من ناحية مبدئية كان الملك اليوناني قسطنطين محقاً، حين وزّع عند أواخر شهر آب اغسطس 1921 بطاقات تدعو أنصاره وأعيان مملكته وبعض السفراء الغربيين في أثينا الى حفلة كبيرة تمثل بالنسبة اليه احتفالاً بانتصاره الكبير الذي حققه، وسيحققه أكثر وأكثر ضد القوات التركية. لكن المشكلة الوحيدة كمنت في ان قسطنطين قال في بطاقة الدعوة ان الحفلة ستقام في... أنقرة، المدينة الثانية في تركيا. ولم تكن القوات اليونانية احتلت أنقرة، لكنها في الواقع كانت غير بعيدة عنها. وكانت التقديرات كافة، لدى اليونانيين، ولدى الغربيين، تقول على أية حال، ان اليونانيين لو واصلوا انتصاراتهم كما كانوا يفعلون حتى تلك اللحظة، لكان في الإمكان تحقيق أمنية الملك قسطنطين. في ذلك الحين كان اليونانيون يحققون الانتصار تلو الآخر. وكان الاتراك يتراجعون. والأدهى من هذا ان القيادة التركية كانت تعيش حال تخبط مريعة: الجنود يفرون، والسياسيون ضائعون. ومصطفى كمال، نفسه، الضابط الذي كان في إمكانه ان يبعث بعض الروح المعنوية في الجنود كان كف عملياً عن الانتماء الى الجيش العثماني، كما ان مجلس قيادة هذا الجيش كان رفض اعطاءه أية رتبة عسكرية. لكن مصطفى كمال أصر على المشاركة في تلك المعركة التي ستلي ذلك كله، وستقلب الأوضاع رأساً على عقب. والملفت انه شارك وهو مرتد ملابس جندي عادي، ومربّط الصدر بعد ان كانت سقطة عن حصان أصابته بكسور. إذن في الثالث والعشرين من آب، كانت الصورة العسكرية على النحو التالي: اليونانيون يتقدمون من المواقع التركية المحاولة المحافظة على انقرة. القوات اليونانية يزيد تعدادها عن 220 ألف جندي يقابلهم أقل من مئة ألف جندي تركي. ولدى اليونانيين 450 مدفعاً ثقيلاً، فيما لا يمتلك الأتراك سوى 196 مدفعاً. أما من ناحية القوات الجوية فاليونانيون يمتلكون 18 طائرة مقاتلة، مقابل طائرتين لا يمتلك الاتراك غيرهما. إزاء هذا الوضع كان من الواضح لأي مراقب ان اليونانيين سوف ينتصرون حتماً في تلك المنطقة المسماة "الشاكرية" والتي يؤدي احتلالها الى التوجه - دون مقاومة جدية - الى أنقرة. في ذلك اليوم نفسه اندلع القتال وراحت القوات اليونانية تتقدم. وكان قتالاً عنيفاً تمكنت القوات اليونانية خلاله من انتزاع مواقع عدة من بين ايدي الاتراك. لكن هؤلاء، بسبب وجود مصطفى كمال في صفوفهم، كانوا يدركون ان عدوهم الأكبر هو اليأس والتسليم بالهزائم. من هنا في كل مرة كانوا يخسرون فيها موقعاً، كانوا يقيمون موقعاً بديلاً له، خلال دقائق. وكانت في أذهانهم جميعاً كلمات مصطفى كمال الذي كان قال لهم: "ليس هناك خطوط دفاع. هناك مساحة أرض يجب الدفاع عنها هي الوطن كله". رغم هذا تمكن اليونانيون مساء 26 من الشهر نفسه من احتلال تل "تشالداغ" الذي كان - نظرياً - آخر حاجز يحول دون توجههم الى أنقرة. هنا أمر مصطفى كمال قواته بأن تتجمع في موقع متقارب لكي تشن هجوماً مضاداً على القوات اليونانية. في تلك الاثناء كان مصطفى كمال أبلغ الحكومة التركية في المدينة بأن من الأفضل لها ان تنتقل بكل اطقمها الى منطقة "قيصرية" خوف احتمال سقوط انقرة. لكن بعد أيام قليلة، بعث الى الحكومة رسالة تقول ان ذلك لم يعد ضرورياً. لماذا؟ لأن المعجزة كانت حدثت، وبشكل فاق توقعات الاتراك الأقل تشاؤماً، فبشكل غير منتظر حققت الهجومات المضادة غايتها، وأصبحت المعارك بين أخذ وردّ، بعد ان كانت طوال اسبوعين على الأقل، مجرد هجمات يشنها اليونانيون خلال تقدمهم. وهكذا اعتباراً من العاشر من ايلول سبتمبر من العام نفسه، وامام هجومات تركية بدت أشبه بالعمليات الانتحارية، بدأت القوات اليونانية تتراجع حتى شرقي "الشاكرية" فيما راح الاتراك يضربون مؤخرة الفرق المنسحبة، فكان ان غرق الألوف في مياه الأنهار، وأسر ألوف غيرهم، فيما راح ألوف آخرون يفرون. وهكذا ما أن حل يوم 14 ايلول حتى وجد الاتراك أنفسهم في الشاكرية وفي محيطها، وحيدين لا أثر للقوات المعادية في مواجهتهم. ويقول مؤرخو تلك المرحلة، ان التعب والجوع وحدهما منعاهم في ذلك الحين من مطاردة فلول القوات اليونانية الفارة. وكانت النتيجة انه بعد أكثر من ثلاثة اسابيع من القتال، تمكن الاتراك - بقيادة مصطفى كمال غير الرسمية - من تحقيق ذلك الانتصار العجائبي. الذي قلب الأوضاع... وفي طريقة أنهى الامبراطورية العثمانية بعد ان ولدّ اسطورة مصطفى كمال، الزعيم الذي لا يقهر. الصورة: مصطفى كمال ومساعدوه على جبهة الشاكرية