مجموعة الشاعر عبدالوهاب البياتي الشعرية الجديدة "البحر بعيدٌ... أسمعه يتنهد"، تثير في نفس القارىء المتابع أسئلة عن مآل شعر جيل الروّاد، بعد عقود من الريادة ذهبت فيها القصيدة العربية الى شواطىء كثيرة لم تطأها من قبل، ولا حتى في مخيلة الشعراء، حيث المساحة الزمنية منذ قصيدة الروّاد مسكونة بشتى ألوان التجريب والمغامرة المفتوحة بلا حدود ولا تحفظات، انها عقود من الفورة الفنية المتمردة على أشكالها ومفاهيمها المسبقة، والمندفعة باتجاه فضاءات أخرى أكثر جمالية، وأرحب آفاقاً، إنها التحولات الكبرى لشعر عربي يعي أبعاد ما وقع في الحياة العربية ذاتها من زلازل وهزّات، أودت بتقليدية الأشياء، وأطاحت بأية انضباطية محتملة لأية منظومات أو أنساق. تحولات تدفعنا بالضرورة الى التساؤل عند نتاج من بقي من جيل الروّاد، وفي المقدمة عبدالوهاب البياتي، أحد الأسماء البارزة في ذلك الجيل بعد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وأحد الذين ملأوا الدنيا وشغلوا ناس الثقافة في الخمسينات والستينات - على الأقل - وواصلوا انتاج الشعر وتقديمه الى المطابع بغزارة تضعه في مقدمة من ينتجون. "البحر بعيد... أسمعه يتنهد" المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 1998، قصائد جديدة بحسب تواريخها المثبتة، لعل أجمل ما فيها ذلك الحب الطافح للحياة، الذي يموج في صدر الشاعر وعروقه ويدفعه لكتابة قصائد تمجد الحياة وتمجد العيش: "متُ من الحياة لكنني ما زلت طفلاً جائعاً يبكي كدودة تقرض تفاحة كان هو الموت وكالسيرك مهرّج يسرقنا لحظة ونحن في دوامة الضحك" إلا أن "شهوة الحياة"، كما يسميها البياتي لا تكاد تكفي لتقديم قصيدة شعرية بحجم اسم وسمعة ودور الشاعر في القصيدة العربية الحديثة، إذ أننا حين نتجاوز هذا الفرح الطفولي الغامر بالحياة، نكتشف أننا نقف على لوحات شعرية مرتبكة، خجولة، مثقلة بالتكلف والصنعة، لوحات تبحث عن شعريتها في خبرة الشاعر الطويلة أكثر من انتمائها الى حيوية اللحظة الإبداعية وتألقها، ما دام الشاعر ينسج تلك اللوحات فيما يشبه إرادة عقلانية مسبقة ومعدّة سلفاً: "عمياء أنا لكنك لو قبلت يديا نظري سيعود إليّا" مثل هذا المقطع الشعري المقتطع من قصيدة في خمسة مقاطع تحمل عنوان "العمياء" يعكس رغبة عبدالوهاب البياتي في تقديم قصيدة رؤيوية، فيها شفافية الاستقراء الروحي لعلاقة الحب ولفكرة التوحد بالحبيب، إلا أن الأمر في البنائية الشعرية يجيء على العكس من ذلك تقريرياً، يقف عند حدود الإخبار، في صور شعرية عادية، باردة ومعادة، بل لعلها أوضح في عاديتها إذا توغلنا في قراءة المقاطع الأخرى من القصيدة: "في هذا الخاتم جنّي محبوس يستنجدني لو تنجده يحملنا فوق بساط الريح الى غرناطة" هنا، تترجل القصيدة من شاعريتها جملة وتفصيلاً، وتنغمس في سردية نثرية لا يخفف منها وجود التفعيلة الشعرية، وهو حال نتابعه في المقاطع الأخرى من القصيدة ذاتها، والتي يتكىء البياتي خلالها على أسماء شعرية كبيرة أو مشهورة من تاريخنا المتنبي، ولاّدة... إلخ، ما يدفع الى التساؤل من جديد عن جدارة هذه القصائد في الانتماء الى اسم كاتبها عبدالوهاب البياتي، أو في سياق آخر، عن جدارة سطوة الإسم الشعري حين يغفل عن دأب الكتابة الشعرية الجادة. يُكثر عبدالوهاب البياتي في هذه المجموعة من حواره مع رموز الشعر والثقافة من تراثنا، ولكن في بنائيات شعرية شديدة العادية. نرى ذلك بوضوح في قصيدته "احتضار أبي تمام"، حيث استحضار هذا الإسم الشاهق في تراثنا الشعري، لا يستحضر تمثلاً إبداعياً، يحمل جديداً، أو حتى يخبر عن جديد، عدا أنه لا يحمل حتى ألق الشعر أو جماليته ورونقه: "وكالماء والريح لا أستقر بأرضٍ فموت الطبيعة والكلمات يدفعني للرحيل رأيت خرائب بابل يعوي بها الذئب بعد الأفول ونار المدائن يخرج كسرى وشاعره في العشيات منها الى طيسفون" لا شيء هنا يوحي بجدارة هذه الكتابة السردية السهلة، والمعفاة من أي بريق، في الانتماء الى اسم أبي تمام العظيم، أو في استحضار دوره، الذي نفترض أن استحضاره هو بالضرورة ذريعة فكرية وفنية للدخول في عوالم فنية وفكرية متشعبة وغنية، ومفعمة كذلك بألوان شتى من الرؤى أو حتى المقولات الجديدة. ولعل الأمر يزداد فداحة حين يكتب عبدالوهاب البياتي قصيدة تقليدية. نجد ذلك مثلاً في "حديقة الشتاء" التي يرثي فيها الشاعر بلند الحيدري، والتي يوحي بناؤها الكلاسيكي برغبة البياتي في كتابة شعرية جزلة، ومنسوجة بإهاب من الفخامة، ولكننا مع ذلك نقف على بنائية شعرية عادية في كل شيء، وخالية من أية جزالة أو فخامة: "تنجو من الموت الى الموت / ويُسدل الستار في صمتِ حديقة الشتاء في عريها / قديسة قلت لها: أنتِ صمدت في وجه رياح البلى / وخانك النهر وما خنتِ هذا الكلام الشعري الموغل في عاديته ورتابته، يصبح أكثر فداحة في مرثية عبدالوهاب البياتي لقطب القصيدة الكلاسيكية العربية. ففي رثاء محمد مهدي الجواهري يفترض قارىء الشعر أن كاتب المرثية يدرك بالضرورة أنه يرثي علم الكلاسيك وسيّده بلا منازع، ما يفترض الارتفاع بقصيدة الرثاء الى مستوى الجواهري، أو في أقل تقدير الى محاولة مقاربته، ومحاولة تبرير كتابة مرثية بالشكل الكلاسيكي. هنا مرة أخرى لا نقف على شيء من هذا كله بل نجد أنفسنا من جديد إزاء كتابة شعرية تلهث في البحث عن مبرّرها فلا تكاد تعثر عليه، إلا في استذكار شيء من واقع الحال العربي عموماً والعراقي على وجه الخصوص: "في سنوات الضوء والبؤس / وجدت في مرآته نفسي خرجت من معطفه يافعاً / لأحمل الشمس الى الشمسِ قلت له: يا أبتِ ها هنا / يعتنق السهمان في القوس" تتجول مجموعة الشاعر عبدالوهاب البياتي "البحر بعيد ... أسمعه يتنهد" في عناوين وأمكنة كثيرة، فتعكس في تجوالها خبرة بالحياة والتنقل والسفر وحتى القراءة، أكثر مما تعكس قدرة على القبض على الشاعرية في رؤية تلك الموضوعات التي تتضمنها العناوين والأسماء. تجربة شعرية يطفح من حوافها العادي، السهل والمكرر من الجمل والصياغات الشعرية، لشاعر قدم في السابق إسهاماً لا بأس به في تطوير القصيدة العربية الى جانب السيّاب والملائكة وبلند الحيدري، وعرفناه خصوصاً في مزجه بين الرؤية الشعرية والفلسفية في مجموعات شعرية عديدة، لكننا نجده اليوم عجولاً يركن الى اسمه الكبير أكثر من جدارة قصيدته وتألقها.