منذ فترة تتناقل الانباء رغبة البابا في زيارة العراق قبل حلول الألفية الثالثة لميلاد السيد المسيح عليه السلام، وضمن برنامج الزيارة "اماكن الخلاص" في سورية ومصر و"اسرائيل" مبتدئاً بزيارة مدينة أور الاثرية القريبة من الناصرية جنوبالعراق، التي انطلق منها سيدنا ابراهيم في رحلته الى فلسطين كما هو مذكور في الكتب السماوية. ولم تتأكد الانباء من جهة دينية رسمية إلا في الايام الماضية حينما اعلن بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق مار روفائيل الاول بيداويد عن قرب صدور اعلان من الفاتيكانوالعراق عن زيارة البابا يوحنا بولس الثاني في مطلع كانون الاول ديسمبر المقبل. واشيعت اخبار هذه الزيارة منذ منتصف السنة الجارية التي تفاعلت خلال هذه الفترة وتصاعدت حدتها في الآونة الاخيرة بين مؤيد لها، كالكنيسة الكاثوليكية في العالم وفي منطقة الشرق الاوسط وتحديداً العراق في اعتبارها زيارة دينية رعوية تساهم في منح الشعب العراقي المزيد من الصبر والتحمل في مواجهة محنته الصعبة التي تولدت من جراء الحروب والحصار الاقتصادي، والتي ستكون بالنتيجة دعماً معنوياً قوياً لهذه الكنيسة وللمسيحيين في العراق لا بل وللعراقيين عموماً. وبين معارض لهذه الزيارة، خصوصاً الولاياتالمتحدة واسرائيل وبعض الدول الغربية وكذلك بعض القوى العراقية المعارضة والمقيمة في الخارج، الذين ينظرون اليها باعتبارها زيارة لها نتائج سياسية تتيح للنظام العراقي استغلالها لدعم مواقفه وسياساته الداعية الى محاربة اميركا ورفع العقوبات الاقتصادية …. ضمن فلسفة البابا، يجب ان نفهم زيارته للعراق مع اختلاف كلي من حيث وضع المسيحيين العراقيين وظروف العراق الحالية مقارنة مع وضع المسيحيين في البلدان الاخرى التي زارها ومنها لبنان في عام 1997. فالمسيحيون في العراق، الذين يقدر عددهم بحدود 9.2 في المئة من مجموع سكان العراق البالغ 22 مليوناً، على رغم تعدد انتماءاتهم الطائفية بين الكاثوليكية والمشرقية "النسطورية" والسريانية الارثوذكسية، يرجعون في الاصل الى كنيسة واحدة كانت تسمى كنيسة المشرق تستخدم الآرامية السريانية لغة لطقسها الديني، كما ان وضعهم يختلف عن بقية المسيحيين في بلدان الشرق الاوسط، وخصوصاً لبنان ومصر، فهم لم يدخلوا في مواجهات سياسية او تورطوا في فتن طائفية، او خضعوا لممارسات استبدادية قمعية، باستثناء عام 1933 عندما دبّر الجيش العراقي مذبحة ضد الآشوريين المسيحيين في بلدة سميل في شمال العراق وقتل فيها بحدود ثلاثة آلاف شخص. اي بهذا المعنى، الكنيسة في العراق غير مسيسة فلا توجد احزاب مسيحية خاصة مساندة او مدعومة من قبلها ولا تورط رجال الكنيسة في المسائل السياسية والحزبية او شاركوا في فتن وانقلابات عسكرية ضد السلطة، وهي مسائل تعكس مدى اندماج المسيحيين في النسيج العراقي. لا بل واكثر من ذلك وفي حالات معينة كان للمسيحيين في العراق حظوة عند النظام العراقي خصوصاً في سنوات الحرب العراقية - الايرانية حين كان النظام يتودد لرجال الكنيسة ويخطب ودهم ويساعدهم في بناء كنائسهم ودعمهم في امورهم المالية مستهدفاً من ذلك خلق انطباع لدى الشعوب الغربية المسيحية بأنه نظام متحضّر ومتفتّح يحارب نظاماً اصولياً متخلفاً ومستبداً في ايران. ولا يزال النظام يساعد الكنيسة في العراق ضمن مهمتها الرامية الى تخفيف او رفع العقوبات المفروضة على العراق سواء من خلال عقد بعض المؤتمرات الدينية العالمية او الاقليمية في بغداد او من خلال ارسال وفود من رجال الكنيسة بمن فيهم المسؤولون الكبار من المسيحيين كطارق عزيز، الذي ينتمي الى الطائفة الكلدانية الكاثوليكية، الى فاتيكان ومقابلة البابا التي اثمرت في نهاية المطاف بفكرة زيارة العراق. وهو انجاز كبير حققه المسيحيون لوطنهم العراق لما لمركز البابا من اهمية عالمية وهو يزور بلداً مقيداً بحصار دولي …. ومهما قيل عن هدف هذه الزيارة فإن اميركا، التي لا تستطيع منع البابا من زيارة العراق، تخشى استغلال الرئيس العراقي لها لتحقيق مكاسب سياسية خصوصاً عندما نعلم بأن الحظر الجوي ما زال مفروضاً. ومن المستبعد ان يرفع قبل حلول موعد الزيارة، وهو الوضع الذي يثير اسئلة عن كيفية سفر البابا الى العراق ولا سيما ان صحته وعمره ورفعة مقامه لا تسمح له بالسفر عبر الاردن وعن طريق صحراوي يقارب طوله 900 كلم، ما يجعل احتمال سفر الحبر الاعظم بالطائرة امراً وارداً جداً، الذي يعني إما خرق الحظر الجوي، وهو احتمال مستبعد بعض الشيء، او حصول موافقة استثنائية من الأممالمتحدة بهذا الشأن التي قد تصطدم بالرفض الاميركي او باملاء شروط معينة على الزيارة مقابل هذه الموافقة او تضمين هذه الموافقة على اساس كونها زيارة رعوية وانسانية فقط وتأتي ضمن اطار الاهتمام الدولي الاخير بالوضع المأسوي للشعب العراقي. ولكن مهما تكن المكاسب التي سيحققها النظام العراقي او الشعب العراقي قاطبة بمسلميه ومسيحييه من هذه الزيارة، فإن الولاياتالمتحدة ستحاول امتصاصها واحتواءها سواء بخلق ازمة جديدة او توجيه ضربات جوية للعراق عقب انتهاء الزيارة. لندن - أكرم شاب