمن سلسلة من القرى الفلسطينية التي دمرتها اسرائيل ذكرت فيه هذا الرقم استناداً الى مقابلات اجراها مؤلفو الكراس مع بعض كبار الناجين من أهالي دير ياسين. وفي هذه الأثناء تكرر ذكر رقم 240 - 250 شهيداً في أدبيات 1948 كافة في مختلف اللغات بما في ذلك الرواية الرسمية الاسرائيلية لحرب 1948 التي صدرت عن وزارة الدفاع الاسرائيلية عام 1972 باسم "سيفر تولدوت هاهغانا" عندما كانت الحكومة الاسرائيلية ما زالت تحت السيطرة العمالية. ويتلقف الكاتب اليميني الاسرائيلي ملشتاين ما ذكرته جامعة بيريزت في كراسها عن عدد ضحايا دير ياسين ويدمجه في محاولته اعادة كتابة تاريخ 1948 من منظور يميني ناقد للرواية الاسرائيلية العمالية وبهدف القاء الشك على الرواية العربية بأسرها لدير ياسين مع انه يقر بأن الرقم المبالغ فيه لم يأت أصلاً من الطرف العربي لكن من الطرف اليهودي اليميني ذاته. وتسهيلاً على القارئ نعيد باقتضاب ما ذكرناه سالفاً الحلقة الخامسة من ان أول من ذكر ان رقم الشهداء هو 240 شهيداً هو مردخاي رعنان قائد الايتسل الأرغون في القدس وكان ذلك في مؤتمر صحافي عقده مساء يوم الجمعة 9 نيسان بعد توقف القتال واحتلال القرية حضره مراسلو الوكالات الأميركيون. واذاعت الپ"بي. بي. سي" اللندنية الرقم في نشرتها الاخبارية لتلك الليلة وكررت ذكره في الوقت نفسه محطة الاذاعة البريطانية الانتدابية في القدس. ويذكر القارئ ان ممثل الصليب الأحمر الدولي زار دير ياسين يوم الأحد في 11 نيسان ونقل الى السلطات البريطانية والى الهيئة العربية العليا في القدس ان عدد الضحايا انما هو في حدود 350 شهيداً وان الدكتور حسين فخري الخالدي أمين سر الهيئة العربية العليا عقد مؤتمراً صحافياً في اثر لقائه مع ممثل الصليب الأحمر يوم الأحد في 11 نيسان واعتمد الرقم الأدنى الذي ذكره قائد الأرغون يوم الجمعة وتناقلته عن قائد الأرغون الوكالات العالمية يوم الجمعة والسبت السابقين. ويروي ملشتاين عن رعنان في مقابلة اجراها معه بعد الواقعة بسنين عدة ان رعنان تقصد يوم الجمعة تضخيم عدد ضحاياه لالقاء الرعب في العرب وانه حسب قول رعنان "نجح" في ذلك وأغلب الظن بالنسبة لنا ان هذا تبرير أو تفسير لاحق رجعي لتضخيم اثر دير ياسين الفعلي على سير القتال في فلسطين عموماً وهو تفسير يتضامن ملشتاين فيه طبعاً مع رعنان بغية تضخيم دور المنظمتين الارهابيتين الارغون والشتيرن اليمينيتين في قتال عام 1948 مقارنة بدور الهاغانا اليسارية ويقيننا ان الدوافع الحقيقية لتضخيم الرقم كانت أكثر ارتباطاً بالمحادثات السياسية المتزامنة التي كانت تجرى في حينه تحت رعاية اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية لدمج المنظمتين الارهابيتين في قوات الهاغانا كما سنبين بعد قليل. وبعد فالعبرة ليست في الكم وثمة احداث في الحروب النظامية الأهلية تتخذ كما أسلفنا الحلقة الأولى صفة رمزية بصرف النظر عن الكم كما حصل في جنوب افريقيا شارب فيل 1960 SharpVille وايرلندا الشمالية الأحد الدموي 1972 Bloody Sunday حيث كان عدد الضحايا الأبرياء لا يتعدى بضعة عشرات. اما قائمة شهداء دير ياسين حسن العمر والجنس فهي كالآتي: فتكون نسبة الاناث والأطفال والصغار دون خمس عشرة سنة والكهول والشيوخ من الذكور 75 في المئة من مجموع الشهداء في جميع الأعمار من الجنسين. اثر واقعة دير ياسين على سير القتال في فلسطين في شهري نيسان ابريل وأيار مايو 1948 على اثر قيام الضجة العالمية على ما حدث في دير ياسين وارسال الوكالة اليهودية لبرقية اعتذار وعزاء الى الملك عبدالله في 12 نيسان واحتدام حرب البيانات بين الهاغانا من جهة والمنظمتين الارهابيتين ايتسل الأرغون وليحي الشتيرن من جهة اخرى حول جدوى احتلال دير ياسين العسكرية أخذت بيانات الاخريين تحت اشراف مناحيم بيغن قائد الايتسل الأعلى تركز بدأ بپ14 نيسان 1948 على قيمة احتلال دير ياسين العسكرية حين غدا هذا الاحتلال كما أسلفنا الحلقة السادسة حسب الرواية اليمينية نقطة تحول مفصلية تساقطت بعدها القرى المجاورة والنائية أمام هجمات الهاغانا. وتطورت هذه الرواية الصهيونية في ما بعد لتعزو سقوط مدن فلسطين طبريا وحيفا ويافا الى دير ياسين والهجرة الجماعية المدينية والريفية الى دير ياسين ايضاً وان هذا وذاك انما سببه تضخيم السلطة الفلسطينية ذاتها لما حصل في دير ياسين اذ انتقل وزر التهجير الجماعي القسري للفلسطينيين عموماً على ايدي الهاغانا والمنظمتين الارهابيتين الأخريين من الجاني الصهيوني الى الطرف الفلسطيني والعربي بسبب سياسة هذا الطرف الاعلامية القصيرة النظر حسب هذه الرواية الصهيونية. والمؤسف ان هذه الرواية الصهيونية شقت طريقها الى العقول والقلوب والأقلام العربية فتوج الجاني والمعتدي بذلك نصره العسكري بجعل ضحيته تتبنى روايته هو عما حدث لها. والواقع انه رغم الصدمة المعنوية التي احدثتها دير ياسين فان حتى أقرب القرى اليها: عين كارم، وصوبا، وحطاف، والمالحة لم تتساقط تساقط أوراق الخريف كما يدعي بل صمدت لأسابيع عدة بعد احتلال دير ياسين ولم تسقط الا في أواسط تموز يوليو 1948 عندما استؤنف القتال بعد الهدنة الأولى وبعد ان عجزت جيوش عربية نظامية عن الصمود أمام هجمات القوات الاسرائيلية. ويذكر القارئ ان الدكتور حسين فخري الخالدي أمين سر الهيئة العربية العليا يروي الحلقة الخامسة ان قومندان البوليس في القدس فايز الادريس أكد له استطاعته استرداد دير ياسين وضواحيها بقوات البوليس العربي في المدينة لكن الحكومة البريطانية رفضت طلبه للقيام بذلك فهل هذا يدل على انهيار في المعلومات؟ ومن الأمثلة الأخرى على عدم انهيار معنويات المدافعين عن القدس ان الهاغانا حاولت استغلال ما حدث في دير ياسين لمحاولة اختراق الحصار المضروب حول منطقة الجامعة العبرية ومستشفى هاداسا في القدسالشرقية فأرسلت يوم الثلثاء في 13 نيسان قافلة معززة بالمصفحات عبر الأحياء العربية فتصدى لها المجاهدون وقضوا على أربعين من أعضائها ولم ينج من تبقى منهم الا بعد تدخل الجيش البريطاني، اما سقوط طبريا وحيفا ويافا فلا علاقة البتة له بسقوط دير ياسين ولقصته مجال غير هذا المجال. ومع ذلك فلا شك في ان الأسبوعين الأولين من نيسان 1948 شهدا تحولاً نوعياً في ميزان القوى بين الطرفين بيد ان سقوط دير ياسين لم يكن سوى احد مظاهر هذا التحول يضاف الى سقوط القسطل واستشهاد عبدالقادر الحسيني وفشل جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي في احتلال مستعمرة مشمار هائيميل جنوب شرقي حيفا وهي احداث تلت بعضها البعض الآخر بالتتابع خلال أيام قليلة معدودة. اما السبب العسكري لهذا التحول فكان بدء القيادة السياسية الصهيونية بتنفيذ الخطة "دال" بالعبرية دالت في الأسبوع الأول من نيسان الحلقة الأولى وهي الخطة الكبرى التي طال اعدادها وكان هدفها احتلال رقعة الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم بقوة السلاح واضافة ما أمكن من رقعة الدولة العربية اليها وخصوصاً مدينة القدس وضواحيها ولم يكن سقوط طبريا وحيفا ويافا سوى الناتج لتطبيق خطة دال تباعاً. ومما لا شك فيه ايضاً ان ما حدث في دير ياسين كان له بالغ الأثر في نفوس القادة العرب. وأشرنا في حلقة سابقة الحلقة السادسة الى ان الملك عبدالله اعتبره بمثابة "اعلان حرب من قبل اليهود على شرق الأردن وسائر الدول العربية" وليس من قبيل المصادفة ان تحزم مصر أمرها بعد واقعة دير ياسين بأيام ثلاثة ذلك ان الملك فاروق أبلغ القادة العرب يوم الاثنين في 12 نيسان موافقته على اشتراك جيش مصر الى جانب سائر الجيوش العربية في الدخول الى فلسطين عند انتهاء الانتداب البريطاني في 15 أيار مايو وهو قرار كانت مصر تتردد في اتخاذه الى ذلك الحين وهكذا لم تكن دير ياسين بداية انهيار الجبهة العربية بقدر ما كانت نقطة تحول في موقف الحكومات العربية باتجاه التصميم على التصدي للقوات الصهيونية مهما كانت علات هذا القرار. ادعاء الحرص على أرواح العزل من النساء والأطفال شر البلية ما يضحك ذلك ان رواية اليمين الصهيوني التبريرية اللاحقة لواقعة دير ياسين وصلت ذروة الكذب والتدليس بهذا الادعاء بينما تراث منظمة الأرغون الارهابية الدموي ضد العزل تراث عريق يعود الى عشر سنوات قبل دير ياسين وهو أمر مشهود به ومعروف لكل قاص ودان. فالأرغون هي التي ابتكرت وأدخلت الى المشرق العربي استعمال الألغام الموقوتة والسيارات المفخخة ضد الأهداف المدنية وهي التي دشنت استعمال الألغام هذه في أسواق الخضار ومحطات الباصات الفلسطينية المزدحمة في عامي 1938 - 1939 في كل من حيفا ويافا والقدس. وهاكم حصاد بعض هذه الأحداث من أرواح العزل خلال فترات قصيرة من هاتين السنتين: 16 تموز يوليو 1938، سوق البطيخ: حيفا، 18 قتيلاً، 8 تموز موقف باصات القدس: 4 قتلى و27 جريحاً، 15 تموز سوق الخضار القدس: 11 قتيلاً و28 جريحاً، 25 تموز سوق الخضار حيفا 45 قتيلاً و45 جريحاً ، 26 آب اغسطس سوق الخضار يافا 23 قتيلاً و30 جريحاً، 26 شباط فبراير 1939 سوق الخضار حيفا: 25 جريحاً، 3 حزيران سوق الخضار القدس 9 قتلى و40 جريحاً، 19 حزيران سوق الخضار حيفا 9 قتلى و24 جريحاً وهكذا. ثم ان الأرغون هي التي فجرت في يوليو 1946 فندق الملك داوود في القدس وكان مقر الحكومة البريطانية ما أدى الى سقوط 75 قتيلاً من المدنيين العزل من الموظفين والزائرين البريطانيين والعرب بما في ذلك حوالى 20 يهودياً وكان ضابط عمليات الأرغون خلال الهجوم على دير ياسين يهوشع غولد شميت هو نفسه الذي قاد الشاحنة الملأى بالمتفجرات التي نسفت الفندق. وتمحور ادعاء الحرص على أرواح العزل خلال القتال في دير ياسين حول وجود مكبر للصوت على احدى المصفحات التي كان عليها اقتحام القرية وتطورت الرواية الصهيونية حتى أصبح دور مكبر الصوت هو دور "المنقذ" الحلقة الثانية والسادسة للنساء والأطفال حيث حثهم حسب هذه الرواية على اجلاء القرية "فأنقذ" بهذه الوسيلة معظم هؤلاء وكان ذلك على حساب التخلي عن عنصر المفاجأة في الهجوم وبالتالي دليلاً على "فروسية" المنظمتين الارهابيتين. الواقع هو ان دور مكبر الصوت لو استعمل كان دور تحطيم الأعصاب والمعنويات المساند للقصف والضرب الناري وهو تكتيك حربي صهيوني دارج ولكنه لم يستعمل في هذه الحالة لسقوط المصفحة في الخندق الذي حفره أهالي دير ياسين وتعطيله الحلقة الثالثة ولا علاقة بالتالي لنجاة من نجى من نساء القرية وأطفالها باستعمال مكبر الصوت أو عدم استعماله. والواقع أيضاً من شهادات الناجين والمراقبين الدوليين بل ومن أفواه قادة المنظمتين الارهابيتين وكذلك من شهادات قادة الهاغانا وضباطها التي أوردناها جميعاً في الحلقات السابقة ان المنظمتين لم ترعيا حرمة لشيخ أو مسنة أو رضيع أو جريح وان اتباعهما لم يتركوا عُرفاً واحداً في التعامل مع المدنيين في الحروب الا وخرقوه فاتخذوا من الأسرى من الشيوخ والنساء والأطفال دروعاً لحماية أنفسهم من نيران المقاومين ورهائن لحمل الجرحى والقتلى من اليهود تحت الرصاص وأغطية لاقتحام منازل البلدة ولم يكتفوا باعدام اسراهم من الرجال وبضرب وشتم وتهديد اسراهم من النسوة وسلبهن من كل ما عليهن من الحلى والأساور والخواتم والنقود ولا بتمزيق آذانهن انتزاعاً للاقراط ولا باستعراضهن في شاحنات في موكب نصر ذهاباً واياباً في احياء القدس اليهودية بل انحدروا الى ما هو أسفل حتى من هذا وذاك بتركهم جثث ضحاياهم من دون دفن ومحترقة جزئياً في الشارع العام في دير ياسين بعد ان اشعلوا النار فيها وفروا من البلدة بما نهبوه منها من غنائم ومؤن، واثاث ومواش. طبعاً الكلام عن "فروسية" مكبر الصوت كان لاستهلاك الجمهور اليهودي في فلسطين والولايات المتحدة وهو ان دل على شيء فإنما يدل على صفاقة الاعلام والحرب النفسية الصهيونيين ومدى احتقارهم للحقيقة والواقع كما يتجليان في قائمة الشهداء. دوافع الهجوم على دير ياسين حرصت ادبيات المنظمتين الارهابيتين التبريرية اللاحقة على التوكيد على أهمية دير ياسين الاستراتيجية تفسيراً لاختيارها هدفاً للهجوم والاحتلال وتثبيتاً لصواب التخطيط العسكري اليميني ودحضاً لتشديد الهاغانا على عدم جدوى احتلالها العسكرية وتحويلاً للأنظار عما اقترف فيها من جرائم وآثام. وهكذا غدت دير ياسين حسب الرواية اليمينية مسيطرة على احياء القدس اليهودية الغربية وقاعدة أمامية لاقتحامها ومصدر تهديد مباشر للطريق الوحيدة التي تربط القدس بتل أبيب ومحطة حيوية على طريق المواصلات الى القسطل ومركز تجمع للجنود العراقيين والسوريين وراعية لأعمال استفزازية وازعاج مستمر للمستعمرات المجاورة مما جعل احتلالها أولوية عسكرية ملحة فرضت نفسها فرضاً على قادة المنظمتين الارهابيتين. والواقع ان دير ياسين كانت تقع على تل على بعد ميل واحد من ست مستعمرات تشكل سدّاً متراصاً يعزلها عن العالم الخارجي حيث ان الطريق الوحيدة اليه السالكة للسيارات كانت تمر وسط احدى هذه المستعمرات غيفعات شاؤول والمسافة بينها وبين طريق القدس - تل أبيب كيلومتران ووجود مستعمرة سابعة موتسا بالمقابل على الطريق الى الساحل يجعلان من المستحيل على دير ياسين السيطرة على هذه الطريق ولم تكن دير ياسين على الطريق الى القسطل بل كان واد سحيق يفصل بينهما والطريق الى القسطل يمر عبر عين كارم وليس عبر دير ياسين وتواجد جنود عراقيين وسوريين في دير ياسين أو جوارها كذب صاف محض، كذلك القول بأنها كانت مصدر ازعاج واستفزاز للمستعمرات القريبة منها ذلك انها بسبب ضعف مركزها الاستراتيجي اختارت الوصول الى تفاهم على عدم التعدي بينها وبين المستعمرات المجاورة الحلقة الأولى وهو تفاهم رعته الهاغانا وأَطلعت عليه قادة المنظمتين الارهابيتين. لذلك لم يكن للاعتبارات العسكرية أو الاستراتيجية أي دور في قرار المنظمتين الهجوم على دير ياسين بل كان أهم هذه الاعتبارات كما أسلفنا الحلقة الثانية سهولة الوصول الى دير ياسين لقربها وعزلتها والرغبة في المزايدة على الهاغانا نظراً لأن الأخيرة كانت قد بدأت هجومها العام عملية تحشون ضمن الخطة دال والطمع بالغنيمة وهو دافع يقر به يهودا لبيدوت أحد كبار قادة الأرغون حيث يقول: "ان الواقع الأساسي كان اقتصادياً ذلك اننا كنا في أمس الحاجة الى الغنائم لتموين قواعد منظمتينا". موقف القيادة العمالية السياسية والعسكرية من دير ياسين في الظاهر كان موقف هذه القيادة موقف تنديد واستنكار كما يبدو من برقية العزاء والاعتذار من الوكالة اليهودية الى الملك عبدالله ومن حرب البيانات بين الهاغانا والمنظمتين الارهابيتين الحلقة السادسة ومن أدبيات الطرفين حول واقعة دير ياسين منذئذ بيد انه ثمة ثلاث زوايا يجدر بالقارئ العربي ان ينظر منها الى هذا الموقف. أولاً: اطلع قادة المنظمتين الارهابيتين ديفيد شلتئيل قائد الهاغانا في القدس على نيتهم الهجوم على دير ياسين ووافق شلتئيل على ذلك خطياً في رسالة بتاريخ 7 نيسان تضمنت تحفظات الاحجام عن نسف منازل القرية والبقاء فيها حتى لا يدخلها الاغراب لا تمس جوهر الموافقة، وكان قادة الهاغانا على اتصال مستمر بالمهاجمين طوال المعركة وساهمت قوات الهاغانا المرابطة في المستعمرات المقابلة لدير ياسين في اطلاق النار على المدافعين خلالها وقدمت الهاغانا العون لاجلاء الجرحى والقتلى اليهود ومدت المهاجمين بالذخيرة واشتركت وحدات من البالماخ مدعومة بمصفحات ومدافع هاون ليس فقط في قصف القرية عن بعد بل وفي القتال داخل القرية كما اشتركت هذه الوحدات في نهبها. ورفض شلتئيل اعلام اهالي دير ياسين عن الهجوم على رغم الاتفاق وبيّن في رسالته الى المنظمتين الحلقة الثانية ان احتلال دير ياسين كان من ضمن مخططات الهاغانا ذاتها على رغم هذا الاتفاق أيضاً. ومع انه شجب تصرف المنظمتين تجاه جثث ضحاياهما الا انه أصدر أمراً بنسف العديد من هذه الجثث بعد حلول قوات الهاغانا محل قوات المنظمتين في دير ياسين كما انه سمح للمنظمتين بنهب موجودات القرية من مؤن وطعام واثاث ومواش. ثانياً: يحتوي استنكار القيادة العمالية لأفعال المنظمتين في دير ياسين على قدر وافر موفور من الرياء والمداهنة نظراً لأن الهاغانا والبالماخ نفسيهما كانا مسؤولين في الخفاء عن أعمال مشابهة أو قريبة الشبه في مئات القرى الفلسطينية التي احتلاها حيث لم تصل أضواء الاعلام والرقابة الدولية كما لم تتوان الوكالة اليهودية عن الحيلولة دون وصول ممثلي الصليب الأحمر والسلطات البريطانية والصحافة العالمية الى دير ياسين طوال الأيام التالية المباشرة للمعركة اخفاء لجريمة المنظمتين. ثالثاً: كان لاستنكار الوكالة اليهودية العلني لما حصل في دير ياسين دافعان سياسيان أكثر مما هما اخلاقيان أولهما الحرص على الاتفاق السري الذي كان عقد مع الملك عبدالله والثاني الرغبة في دغع الأرغون والشتيرن أي ممثلي اليمين التنقيحي Revisionist بصبغة الارهاب لاقصاء هذا اليمين عن التركيبة السياسية للدولة اليهودية المقبلة حتى تزداد حصة اليسار العمالي ضمن هذه التركيبة وسيطرته عليها. وبالفعل لعبت "قصة" دير ياسين دوراً أساسياً في ابقاء حزب الحيروت الذي أسسه مناحيم بيغن في 15 حزيران عام 1948 خارج كل الوزارات الائتلافية بقيادة حزب العمال الماباي منذ تأسيس الدولة لغاية 1967 عندما دعا ليفي أشكول رئيس الوزارة العمالي مناحيم بيغن للانضمام الى الحكومة الائتلافية عشية حرب حزيران.
يذكر الكاتب الاسرائيلي توم سيقيف ان قسم الاستيطان التابع للوكالة اليهودية أعد في النصف الثاني من سنة 1948 قائمة بعشرات القرى العربية تمهيداً لاستيطانها ويزور رجال مكتب الصحة بعد بضعة أيام من ذلك قرية مهجورة للوكالة اليهودية ويعلنوا انه قبل ان يصبح اسكان القرية ممكناً يجب رش المنازل بمادة د. د. ت. ويكتب ممثلو الوكالة اليهودية تقريراً يذكرون فيه ان "ابنية القرية بصورة عامة مبنية بشكل أصيل جميل" والأراضي الزراعية تبلغ مئات الدونمات. و"حرث رجال القرية السابقون هذه الأراضي سنين كثيرة وزرعوا حول البيوت حدائق وأشجار مثمرة" ويُؤخذ القرار بعيد ذلك باستيطان القرية بموافقة رئيس الوزراء العمالي بن غوريون ويسكن القرية مستوطنون من بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وحتى صيف 1949 يتمكن هؤلاء من حراثة 20 دونماً من كروم الزيتون وتسويق 300 صندوق خوخ ويبدأون بقطف العنب. ويُقرر ان يقام في خريف 1949 احتفال رسمي لتدشين المستعمرة الجديدة في دير ياسين وان يكون اسم المستعمرة غيفعات شاؤول "ب". ويكتب الفيلسوف اليهودي مارتين بوبر الى رئيس الوزراء عند سماعه بالأمر يطلب "على الأقل تأجيل اسكان القرية حتى تلتئم الجروح… وينبه الى انه من الأفضل ان تبقى حالياً أرض دير ياسين غير مزروعة وان تترك منازلها شاغرة من ان تدنس بعمل تفوق اهميته الرمزية السلبية جدواه العملية بما لا يقاس". ولا يرد بن غوريون على رسالة بوبر فيثابر بوبر في مكاتبة بن غوريون وتتكدس رسائله في مكتب بن غوريون من دون اجابة. ويحتشد بضع مئات من المدعوين الى احتفال تدشين المستعمرة ويحضر بينهم وزيران من الوزارة العمالية الى رئيس البلدية والحاخامين الرئيسيين اللذين كانا كما يذكر القارئ قد استنكرا ما حصل في دير ياسين في بيان علني عبرا فيه عن "خجلهما" وشجبهما "لوحشيته". ويبعث رئيس الدولة حاييم وايزمان برسالة تهنئة وتعزف الفرقة الموسيقية لمعهد الضرير المجاور وتقدم التحية. وهكذا تختزل دير ياسين مأساة فلسطين بأسرها.
وبعد فإن عدد سكان دير ياسين اليوم يزيد عن أربعة آلاف نسمة موزعين في الضفة الغربية من فلسطينوالأردن والمملكة العربية السعودية والكويت وقطر والولايات المتحدة وفي البرازيل ولسان حالهم يقول ونحن نردد معهم: سأذكر بلدتي ما دمت حياً واذكر مرجها ثم الشعابا وأقرئ دير ياسين سلاماً متى شع الضحى نوراً وغابا وقارعت الطغاة بيوم نحس وقد صمدت صموداً لن يعابا