كان لضعف الكنيسة الشرقية وممثليها العرب في الفاتيكان، والحرب اللبنانية اضافة الى عدم سعي دول الشرق الاوسط لتعزيز روابطها بالحاضرة الكاثوليكية وعدم اهتمامها بارسال بعثات دبلوماسية مقيمة، أن أثار المجال لتصاعد تأثير الأساقفة الغربيين المهتمين بقضايا اليهود والحوار المسيحي اليهودي. ولكن الحوار بين المسيحية والاسلام يبقى بالرغم من ذلك ضمن أولويات البابا يوحنا بولس الثاني الذي يعتبر لبنان بمثابة نموذج وركيزة للسياسة البابوية في الشرق الأوسط. فمنذ أن أصدر البابا الوثيقة المسيحية التي تعترف بمسؤولية المسيحيين عن حملة الإبادة التي تعرّض لها اليهود الشُوا أو الهولوكوست على يد النازيين، والتكهنات والتساؤلات عديدة عن سبب تقارب الكرسي الرسولي مع اليهود، في فترة تشهد منطقة الشرق الأوسط هجرة مسيحية بسبب سياسة رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتانياهو المتصلبة تجاه فلسطينيي القدس ومسيحييها. وقد توجهت الى دير سانتي جيديو في أقدم منطقة في روما تراستيفيري للقاء رئيس جالية سانتي جيديو الكاثوليكية اندريا ريكاردي وهو أستاذ في تاريخ الأديان في جامعة روما ومقرّب من البابا يوحنا بولس الثاني وأوساط الكرسي الرسولي للتحدث عن النهج الجديد الذي إعتمده البابا في تقاربه مع اليهود واسرائيل. والجدير بالذكر أن جالية سانتي جيديو لها استقلاليتها في الكنيسة الكاثوليكية وهي تنشط في مساعدة الفقراء ومحاولة ايجاد حلول سلمية في مناطق الأزمات. فقد حاولت تنظيم حوار جزائري بين الاحزاب المعارضة، لكنه فشل بسبب رفض الحكومة الجزائرية تدخلها في الازمة. كذلك تحركت سانتي جيديو لاقناع صرب الكوسوفو بالحوار مع الالبان المسلمين في البلد. ودير سانتي جيديو يعوده بناؤه الى سنة 1600 ويحمل اسم سانتي جيديو، وهو القديس الشرقي جيديو المعروف بأنه كان كاهنا متنسكا من سورية ومرّ في روما وتوفي في قرية القديس جيل قرب آرل في جنوبفرنسا والدير الذي يحمل اسمه هو دير كرملي. وكان ريكاردي استقبل في صالات الدير وهي من روائع روما القديمة وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت خلال زيارتها روما في شهر آذار مارس، وأجرى معها حوارا موسعا حول كوسوفو وافريقيا والحوار بين المسيحيين والمسلمين. ويشرح ريكاردي أن الفاتيكان شهد نقاشا قديما بدأ في الستينات حول موقف المسيحيين من إبادة اليهود وحول معتقل اوشفيتز في المانيا النازية، وأن القمة الروحية المعروفة ب "فاتيكان 2" سادتها مشكلة كبرى حول وثيقة تتعلق بالمسيحيين واليهود. فالكنيسة الكاثوليكية أقرّت بأن اليهود ليسوا مسؤولين عن قتل المسيح، ولكن خلال المجمع الديني للأساقفة الكاثوليك احتج الأساقفة العرب، خصوصا البطريرك ماكسيموس الرابع الصايغ ملكيت الكاثوليكي اللبناني، قائلا انه في حال أراد الأساقفة الكلام عن العلاقة مع اليهود فيجب ايضا الكلام عن العلاقة مع المسلمين. وكان لهذا الموقف نتيجة ناجحة جدا إذ أن مجمع الفاتيكان الثاني لسنة 1965 أصدر وثيقة عنوانها بالإيطالية "نوسترا ايتاتي" حول الكنائس وعلاقتها مع اليهود والمسلمين والبوذيين وجميع الأديان ودعت للحوار بين المسيحية وجميع الأديان. إلا أنه كانت لليهود مشكلات عديدة مع الكنيسة الكاثوليكية حول "الشُوا" ومشكلة اعتراف الفاتيكان باسرائيل. فقام البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة كنيس اليهود في روما وكان ذلك حدثا فريدا من نوعه، وقال عندها ان اليهودية هي الأخ الأكبر للمسيحية، وكان اليهود يطالبون باعتراف الكرسي الرسولي باسرائيل وفي الوقت نفسه قام مسيحيو الفاتيكان بحوار مع جميع المسلمين. وذكّر ريكاردي بالحوار الذي جرى في مدينة طرابلس في لبنان. واعترف بأن بعض المسيحيين أكثر اهتماما بالعلاقة مع اليهود مثلما البعض الآخر أكثر اهتماما بالعلاقة مع المسلمين. ولكنه قال "الصراحة تدعو الى القول بأن ضعف تمثيل مسيحيي الشرق في روما وفي الشرق ساهم في تعزيز تأثير الاتجاه المسيحي المهتم بالعلاقة مع اليهود. فالشرق الأوسط عانى من هجرة مسيحية مهمة. فثلث مسيحيي الشرق الاوسط هاجروا من دول مختلفة أهمها لبنان. فعدد مسيحيي العالم العربي الآن يبلغ 10 ملايين فيما عدد المهاجرين يبلغ 3 ملايين. وكانت هناك موجتان من الهجرة . الأولى في نهاية القرن السابق حتى الحرب العالمية، ثم جاء ت الموجة الاخرى التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية حتى الحرب مع اسرائيل. ويقتصر عدد المسيحيين في القدس الآن على 10 آلاف شخص، أي أن عدد الفلسطينيين المسيحيين تضاءل بشكل كبير، وهذا له أثر كبير على الكنيسة. والمشكلة الاخرى هي لبنان وفي تفكير البابا السياسي. فلبنان له الاولوية فيما المرتبة الثانية لفلسطين لأنه يعتبر لبنان مختبرا للتعايش. والقضية الاخرى التي تهم الكرسي الرسولي مصير مسيحيي سورية الذين هم الآن في وضع جيّد ويشكلون 10 في المئة من الشعب، في ظل التساؤل عمّا اذا كان هذا الوضع سيستمر على ما هو عليه. وهناك أيضا مشكلة مسيحيي العراق فالكثير من مسيحيي الغرب لاموا البطريرك الكلداني بيداويد قائلين إن مواقفه كانت مؤيدة للرئيس العراقي صدام حسين إلا أن خطابه استند الى أن صدام حسين أعطى المسيحيين حرية الممارسة في بلدهم. والمشكلة حسب ريكاردي بدأت بمشكلة لبنان إذ أن المسيحيين في الغرب كانوا يبحثون عن وضع يعيش فيه المسيحيون في الشرق كمواطنين عاديين يتمتعون بجميع حقوقهم وليس كأفراد من الدرجة الثانية. وهذه مسألة تهم مسيحيي الغرب في نظرتهم الى وضع المسيحيين في الشرق، وكان لبنان بالنسبة لهم المختبر الكبير حيث كان المسيحيون يعيشون على نمط تصوّر المسيحيين في الغرب الى أن وقعت الحرب اللبنانية، وبدأ الكثير من مسيحيي لبنان يواجهون مشاكل حملتهم على مغادرة البلد. ولبنان بمثابة النموذج لمسيحيي الغرب ليس فقط دوليا وسياسيا بل أيضا هو نموذج للتعايش الديني. وضعف لبنان أضعف تأثيره على صعيد الفاتيكان رغم أن البابا يوحنا بولس مرتبط بعلاقة وثيقة بلبنان اذ أن تفكيره الجيو-سياسي مفاده أن الدول الأساسية بالنسبة اليه هي بولندا في اوروبا الشرقية وايطاليا في حوض المتوسط، وفي الشرق الأوسط هناك لبنان والعلاقة الخاصة التي تربطه بلبنان التي بدت واضحة خلال زيارته لهذا البلد وأيضا خلال اعمال السينودس حول لبنان. ويعقب ريكاردي قائلا انه يجب تجنّب المبالغة بأثر اعتراف الفاتيكان باسرائيل. فقد حصل ذلك بعد أن كانت بعض الدول العربية اعترفت بالدولة العبرية مثل مصر وأن الكرسي الرسولي لا ينتهج سياسة مساومة مع الدولة العبرية، ولا يبني علاقته مع اسرائيل بناء على ما بدر عن رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو. فسياسة الفاتيكان طويلة الأمد وعندما تتخذ موقفا حيال "الشُوا" أو العلاقات بين المسيحيين واليهود، فإن الأمر يكون مبنيا على نقاش تاريخي ضمن الكنيسة وعلى نهج طويل الأمد يتعلّق باليهود والمسيحيين. أما بالنسبة لسياسة رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتانياهو فهي مشكلة تعترف بها جميع أوساط الفاتيكان المدركة للمصاعب الناتجة عن نتانياهو. ولاحظ ريكاردي أنه رغم الزيارتين المهمتين اللتين تمتا خلال نيسان ابريل الحالي للبابا من قبل وزيري الخارجية المصري واللبناني عمرو موسى وفارس بويز، يجدر التساؤل حول ما اذا كان باستطاعة الدول العربية أن تنشط سياستها تجاه الكرسي الرسولي وتنشّط الحوار بين المسيحيين والمسلمين وتظهر للعالم المسيحي أن المسيحيين في هذه الدول يعتبرون مثل المسلمين في الدول المسلمة. وهذا مهم جدا، والبابا مهتم بهذا الحوار جدا. فهو سيقوم بزيارة الى جبل سيناء للقاء المسلمين واليهود والمسيحيين كما أنه سيزور القدس كعاصمة للأديان وليس كعاصمة لاسرائيل، ويجب إذن على العرب ان ينشطوا في هذا الاتجاه وينفتحوا على هذا التفكير البابوي. كذلك يجب ان يهتموا بكون الفاتيكان مهتما جدا بالعالم العربي خصوصا وأن البابا أصبح قائدا عالميا، فيجب الا تتوقف الدول العربية أمام العلاقات بين الفاتيكان واسرائيل واليهود وحدها. وأما بالنسبة لموقف البابا من القدس فكان موقف الكرسي الرسولي حولها، بعد الحرب العالمية، مؤداه ان القدس كيان منفصل، الا أنه لدى الفاتيكان الآن قناعة بأن القدس مدينة تعايش للاديان الثلاثة. واعترف ريكاردي بان الاسرائيليين اهتموا جدا بعلاقتهم بالكرسي الرسولي، وأن الجانب الفلسطيني كان أقل نشاطا من الاسرائيليين. فمثلا لإسرائيل ممثل مقيم لدى الفاتيكان، فيما الممثل الفلسطيني غير مقيم، وهو ممثلهم في لندن عفيف صافية. وأيضا السفراء العرب المقيمون في الفاتيكان قليلون يقتصرون على السفيرين اللبناني والمصري أما باقي السفراء فغير مقيمين. فوجود ممثلين مقيمين مهم جدا على صعيد العلاقات مع الفاتيكان كونه يسمح بنشاط أكبر وبتكثيف للعلاقات وإقناع بالمواقف، خصوصا أن اولوية البابا هي الحوار وتكثيف العلاقات بين الثقافة الاسلامية والمسيحية.