عبارة "الشاعر الراحل" التي تسبق اسم عبدالوهّاب البيّاتي هنا، طارئة على هذا الحوار، كما هو الموت كان طارئاً على حياته الحافلة انسانياً وشعرياً. فهذا الحوار، الأخير ولم يكن أخيراً قبل وقت قصير فقط، كان جاهزاً بتفاصيله وعناوينه، بل بمقدمته، التي سأتركها كما هي كي لا تمسها، إذ تربك عباراتها يد الموت. كان الحوار جاهزاً ومعداً للنشر ولم يكن يحتاج سوى نظرة أخيرة، وكنتُ على موعد مع البياتي لهذا السبب، لكني لم أكن أدرك أن ما كان يحتاج الى النظرة الأخيرة، ليست كلماته إنما جثمانه المسجى تحت شمس دمشق اللاهبة. هكذا غافله وغافلنا الموت، فلم يأت أبو علي الى موعدي، وبدلاً من أن أذهب الى المريديان حيث الموعد، ذهبت الى مستشفى "الشامي" ومن هناك ودّعت البياتي الكبير وداعاً أخيراً. لا يمكن فصل سيرة عبدالوهاب البياتي الذاتية عن سيرته الشعرية، ليس لأن الشعر كان جوهر حياته الإنسانية، طوال نصف القرن، فحسب، بل لأن حياته نفسها تشكل جوهراً شعرياً في توقها للحرية وعشقها للجمال وانحيازها للخير والعدل والانعتاق. لهذا فإن الحديث عن سيرة البياتي الذاتية هو حديث عن سيرته الشعرية والعكس صحيح أيضاً. وإذا كان استحضار الماضي يستدعي استحضار الطفولة ودفاتر المدرسة ومفترقات الطرق وزوايا البيت والصبوات الأولى، فإنه يستدعي أيضاً استحضار الصور والرموز والإشارات السحرية والأسئلة الغامضة وإرهاصات الكتابة. ومن هذا كله تتشكل ملامح القصيدة الأولى، قصيدة الشعر وقصيدة الحياة. فلكي يلتقط البياتي خيط الحياة، وهو يتحدث، فإنه يبحث في تاريخ القصيدة، مثلما تكشف له القصيدة عن خيط الحياة وتاريخها. وفي الشعر كما في الحياة يستدل البياتي على تقنياته عبر السفر، السفر خلال الكلمات بحثاً عن الشعر والسفر في الشعر، بحثاً عن الحياة والحرية. الحوار التالي مع الشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي "جولة سريعة" في الذاكرة والشعر والحياة والحرية. خمسون عاماً من كتابة الشعر، ظهر خلالها الكثير من التيارات والمدارس وأشكال وأطر للكتابة الإبداعية... أين عبدالوهاب البياتي من هذا كله، وأي مدرسة أو تيار شعري تأثرت به في مسيرتك الشعرية؟ - التجربة والسفر خلال الكلمات، هي التي قادتني الى التقنيات الفنية جميعها، من غير أن أكون قد وضعت ذلك في الحسبان منذ البداية. ففي لحظة شعرية ما، يتم التطابق بيني وبين هذه المدرسة أو ذاك التيار، والانتقال من مدرسة الى أخرى، أو من تيار الى آخر، يعود الى خصوبة حياتي وأسفاري وثقافتي المتنوعة، التي لا تقتصر على الأدب فحسب، بل على ميادين الثقافة الأخرى. فقد لا أكون مازحاً، إذا قلت لك أن اهتمامي بروايات الخيال العلمي وعلوم الفضاء، منحني مناخاً خاصاً أكتب فيه. اضافة الى ذلك، أنا لا أعيش الشعر أثناء كتابة القصيدة فقط، بل أعيشه خلال حياتي اليومية المليئة بالتأمل والتفكير. فليس لدي حياة اجتماعية تشغلني عن وظيفة الشاعر، ولدي شعور هائل بالحرية، لذلك أعبّر عن أفكاري وآرائي وأكتب شعري، من دون عوائق، إذ لا يوجد في رأسي شرطي صغير على الإطلاق. ما الذي يجمع، وما الذي يفصل بين انطلاقة الريادة، وبين الجديد والمعاصر من شعرك. بعبارة أخرى، أين هي تلك المحطات الانتقالية في هذا التاريخ الطويل من الكتابة الشعرية؟ - السفر والرحلات الغامضة. والمدن التي أقمت فيها، والمنافي ودواوين الشعر التي أصدرتها، كلها محطات في مسيرتي الشعرية، ذلك أن حركتي في الزمان والمكان، لم تكن عبثية على الإطلاق، بل كانت مرسومة بشكل غامض، وكانت تؤدي الى نتائج حاسمة في تطوري الشعري من ديوان الى ديوان آخر. كنت أولد شاعراً جديداً في كل ديوان أصدره، كما قال مرة ذلك، الناقد محي الدين صبحي، ولهذا فإن تطوري الشعري كان حلقات متنامية ترتبط الواحدة فيها بالأخرى، وتؤكد أن هناك خيطاً غير مرئي يربط حلقات التطور هذه، مثلما كانت الرؤيا تتسع مرحلة بعد مرحلة في مسيرتي. لا تخلو قصيدة من قصائدك من استخدام الرمز التاريخي أو الأسطورة، خصوصاً الأسطورة ذات الأبعاد الإنسانية العامة. هل هناك علاقة بين هذا الاستخدام وبين حياة المنفى الطويلة التي عشتها، وأية علاقة لذلك بتطورك الشعري؟ - استخدام الأسطورة ضرورة لبناء معمار القصيدة الحديثة، وهي محاولة إبداعية لتجنيب القصيدة الوقوع في المباشرة والغنائية، التي تكاد تطغى على الكثير من شعرنا العربي الحديث. وهذا الاستخدام بالنسبة لي، هو نتيجة من نتائج تطوري الفكري والثقافي، فأنا باحث دؤوب عن ينابيع الشمس، وقد اعتمد شعري منذ بدايته، على المغامرة الوجودية واللغوية والأسطورية، لذلك ابتعد عن التقريرية والمباشرة والثرثرة، وهو أقرب ما يكون الى القلب والعقل. يتسم بالغموض والوضوح معاً، ولم يطغَ فيه جانب على الجانب الآخر، لذلك فإن استخدامي للرمز والأسطورة لم يكن استخداماً مغلقاً، كما هو الحال لدى البعض من الشعراء العرب. يعتبر البعض أن التنظير، أو قدرة الشاعر على التنظير للشعر، أصبحت شرطاً لشعريته، فماذا عنك وكيف تنظر للأمر؟ - لا أدري هل تعني بسؤالك تنظير الشاعر لشعره أم تنظيره للشعر بشكل عام، فالسيابُ، مثلاً، كان من الصعب عليه أن ينظر لمحاولته الشعرية الرائدة، ولكن الوعي الكامل بالشعر وأدواته الفنية يعطي الشاعر مقدرة كبيرة على كتابة الشعر ضمن توصيفات يجب أن تكون موجودة في القصيدة، ولهذا فأنا أحذر الشاعر من الانسياق وراء التنظير الى ما لا نهاية، لأنه سيتحول الى مفكر أكثر مما هو شاعر، أي يقضي على الشعرية عنده. بعض الشعراء ينظّرون للشعر، لا من خلال كتاباتهم هم، بل من خلال انجازات الشعر العربي أو الأجنبي، أي أنهم لا يستطيعون التنظير لتجربتهم الشعرية الخاصة. ويخيل إليّ أن الشاعر الحقيقي هو الذي يستطيع أن ينظر لشعره الذي أنجزه، وليس ما ينجزه في المستقبل، فمن الصعوبة في الشعر بالذات، أن تقرر ماذا ستفعله في المستقبل. عندما أكتب قصيدة وأنتهي منها لا أعرف ماذا سأكتب في المستقبل، أي مرحلة من مراحل تطوري الشعري سأدخل، أنا أستطيع أن أنظر بشكل جيد لما أنجزته، ما هي المحطات والمنحنيات التي مررت بها، الإنجازات التي حققتها في قصيدتي، هذه الأشياء يمكن طبعاً، التنظير لها. ولكن أعود فأقول أنني أحذر الشاعر من الانزلاق والانسياق وراء التنظير الى ما لا نهاية، كما فعل البعض من الشعراء، فتحول شعرهم الى تجريد والى هياكل عظمية نخرة. وكيف تنظر الى تجربة أدونيس، فهو شاعر كبير ومنظّر للشعر، ان صح التعبير، في آن واحد؟ - عندما كان أدونيس بعيداً عن التنظير في بداياته، كان شعره أفضل، ولكن عندما دخل في التنظير وتحول الى أستاذ يؤلف الكتب الكثيرة عن الشعر، فقد الكثير من ألقه الشعري، لهذا أقول التنظير ليس شرطاً للشعرية. بمناسبة الحديث عن أدونيس، هناك من يقول أنك الغائي وشديد القسوة في تقييمك للشعراء العرب، بماذا ترد على هذا؟ - أنا لست الغائياً، فلا ألغي مثلاً شعراء مثل محمد علي شمس الدين، سعدي يوسف، شوقي بزيع، محمد عفيفي مطر، أحمد عبدالمعطي حجازي، السياب، محمود درويش، وعشرات غيرهم. كل هؤلاء أحبهم، وهم أصدقائي، وأنا كنتُ من أوائل من بشّر بهم أو أشار اليهم. وموقفي من أدونيس، هو موقف من شعره وليس من شخصه، فأنا ليس لي شأن شخصي مع أحد، حتى مع نزار قباني، الذي يعتقد البعض بأنني ضده، في حين أنا ضد أساليبه وتهريجه بإسم الشعر فقط. هل ترى أن الحداثة الشعرية الحالية، هي امتداد لحداثة الرواد، وأين يمكن رؤية نقاط التواصل ونقاط الافتراق بينهما؟ - ليس دفاعاً عن الرواد بل أقول أن حداثة شعر الرواد جاءت من أو خرجت من معطف الشعر العربي، يعني هي مولود أصيل، ولد ولادة عسيرة ولكنه كان ابن أبيه، كما يقال، ففي المرحلة التي بدأ فيها الرواد لم تكن هناك ترجمات كثيرة من الشعر الأجنبي أو أن الشعراء الرواد لم يكونوا يهتمون بالشعر الأجنبي بقدر اهتمامهم بالشعر العربي وتطوير قصيدتهم. والمؤسف، في ما بعد الخمسينات والستينات والى الآن. كثر الشعر الذي ترجم الى اللغة العربية حتى أغرق موجة الحداثة بمياهه وتياراته المختلفة جداً، بحيث ضاع الأصل فعلاً. أين هو التيار الأصيل الذي هو امتداد لحركة الرواد؟ قد يبدو عند هذا الشاعر أو ذاك، ولكنه في الخارطة الشعرية العربية، قد يضيع في الدهاليز والمتاهات والغابات المظلمة، إذاً هناك حداثة حقيقية تستولد من خلال الامتداد في التراث والانقطاع عنه، وهناك حداثة تستولد من أو تستجلب مجلوبة من مؤثرات أجنبية طاغية بحيث أن أصالة الحداثة تبدو باهتة وغير موجودة على الإطلاق. أنا أحياناً أقرأ شعراً عربياً وأشعر أنه مترجم من لغة أخرى، وليس هو بشعر عربي. إذاً كل شعر يستمد أصالته من اللغة الأم، اللغة الأم هي التي تلد الحداثة الحقيقية، ومن دون اللغة الأم فإن اللغات الأخرى أو الترجمات قد تقتل الحداثة الحقيقية. لكنّ هناك أجيالاً من الشعراء ظلت تحمل بذرة السياب والبياتي ونازك... الخ وهناك أجيال انقطعت واتخذت مسارات أخرى في دروب الشعر الحديث... كيف تنظر بإجمال الى خارطة الشعر العربي؟ - السياب والبياتي وسواهما هما مجددان في الشعر العربي، أي يمثلان امتداداً للشعر العربي وانقطاعاً عنه في الوقت ذاته. وسؤالك يضعنا أمام سؤال آخر، هو... هل يريد أولئك الذين انقطعوا أن يؤسسوا من جديد، وبعد أكثر من ألف سنة، شعراً جديداً، وهل حدث مثل هذا في شعر الأمم الأخرى... هذا السؤال أضعه أمام القارىء للإجابة عليه. خلال الأشهر القليلة الماضية، أصدرت أكثر من كتاب، شعري ونثري تحولات عائشة / مرثية الى حافظ الشيرازي / ينابيع الشمس وكأنك تسابق الزمن، هل تريد بذلك تأكيد تواصلك مع الشعر ومع الحياة... هل لا تزال، كما قلت لي في مرة سابقة، لا تخشى الموت؟ - نعم قلت لك مرة، في حوار سابق، كما أذكر، أنني لا أخشى الموت، كما يخشاه الآخرون. لقد دخلت مرحلة جديدة من حياتي، هي مرحلة المتأمل في وجه الموت، وإذا كان سواي من الشعراء قد يصاب بالجزع حين يبلغ أو يتجاوز السبعين، ويشعر باقترابه من الموت، فأنا أقول بأنني قد "مُتّ سبعين عاماً"، فما الذي يخيفني من الموت؟ هذا هو المناخ الذي أكتب فيه شعري وقصائدي التي بدأت تنسلخ من اطارها الزمني نحو الأبدي، مثلما تنسحب بعض المجرات والنجوم الى أعماق الكون المظلم. لكن كل خيط في هذه القصائد يظل مرتبطاً بشعري، كما يرتبط طفل بحبل السرّة.