11 ان الوصول الى وجدان مئتي مليون عربي، واختراق سماوات هذا الوطن الذي لا يسمح لأحد بالطيران في مجاله الجوي حتى العصافير… كان مغامرةً خطيرة أشبه بمغامرات ماركوبولو… والسندباد البحري… والسؤال الذي طرحته على نفسي، منذ خربشاتي الشعرية الأولى، هو: بأي لغةٍ استطيع اختراق الخريطة الثقافية العربية؟؟ بالطبع هناك لغات عربية كثيرة، وخرائط كثيرة، وشعراء عرب أكثر من محصول الرزّ في حقول الصين… ولكن ما هي الطريقة التي يستطيع بها شاعرٌ ان يفتح أبواب اثنتين وعشرين مغارة عربية… مختومة بالشمع الأحمر منذ أيام أمريء القيس؟؟ الطريقة هي ان تنسى القاموس… وتبدأ بتأليف قاموسك الشعري الخاص. هي ان تنسى صورة عنترة بن شداد المعلقة في غرفة نومك، بشواربه المبرومة، وسيفه المسلول، وتضع مكانها صورتك… وأنت بالقميص الشورت… وسروال الجينز الأزرق… وحذاء المطّاط. المهم ان تحلق ذقنك صباحاً… وتنسى ذقون الأجداد… وتعيش زمنك الشعري لا زمن الآخرين، وتكتشف تاريخ ميلادك، وهويتك، وشرعيتك الوجودية والثقافية. 12 اللغة هي شرعية الشاعر… وبدون هذه الشرعية لا يمكن لأية قصيدة ان تدخل جامعة الدول العربية، او هيئة الأممالمتحدة، او منظمة حقوق الانسان… لذلك فأنا رسمتُ بالكلمات… ولم ألعب بالكلمات. ولم أتورط في النقش، والحفر، وشغل الفسيفساء. ولم أضيع وقتي في صناعة صناديق من البلاغة… وقصائد من البلاستيك… كما انني لم أسع للحصول على مقعد دائم في مجمع اللغة العربية، لأنني أؤمن ان اللغة يصنعها الشعراء، لا النظّامون، والنجّارون، وإسكافيّو الشعر!!… 13 كثيراً ما تساءلتُ، وأنا أحاسب نفسي، بعد كل أمسية شعرية حاشدة كنتُ أقيمها في احدى المدن العربية: - لماذا يحدث هذا؟ وما هو السر الذي يدفع الناس الى الاحتشاد في القاعة، وعلى الأبواب، وفي الطرقات، وفي الميادين والحدائق التي تحيط بمكان الأمسية؟ هل يأتون من أجل الشعر، ام من أجل شعري؟ هل أنا شاعرٌ محظوظ… ام انا شاعرٌ مجتهد ومواظب على مذاكرة دروسه؟ ام انا شاعر اكتشف معادلة الشعر… ام انا شاعرٌ تحيط به الملائكة، ويحظى برضى الله، ورضى الوالدين… كما كانت تقول أميّ رحمها الله… انني أؤمن برضى الله والوالدين بلا جدال، وقد تعوّدت ان أشكر ربي، وأترحّم على ابي وأمي، بعد كل قصيدة ناجحة اكتبها… اما كوني محظوظاً، كما قال لي مرةً أحد الصحافيين المشاكسين، فتبرير غيبي وغير مقبول. فالحظ وحده لا يكفي لجعل المتنبي عظيماً من عظماء الشعر، ولا يكفي لجعل شيكسبير سيداً من أسياد المسرحية الشعرية. فالقصيدة الجيدة لا تخرج للشاعر من كيس… ولا تطلع له من أوراق اليانصيب. وإلا لكانت دواليب الحظّ هي التي تصنع الشعراء… وتقرر مصائرهم… ان الموهبة تأتي أولاً… والشغل يأتي ثانياً… والثقافة تأتي ثالثاً… والمعاناة اليومية تأتي رابعاً… والكاريزما الشخصية تأتي خامساً… فلا يمكن لشاعر بليد… او منطفئ… او غليظ… او ثقيل الدم…ان يصبح شاعراً كبيراً… ولو ربح كل أوراق اليانصيب في العالم… 14 الشعر قَدَرٌ لا يمكن للشاعر ان يهرب منه… او يعصي أوامره… او يشرك به أحداً… والقصيدة هي امرأةٌ أحاديّة الهوى، تختار رجلاً واحداً… وتحبُّ رجلاً واحداً… وتتزوّج رجلاً واحداً… وترفض الازدواجية… وتعدد الأزواج، ولا تقبل بفكرة الضرّة… او المرأة الثانية… وهذا يعني ان على الشاعر ان يكون شاعراً فقط… وأن لا يقوم بأية مهنة أخرى لزيادة دخله… او تحسين وضعه الاجتماعي… على الشاعر ان يبقى متفرغاً حتى الموت للشعر… لا ان يعمل قبل الظهر موظفاً في وزارة المالية… او خفيراً في مديرية الجمارك… او مصلّح سيارات، او شرطي سير… ويعمل بعد منتصف الليل شاعر غزل… ان تعدّد الكارات لا ينفع في الشعر. وجميع الشعراء الذين اشتغلوا في الصباح ماسحي أحذية… ظلّت روائح البويا تعبقُ من قصائدهم… 15 ثم ان على الشاعر ان يذيع منذ البداية بيانه الشعري الأول، ويحدّد منهجه، ورؤياه، والدروب التي سيسلكها للوصول الى المدينة الفاضلة… كما يفعل جميع الانقلابيين ودعاة التغيير. هذا المانيفستو الشعري ضروري جداً لاقناع الناس في الذهاب الى صناديق الانتخاب… ولأن شعراءنا لا يؤمنون بالأسلوب الديموقراطي، ولا بالحوار، ولا بالتعددية، كما لا يؤمنون بأهلية الجماهير ومستواها الثقافي الذي يسمح لها بالتصويت… فقد صادر الجيش صناديق الانتخاب… وأعلن الأحكام العرفية… ومنع الشعراء من ارتكاب قصيدة النثر حتى عام 2005. 16 إذن لا بدّ لكل شاعرٍ ان يُعرِّفَ بنفسه، ويقدّم نبذة عن سيرته الذاتية والثقافية C.V مع نماذج من قصائده الى اللجان الشعبية لقراءة الشعر. هذه اللجان موجودة في كل العواصم العربية، وهي دائمة الانعقاد… وقراراتها لا تقبل المراجعة ولا الاستئناف ولا التمييز. أنا شخصياً مررتُ، ولا أزال أمرّ، على كل اللجان الشعبية، وأجبتُ على كل الأسئلة، وتحاورتُ مع جميع الممتحنين… وكانت علاماتي الشعرية جيدة… من غير رشوة… ومن غير وساطة. السبب، انني كنتُ واضحاً في طرحي لمسألة الشعر، وبعيداً عن الجدل البيزنطي، والتنظير البنيوي، واستعراض عضلاتي الثقافية. شرحت لهم بكل بساطة موقفي من الشعر، ومطالبتي في ديواني طفولة نهد الصادر عام 1948 بتأميم الشعر، وتحويله الى خبز يومي، وقماشٍ شعبي… ومادة تُوزع على المستحقين، كالرز والشاي وحليب البودرة. وعندما قدّمت لأعضاء اللجنة نماذج من شعري، لم يجدوا أي تناقضٍ بين أفكاري وبين أشعاري… وبين أحلامي وبين النصّ المكتوب… كان التنظير والتنفيذ متطابقين. وعندما سلمني رئيس اللجنة دبلوم الشعر… سالت دموعي على أوراقي… ورجعت الى البيت لأكتب وظائفي، وأذاكر دروسي… كأنني لا أزال تلميذاً في قسم الحضانة. 17 عندما بدأت ثورة الحداثة في منتصف الأربعينات. كان الشعراء العرب يعرفون جيداً ماذا يريدون، ويعرفون الطريق التي يمشون عليها، والأفق الذي يتطلعون اليه. وكان لكل واحدٍ من هؤلاء الشعراء خريطته الشعرية التي رسمها لنفسه… ووسائله الخاصة بالسفر واكتشاف الطرق. كان لبدر شاكر السياب خريطته، ولنازك الملائكة خريطتها… ولبلند الحيدري، وسعدي يوسف، وعبدالوهاب البياتي، وصلاح عبدالصبور، وخليل الحاوي، وأدونيس، ويوسف الخال خرائطهم… لم يكن هناك فوضى، ولا ارتجال، ولا حماقات لغوية او عروضية او جمالية… كان كل واحد يرسم على طريقته، ويستعمل الألوان على طريقته، ويعرض لوحاته الشعرية على طريقته… دون ابتذال ودون اهانة لفن الشعر. في تلك الفترة الزاهية، كانت ورشة التجديد تصحح مسار الشعر العربي التقليدي وتضيف اليه ألواناً جديدة، وأبعاداً جديدة، دون ان تشوه البناء الأساسي. أي ان المسؤولية الابداعية كانت لا تتعارض مع المسؤولية الاخلاقية. وكان المعماريون يصنعون للشعر العربي بيتاً جميلاً يجمع جرأة الحداثة الى أصالة التراث. 18 اما اليوم، فإن الحداثة الشعرية تخلت عن المسؤوليتين الابداعية والأخلاقية معاً… فهي زفّةٌ لا تعرف فيها الداعين من المدعويين، ولا أهل العريس من أهل العروس، ولا كبار الضيوف من الغارسونات، ولا المغني من أفراد الكورس… ولا الراقصة من ضارب الطبلة… ان كل واحدٍ من شعراء الحداثة يرتجل قصيدته دون ان يكون أمامه نوطة موسيقية… تماماً كما يرتجل رعاة الغنم المواويل على رؤوس الجبال… لذلك لم يتمكن النقد من دراسة شعر الحداثة، والتعريف به، لغياب النصوص… وغياب القاعدة، وغياب الجمل والمفاتيح الموسيقية… وغياب آلات العزف… والعازفين… وما دام أهل الحداثة لا يعترفون بأهمية الكونسرفاتوار، وأهمية موزّعي الموسيقى… وأهمية الهارموني والتنسيق الأوركسترالي، فسوف يبقون كأمير البزق محمد عبدالكريم يرتجلون العتابا والميجنا وأبو الزلف فلا يسمعهم سوى الضباع… وبنات آوى… ان قصائد الحداثة ليست سوى مصادفات لغوية بحتة، تتلاقى فيها الكلمات بالكلمات دون موعد سابق، ودون ترتيب سابق… ودون أي رغبة او اشتهاء… ولا يوجد في الأدب شيء اسمه المصادفة. 19 انني أعرف ان كلامي عن الحداثة، سوف يغضب الحداثيين، فيصدرون قراراً بفصلي عن اتحادهم، واخراجي من جنتهم، وتصنيفي بين الشعراء الجاهليين. هل هذه تهمة؟ إذا كانت هذه هي تهمتي الجميلة. فإنني فخور بها. لأن الشعر الجاهلي من أرقى نماذج الشعر، وأكثرها عنفواناً وحضارة. فياليتني أتعلم من عنترة بن شداد، كيف يرتقي الانسان بعشقه الى هذا المستوى الرسولي. وكيف يكون ثغرُ الحبيبة جبهة يطيب عليها الموتُ والشهادة، وكيف يكون حبُ الرجل للمرأة شرفاً ووسامَ بطولة… ولقد ذكرتكُ والرماحُ نواهلُ مني، وبيضُ الهند تقطر من دمي فوددتُ تقبيلَ السُيُوف لأنها لَمَعتْ كبارق ثغركِ المتبسّمِ. هل يمكن لعاشق معاصرٍ من خنافس هذا الزمن، ان يقول مثل هذا الكلام الجميل، وهل يمكن ان يضحّي بربطة عنقه، او بزرٍّ من أزرار قميصه المنشىّ للفتاة التي يرافقها؟ 20 انني اعتقد ان قصائد الفرزدق، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم… وامريء القيس أكثر حداثة من كل ما نقرأه اليوم من محاولات لمحو ذاكرتنا الشعرية. لا أحد يستطيع ان يلغي زمناً شعرياً عظيماً بجرّة قلم… ولا أحد يستطيع التباهي بقتل أبيه، إذا لم يكن افضل منه… ولا أحد يستطيع ان يبارز عنترة إلا إذا كان أشجع منه وأكثر شاعرية. وحتى كتابة هذه السطور لم أعثر على شاعرٍ حداثي واحد يمكنه ان يمدّ يده الى شوارب عنترة، دون ان يستعين بحفَّاضات الأطفال PAMPERS.