معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    أمانة القصيم توقع عقداً بأكثر من 11 مليون ريال لمشروع تأهيل مجاري الأودية    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    محرز يهدي الأهلي فوزاً على الوحدة في دوري روشن    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    القادسية يتفوق على الخليج    النصر يكسب ضمك بثنائية رونالدو ويخسر سيماكان    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسون عاماً على ملحمة دير ياسين : قرية أمام منظمات صهيون . المذبحة وقعت بعد يوم من معركة القسطل 1 من 7
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 1998

في مثل هذا التاريخ، 9 نيسان ابريل، منذ خمسين عاماً، وكان يوم جمعة، وقبل أن ينبلج فجره، انقضّت فجأة، وبمعرفة قيادة الهاغانا، التابعة للوكالة اليهودية، قوات منظمتي الشتيرن بالعبرية ليحي والارغون ايتل الارهابيتين على قرية دير ياسين في ضواحي القدس الغربية، على بعد أقل من خمسة كيلومترات من مقر حكومة الانتداب البريطانية السياسي والعسكري في عاصمة فلسطين، وما ان غربت شمس ذلك اليوم، بعد قتال عنيف دام أكثر من 12 ساعة، اشتركت فيه الى جانب المهاجمين وحدات من قوات البالماخ الضاربة التابعة للهاغانا، حتى تم للمعتدين ما عقدوا النية عليه واحتلت القرية واستشهد من سكانها البالغ عددهم حوالى 750 نسمة 150 شخصاً معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال وهُجّر الناجون كافة ليدخلوا شتاتا لا نهاية له يحملون فيه الى يوم الدين جراحاً نفسية لا تندمل لفقدان جدّ أو أب أو أخ أو أمّ أو بنت أو حفيد أو بعضهم أو جلهم خلال ساعات وغدا اسم دير ياسين عبر الآفاق والعقود رمزاً لافلاس بريطانيا العظمى المعنوي في فلسطين ولدموية الصهيونية وبربريتها.
لم تكن دير ياسين أول قرية فلسطينية عام 1948 تعتدي عليها القوات الصهيونية نسفاً وقتلاً فقد سبقتها بالتسلسل الزمني كل من الطيرة قضاء حيفا والخصاص صفد وقزازة الرملة وبلد الشيخ وأبو شوشة وشفا عمرو حيفا وتمرا الناصرة وعرب صُقرير غزة وسعسع صفد وبِيار عدس وابو كبير يافا والحسينية صفد، ولم تكن دير ياسين أول قرية فلسطينية تحتلها القوات الصهيونية عام 1948 وتطرد سكانها منها بعد أن استشهد منهم من استشهد فقد سبقتها كل من خُلدة ودير مُحَيْسين الرملة ولِفتا والقسطل القدس، كذلك لم تكن دير ياسين آخر قرية فلسطينية عام 1948 يصيبها ما أصابها من قتل ونسف وتهجير واحتلال فقد تبعها خلال العام ذاته 450 قرية دُرست معالمها ومنازلها درساً ووزعت أراضيها ومزارعها نهباً حراماً على سكان مستعمرات يهودية انشأت على انقاضها فلماذا اكتسبت دير ياسين من دون غيرها من قرى فلسطين المذكورة هذه "المكانة" ولماذا نحي اليوم ذكرى دير ياسين بالذات في السنة الخمسين على سقوط سائر القرى؟
الاجوبة متعددة أهمها الآتي: أولاً: تميزت دير ياسين عن معظم شقيقاتها بقربها من عاصمة البلاد مما مكن الاطلاع على ما جرى فيها بتفاصيله فقد دخل القرية ممثل الصليب الأحمر الدولي المقيم بالقدس صباح يوم الأحد في 11 نيسان ابريل لينقل الى العالم الخارجي ما شاهده قبل أن ينجح المعتدون في إخفاء معالم جريمتهم، كما ان المعتدين أنفسهم مساء يوم الجمعة ذاته في 9 ابريل نقلوا حوالى 150 من "أسراهم" من الشيوخ والأطفال والنساء في شاحنات وطافوا بهم في موكب نصر كما سيرد لاحقاً في الاحياء اليهودية قبل قذفهم على حدود الاحياء العربية ليرووا على السلطات الحكومية والفلسطينية المركزية وعلى ممثلي الصحافة العربية والدولية معاناتهم الفردية والعائلية.
ثانياً: عقد قادة المنظمتين الارهابيتين الشتيرون والارغون بالقدس في الساعة السابعة من مساء يوم الجمعة 9 ابريل ذاته مؤتمراً صحافياً دعوا اليه ممثلي الصحف والاذاعات الأميركية من دون غيرهم تباهوا فيه بنصرهم العسكري وبأنهم قاموا باحتلال "أول" قرية فلسطينية كما تباهوا باشتراك قوات البالماخ في الهجوم ما احرج الوكالة اليهودية كل الاحراج وذكروا كذباً أنهم قضوا على 245 عربياً وهو رقم تناقلته الاذاعات الحكومية وكذلك محطات الاذاعة في العواصم العربية وفي العالم بما في ذلك محطة اذاعة البي. بي. سي. اللندنية.
ثالثاً: اضطرت الوكالة اليهودية في اثر ضجة الاستنكار العالمية التي قامت الى تكذيب اشتراك قواتها أي قوات البالماخ في الهجوم، وهو ما حدث فعلاً كما أسلفنا، كما اضطرت الى توجيه برقية اعتذار الى الملك عبدالله اعقبتها برقية اعتذار شخصية اليه من بن غوريون وتصاريح تشجب أفعال "المنشقين" أي عصابتي الشتيرن والارغون من قبل كبار الحاخاميين مما ركز الأنظار على هول ما حدث ودخلت القيادة العمالية السياسية اليهودية منذئذ في جدل عنيف مع قيادة المنظمتين الارهابيتين وخليفتهما حزب الليكود اليميني لم ينته الى يومنا هذا عن دور كل طرف في الهجوم على دير ياسين وعن اثر ما قامت به المنظمتان فيها يوم 9 ابريل على مجمل سير الأحداث عام 1948 وعما تسميه القيادة العمالية تدليساً "بطهارة السلاح العبري".
هذه أهم أسباب تسليط الأضواء على دير ياسين تاريخياً حيث ان قوات الوكالة اليهودية الهاغانا والبالماخ قضت على مئات القرى التي ذكرنا بصمت بعيداً عن الضجيج الإعلامي والرقابة الصحافية، وهو صمت لم يشوبه سوى دويّ الانفجارات وانين الضحايا الأبرياء، بيد أن لدير ياسين أبعاداً أخرى، في نظرنا، فهي مثال صارخ لرياء القيادة الصهيونية السياسية والعسكرية عن "طهارة" سلاح دنّسته في دير ياسين وخارجها وقبل دير ياسين وبعدها، وما حصل في دير ياسين في ذلك اليوم إن هو إلا اختزال لمجمل ما حصل في سائر القرى ال 450 الشهيدة، ودير ياسين انما هي نموذج للتماس بين منظمات دولية يهودية ذات طاقات مادية وبشرية ضخمة تدعمها دول الغرب الكبرى، وبين أرباب عائلات قروية متواضعة يدافعون عن عقر الدار وعتبته، وعن الأم، والزوجة، والبنين، والاحفاد، ودير ياسين الى هذا وذاك غدت رمزاً لتقصير القيادات الفلسطينية والعربية الفادح الفاضح لسماحها للعدو باستفراد قرى فلسطين قرية قرية ومدنها مدينة مدينة سماحاً لا عذر له ولا غفران.
وبعد فإذا اكتسبت دير ياسين لوحدها من قرى فلسطين هذه الرمزية كضحية على غرار ما يحدث كثيراً في الحروب والثورات لواقعة معينة كما اكتسبت ذلك مثلاً واقعة جاليان ولاّ Jallianwalla في الهند 1919 أو غويرنيكا Guernica في الحرب الأهلية الاسبانية أو كوفنتري Coventry في بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية أو شارب فيل Sharpeville 1960 في جنوب افريقيا أو "الأحد الدموي" Bloody Sunday 1972 في ايرلندا الشمالية، فقد حان الوقت ان تكتسب دير ياسين أيضاً رمزيتها عن جدارة وحق كمقاومة بطلة، ذلك أنه رغم عنصر المفاجأة وعدم وصول أي نجدات اليها قاوم أهالي دير ياسين بامكاناتهم المحدودة جداً نسبياً القوى المهاجمة مقاومة بطولية رائعة اضطرت المنظمتين الارهابيتين للاستنجاد بقوات البالماخ لاخراجهما من ورطتهما العسكرية كما سنبين لاحقاً.
طبعاً لم تنفرد دير ياسين من بين قرى فلسطين بروعة صمودها ومقاومتها فقد شاركها في ذلك العديد من القرى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر إجْزِم وجَبَع وعين غزال حيفا وسَلَمه والعباسية، وابو كبير وتل الريش، ويازور يافا وخُلدة ودير محيسن الرملة والواقع انه لو قاومت معظم سائر القرى كما قاومت دير ياسين وشقيقاتها لكان اختلف الوضع عما انتهى اليه في ريف فلسطين، لذلك وجب علينا أن ننحي احتراماً في هذا اليوم 9 ابريل 1998 لشهداء دير ياسين ونحن بذلك انما ننحني احتراماً لسائر شهداء البلاد أجمعين.
دير ياسين: قرية أمام منظمات صهيون
كانت دير ياسين تقع على المنحدرات الشرقية لتل يبلغ علو قمته 800 متر وكانت تواجه الضواحي الغربية اليهودية للقدس التي كانت أقربها غيفعات شاؤول تبعد عنها حوالى 1200 متر، وتألفت هذه الضواحي من ست مستعمرات هي من الشمال الى الجنوب: غيفعات شاؤول، منتيغيوري، بيت هاكيريم، شكونات هابوعاليم يافه نوف، وبيت فيجان شكلت سداً منيعاً بين دير ياسين والقدس، وأشرفت دير ياسين على مشهد واسع من كل الجهات، وفصل بينها وبين المستعمرات اليهودية واد ذو مصطبات غرست فيها أشجار اللوز والتين والزيتون وكروم العنب.
وارتبطت دير ياسين بالعالم الخارجي عن طريق ترابي واحد تسلكه السيارات شمال الوادي يمر عبر غيفعات شاؤول ومنها الى القدس وغيرها، وكانت أقرب القرى العربية اليها قرية عين كارم الواقعة على بعد حوالى كيلومترين الى الجنوب الغربي منها والدرب بينهما صعب وعر.
وليست كلمة "دير" بغريبة عن قرى فلسطين أو جوار القدس وكان ثمة في الطرف الجنوبي الغربي للقرية طلل كبير يطلق عليه اسم "الدير" فقط، أما الشيخ ياسين الذي تنتسب اليه القرية، فلا نعلم الكثير عنه، بيد انه كان في القرية جامع يعرف باسمه يضم ضريحه ومقامه ومضافةً وساحة تقام فيها حفلات الأعراس وليالي السمر.
وبلغت مساحة أراضي دير ياسين 2700 دونم كان أكثر من نصفها مزروعاً عام 1948 وكانت هذه الأراضي غنية بالحجر الكلسي المفضّل للبناء، وهكذا بازدهار حركة البناء في القدس ابان الانتداب ازدهرت صناعة قلع الحجارة وصقلها وتكسيرها في دير ياسين فانتشرت على جانبي الطريق الموصل الى جنعات شاؤول المحاجر والكسارات وانتقل اقتصاد دير ياسين في أكثره من الزراعة وتربية المواشي الى هذه الصناعة.
ورافق هذا التحول نهضة اجتماعية ثقافية في القرية رعاها الشيخ محمود صلاح 1887 - 1942 وهو من ابنائها الميسورين الذي شيد جامعاً باسمه في أعالي القرية الغربية. وفي عام 1943 تم بناء مدرسة ابتدائية للبنين وتبرع أهل القرية بالأرض وثمن الحجارة وضموا اليها ملعباً لكرة القدم. وفي عام 1946 افتتحت مدرسة للبنات في جامع الشيخ ياسين وتأسس ناد اجتماعي "نادي النهضة"، وتألفت في دير ياسين "لجنة اصلاح" قوامها الحاج أسعد رضوان والحاج جابر وحسين زيدان اضافة الى الشيخ محمود صلاح أشرفت على صناديق توفير واقراض وحدتت المهر لتوفير فرص متكافئة في الزواج بين الغني والفقير اذ اشتهرت دير ياسين في القرى المجاورة بپ"الجيزة الياسينية".
وفي عام 1935 اشتركت دير ياسين مع جارتها العربية لفتا التي كانت تبعد عنها كيلومترين شمالاً في الطرف الآخر من جفعات شاؤول في تأسيس شركة باصات باسم "شركة باصات لفتا ودير ياسين" وكان الباص يصل من القدس ثلاث مرات بانتظام يومياً كما كانت تصل معه الصحف اليومية. وعلى رغم قربها من القدس لم تمد الحكومة البريطانية دير ياسين بالكهرباء أو الماء خلافاً طبعاً للمستعمرات المجاورة ومع ذلك كان في القرية اجهزة راديو تعمل على بطاريات السيارات كما كان فيها جهاز تلفون واحد في كسارة الحاج أسعد رضوان عند أول الطريق الترابي بالقرب من جفعات شاؤول، هذا وكان في القرية أيضاً فرن وثلاثة دكاكين.
بازدهار دير ياسين زاد عدد سكانها من 428 نسمة عام 1931 الى 750 عام 1948 وارتفع عدد منازلها في الفترة ذاتها من 91 منزلاً الى 144 منزلاً وتنوعت المهن التي عمل أهلها فيها فمنهم معلمون في مدارس قروية، وكتبة في الدوائر الحكومية ونجارون وسائقو شاحنات وندل في معسكرات الجيش البريطاني واشتهر بعض الأهالي بالتجبير.
وتألف أهالي دير ياسين من ثلاث حمائل رئيسية هي: حمولة دار عقل وحمولة دار شحادة وحمولة دار حميدة وتفرعت عن الأولى عائلات: زهران ورضوان وعطية. وعن الثانية: زيدان وخليل وسمّور وعيد وجابر. وعن الثالثة: حامد وعليا. واتسمت العلاقة بين الحمائل والعائلات بتماسك ووئام غير مألوفين، الأمر الذي تجسد بوجود مختار واحد للقرية على التوالي منذ نهاية القرن التاسع عشر. وكان آخر مختار لدير ياسين محمد اسماعيل سمّور الذي تولى منصبه عام 1925 واستمر فيه لغاية 9 نيسان ابريل 1948.
وانتشرت معظم منازل القرية كما يلاحظ من الخريطة باتجاه الغرب على منحدرات تلها فوق الوادي الفاصل بينها وبين المستعمرات اليهودية المقابلة وامتدت طريق ترابية من الجنوب الى الشمال بمحاذاة أعلى الوادي من مقبرة القرية وأمام واجهات المنازل لتلتقي عند زاوية قائمة Right Angle بالطريق الموصلة شرقاً بجعفات شاؤول والقدس، وتوزعت المنازل في هذا القسم الرئيسي الغربي من القرية حول قلبها المعروف بپ"الحارة" وهي أقدم أحياء القرية وأشدها اكتظاظاً ثم اخذت تنتشر صعوداً والى الغرب الى ان تصل الى أعلى منزل فيها وهو منزل الشيخ محمود صلاح رقم 144، أما سائر منازل القرية فانتشرت في القسم "الشرقي" منها بمحاذاة الطرف المقابل للطريق الجنوبية الشمالية التي ذكرناها ابتداء من جامع الشيخ ياسين 44 لغاية الزاوية القائمة حيث توزعت شرقاً على جانبي الطريق الموصل الى المحاجر وجفعات شاؤول وكانت جميع المنازل من الحجارة متينة البنيان غليظة الحيطان كما يجدر بقوم صناعتهم قلع الحجارة وصقلها. ويذكر ان عائلات القرية حرصت على بناء منازل أفرادها بالقرب من بعضهم بعضاً. وهكذا ففي الناحية الشرقية مثلاً كانت المنازل 19 - 22 تخص آل زهران و25 - 30 آل سموّر وفي "الحارة" كانت المنازل 61 - 63 و68 - 71 تخص آل عيد و65 - 67 آل عطية بينما في الناحية الغربية العليا كانت المنازل 122 - 129 تخص ال زيدان وهكذا.
ومرت العلاقة بين دير ياسين وجيرانها اليهود في مراحل مختلفة شأنها في ذلك شأن سائر البلاد، بدأ بعلاقات حسن جوار أيام العثمانيين ما لبثت ان اتسمت بتأزم متزايد بنمو الاطماع الصهيونية في إثر الانتداب البريطاني، ثم تحولت الى عداء مستحكم انفجر في الثورة الكبرى 1936 - 1939، وتميزت الاربعينات بركود نسبي في العلاقات العربية - اليهودية في فلسطين بسبب الحرب العالمية الثانية والصدام الصهيوني - البريطاني الذي أعقبها، ونمت خلال هذه الفترة العلاقات الاقتصادية بين دير ياسين وأطراف يهودية محورها نتاج محاجر القرية كما فر ضت سيطرة اليهود على الطريق الوحيدة الموصلة بين دير ياسين والخارج نوعاً من التعايش بين الطرفين، وفي اعقاب قرار التقسيم الصادر عن هيئة الامم في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947 وانفجار القتال في فلسطين المجاورة يتصاعد في ضوء الصدامات العنيفة بين العرب واليهود داخل القدس وفي الريف المحيط بها.
واقترب الخطر من دير ياسين ذاتها أكثر فأكثر عندما شنت القوات الصهيونية غارات متواصلة خلال كانون الأول ديسمبر 1947 وكانون الثاني يناير 1948 على جارتها العربية الى الشمال - لفتا شريكتها في شركة الباصات وعلى حييّن عربيين في الطرف الآخر من جيفعات شاؤول باتجاه القدس هما الشيخ بدر وروميما وارغم أهاليهما جميعاً على هجرة منازلهم بعد نسف العديد منها وكان لسقوط لفتا والحيين الأخيرين أثر كبير في نفوس سكان دير ياسين لقرب هذه المواقع منها ولكون لفتا تكبرها بسكانها بخمسة اضعاف. بيد ان أخطر العواقب المباشرة على دير ياسين نتيجة هذه التطورات، كان اغلاق الطريق الرئيسي الى القدس عبر جيفعات شاؤول مما عزلها عن المدينة، فلم يبق وسيلة للاتصال بالعاصمة إلا سيراً على الأقدام لمسافة 12 كيلومتراً عبر قريتي عين كارم والمالحة جنوب غربي القدس وهي رحلة استغرقت حوالى خمس ساعات بينما الوصول اليها بالباص كان يتم في خمس دقائق.
وفي أثر هذه الاحداث تألفت في القرية لجنة طوارئ من سبعة أشخاص تمثل حمائلها الثلاث: عقل وشحاده وحميده قوامها الحاج اسعد رضوان وابنه احمد اسعد ومحمد زهران عقل ومحمد زيدان وحسين زيدان والحاج جابر شحاده ويوسف أحمد عليا حميده. وقررت اللجنة سياسة الاعتماد على النفس وتنظيم الدفاع عن القرية، كما قررت سياسة عدم التحرش بالعدو بهدف عدم اعطائه الذريعة للهجوم عليها وشملت تدابير الدفاع عن القرية ايفاد وفد الى مصر لشراء السلاح من الصحراء الغربية من مخلفات معارك الحرب العالمية الثانية وتدريب الشبان على السلاح واقامة استحكامات في المواقع الستراتيجية في القرية ونظام حراسة ليلية وتفتيش على الحرّاس.
وكان من أهم قراراتها هذه حفر خندق يقطع الطريق الرئيسية الموصلة الى جيفعات شاؤول لعرقلة تقدم المصفحات اليهودية، وأُحكم اختيار موقع الخندق بين محجرين على جانبي الطريق على بعد حوالى 500 متر من الزاوية القائمة عند التقاء هذه الطريق بالطريق الجنوبية/ الشمالية التي كانت تمر أمام الحارة كما اسلفنا راجع الخريطة. ويروي خليل سمّور ابن المختار محمد سمور وأحد مقاتلي القرية الأشداء وكان يعمل نادلاً في معسكر بريطاني ان عمق الخندق كان مترين كذلك عرضه، كما يروي محفوظ سمور المدرّس في مدرسة ابتدائية في قرية رمون 12 كم شرق رام الله الذي وصل الى دير ياسين عبر عين كارم مساء يوم الأربعاء 7 نيسان ابريل ليزور والديه وليعطيهما المعاش الذي قبضه عن شهر آذار مارس ان الخندق موّه بأغصان تعلوها طبقة ترابية، وقام علي قاسم حميدة الذي كان اشترك في ثورة 1936 - 1939 بتدريب الشباب على استعمال السلاح.
وبالفعل ذهب الوفد الى مصر ويروي أحد اعضائه حسين عطيه انه حمل معه 1000 جنيه فلسطيني أي استرليني واتصل بالسماسرة الذين أخذوه الى بلدة المنصورة حيث اشترى عشرة بنادق مع ذخيرتها لكن المخابرات المصرية اعتقلته وصادرت السلاح والذخيرة منه بيد انها ما لبثت ان أفرجت عنه بعد اتصالات مع قيادة الجيش المصري وتولي الجيش المصري نقل السلاح الى بلدة رفح على حدود فلسطين وسُلّم اليه فوضعه في صناديق في سيارة شحن تحمل خضاراً الى القدس ومنها الى عين كارم ومن عين كارم على الدواب الى دير ياسين حيث وصلت يوم الأحد 4 نيسان ابريل. ويروى خليل سمور ان سعر البندقية الواحدة وصل الى 55 جنيهاً وهو الراتب الشهري لكبار موظفي حكومة الانتداب العرب بينما بلغ سعر المخزن الواحد للبندقية خمس طلقات خمسين قرشا وهي أجرة يوم كامل للعامل العربي العادي وكانت نساء القرية تبرعن بحليهن لشراء السلاح.
وفي 22 آذار مارس تقدمت مجموعة يهودية مسلحة نحو كسّارة احمد اسعد رضوان وهي أقرب موقع للقرية من جيفعات شاؤول وكان يحرسها محمد اسعد رضوان شقيق صاحبها حاملاً بندقية وكان هدف المجموعة طرد الحارس والاستيلاء على الكسّارة فتصدى لهم محمد وجرى تبادل اطلاق نار وجرح اثنان من اليهود وهرعت النجدات الى الطرفين وتدخلت لجنة طوارئ القرية لتهدئة شبابها وضبطهم حسب رواية داود زيدان وتدخلت الشرطة البريطانية وانسحب اليهود.
وكان حادث الكسّارة نذيراً لما هو آت مما جعل لجنة طوارئ القرية اكثر حرصاً على عدم استثارة العدو فجرت عدة اتصالات بين اعضائها "ووجهاء" من جيفعات شاؤول كانوا كما يبدو يتكلمون باسم الهاغانا وتم التفاهم حسب رواية خليل سمور على يد الحاج اسعد رضوان ويوسف احمد عليا من اعضاء اللجنة بأن لا احد من القرية يتعدّى كسّارة احمد اسعد رضوان باتجاه غيفعات شاؤول ولا يتعدّاها يهودي باتجاه دير ياسين وإلا اطلقت عليه النار.
ويروي احمد عيد ان اتفاقاً مماثلاً عقد على يد المختار محمد سمور الذي تم الاتصال به من قبل الهاغانا وهو في زيارة الى القدس ويروي خليل سمور ان شخصاً من قبل الهاغانا تسلل الى القرية وهو يحمل مناشير بهذا المعنى فأخذ الى بيت والده المختار وانه هو شخصياً أي خليل اعاده سالماً الى جيفعات شاؤول وحافظت القرية على هذا الاتفاق من جانبها.
ويروي موسى جابر ان فتاة يهودية ممزقة الثياب تسللت الى القرية بعد ذلك فاعتقلها الحرس واعادوها الى المستعمرة سالمة وتكرر الحادث بعد فترة وأعيدت الفتاة الثانية الى مستعمرتها سالمة وكان جواب "وجهاء" غيفعات شاؤول ان الفتاتين مختلّتين عقلياً وأغلب الظن ان هدفهما كان التجسس على مواقع الحرس في القرية.
وفي 3 نيسان ابريل ابتدأت معركة القسطل وهي قرية تسيطر على طريق يافا القدس الرئيسي وتبعد حوالى كيلومترين الى الشمال الشرقي من دير ياسين ويفصل بينهما واد سحيق عندما احتلتها قوات البالماخ وبهذه الخطوة بدأ العدو في تنفيذ عملية "نحشون" وهي أولى العمليات في تنفيذ "خطة دال" الكبرى للهاغانا بعد قرار التقسيم لاقامة الدولة اليهودية بقوة السلاح وكان هدف نحشون "تطهير" طريق يافا القدس من القرى العربية كافة على جانبيها من السهل الساحلي غرباً الى ضواحي القدس شرقاً ورافق الهجوم على القسطل هجوم ضخم على قرى السهل غربي باب الواد.
وتحتدم معركة القسطل طوال 4 و5 و6 و7 نيسان وفي صباح 7 نيسان يصل عبدالقادر الحسيني الى القدس عائداً من دمشق خالي الوفاض حانقاً غاضباً ويتوجه الى القسطل لتوه عن طريق عين كارم ليصلها عصر ذلك اليوم ويستشهد فيها في 18 ابريل وهو يقود الهجوم المضاد لاستردادها، وكان مناد قد وصل في 6 نيسان الى دير ياسين ينادي ويستنجد بالقرى المحيطة لنجدة القسطل وتعتبر دير ياسين ان ليس في وسعها الا الاستجابة ويتجه اثنا عشر مسلحاً منها الى القسطل عبر عين كارم ويروي خليل سمور وهو احدهم انهم تلقوا هناك مع آخرين قبل التوجه الى القسطل درساً مختزلاً في التكتيك القتالي من قبل محاربين قدماء اشتركوا في ثورة 1936 - 1939 ويقول "دُربنا على الزحف على الخطوط والخنادق وعدم الوقوف والتجمع" وتشترك نجدة دير ياسين في معركة استرداد القسطل في 7 - 8 ابريل وشاهد اعضاؤها قدوم عبدالقادر ورفاقه وكيف رفض دعوة عين كارم للغداء او حتى شرب القهوة فيها ويجرح منهم اربعة وهم يساعدون في حمل جثمانه لوضعها في المصفحة التي نقلته الى القدس، ويعود رجال دير ياسين السالمون الى قريتهم عصر 8 نيسان ويشاهدون تجمعاً كبيراً للمجاهدين في عين كارم يستعدون لمواكبة جثمان عبدالقادر ويكون سكان دير ياسين قد تابعوا حسب رواية داوود جابر سير معركة القسطل من اسطح منازلهم عبر الوادي السحيق ويلفّ القرية شعور بالغمّ والقنوط لاستشهاد عبدالقادر.
ويروي حسن اسعد رضوان "كنا نسمع من جيفعات شاؤول السكان سهرانين وفرحانين وجواً من المرح والفرح وقلنا هذا على سماع خبر استشهاد عبدالقادر" وتبكي بعض نساء دير ياسين رجالهن الذين جرحوا في القسطل وأُرسلوا الى مستشفى الرملة وغيره للمعالجة فيزورهن احد "اختياريه" دير ياسين يوسف احمد عليا وهو عضو في لجنة الطوارئ ليقول لهن حسب رواية ام عيد زوجة محمد عيد "لا تبكن الآن لأن الصراخ والبكاء سيكون لاحقاً".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.