إذا اتسعت ألقاب الأدب والشعر العربي في القرن العشرين، وما أكثرها، للقب آخر، هو أمير شعراء الهجاء، لكان الشاعر العراقي الراحل عبدالوهاب البياتي هو هذا الأمير. فمن قرأ أعماله الشعريه، ومن اطلع على حواراته في الصحافة، ومن كان يغشى مجلسه من الأدباء والشعراء، كانت تلفته هذه النفس الشديدة السلبية تجاه الجميع بلا استثناء، والتي تبدي المساوئ، على حد تعبير الشاعر القديم، وتعفّ حتى عن نظرة رضى واحدة إلى أي أمر من الأمور. وكان الكثيرون يعجبون لأمر هذا الشاعر الذي لا يتورع عن هجاء أي كان، بمن فيهم، أو أولهم الشعراء والأدباء. أما الذين كان يستثنيهم في مجلس ما، أو في نصّ ما، فقد كان ذلك عنده من باب الإمهال لا الإهمال، فدورهم لا بد أتٍ طال الزمان أو قصر. وكان الكثيرون، في محاولة تفسير ظاهرة البياتي هذه، يعزونها إلى طبع راسخ فيه تزيده حدّة وشراسة ظروفه الشخصية وما خضع له من تشرّد واضطهاد وسوء حال، سواء في بلده العراق أو في المنافي العديدة التي عاش فيها، سواء في العالم العربي أو في الخارج، دون أن ينسى هؤلاء الطبع العراقي الناري بطبيعته، والمندفع بلا رؤية أحياناً نحو أقصى النهايات وأفجع المصائر. والواقع أن أشعار البياتي الهجائية، وما أكثرها في ديوانه، وكذلك حواراته مع الصحافة، إذا جمعت في كتاب، تؤلف وثيقة أدبية وثقافية نادرة لأنها تمثل بوجه من الوجوه جانباً من مرحلة عربية قلقة وصعبة خلالها كان العراق (ومعه الأقطار العربية الباقية) تنتقل من طور اجتماعي إلى طور اجتماعي آخر. وكان من الطبيعي أن يصاحب ذلك اضطراب في القيم والسلوك والذات، وبحث دائم، وعاثر، عن غايات مستحيلة التحقيق. كما كان من الطبيعي للذات المتوترة المتشظية، أن تعبّر عن كل ذلك بسلبية مفرطة في سلبيتها، وألاّ ترى من بصيص ضوء لا في أول النفق ولا في آخره، ولا في الآخرة ولا في الأولى! كان البياتي أديباً غريباً بالفعل، كان يكتب شعراً ولكن شخصيته لم تكن شخصية شاعر يكتب الشعر أو أديباً يتعاطى الأدب. لم يضبطه أحد يوماً يقرأ في كتاب أو يتحدث في قضية أدبية، الشاعر العراقي سعدي يوسف كتب مرة أنه لم يسمع البياتي يوماً في أي مجلس من المجالس يُدلي برأي أو يناقش في أمر ثقافي أو فكري. عمّاذا كان يتحدث؟ في أي أمر من أمور العامة. وما كان فنّه الأثير؟ في الهجاء! يقسم سعدي يوسف أن حديث البياتي لم يتجاوز مرة موضوع الطعن في الآخرين، كل الآخرين، وكان على رأس المطعونين زملاؤه الشعراء والأدباء! حديثاً صدر في بيروت كتاب ضمّ حواراً موسعاً مع البياتي أجراه نجم عبدالكريم في الستينيات أو في السبعينيات من القرن الماضي، ليس تاريخ الحوار مهماً لأن البياتي ظل هو هو على مدار حياته، وظلت حياته مقيمة على الدوام في أقاليم السخط والغضب والعدوانية وتناول الآخر، أو الآخرين بأقسى الألفاظ والسهام. كتاب نجم عبدالكريم عنوانه (شخصيات عرفتها وحاورتُها) وفي هذا الحوار مع البياتي، نجد الشاعر يهجو الجميع نثراً، كما يهجوهم شعراً. في الحوار نجد قصيدتين هجائيتين، كما نجد كماً لا يُحصى من الهجاء بالنثر. ونبدأ بالنثر أولاً لنصل لاحقاً إلى الشعر. يقول البياتي إن الشعراء الكبار، مثله، هم في العالم يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، لا يموتون «أما الآخرون، شعراء السلاطين، الذين لا يستطيعون عبور الأسوار نحو المدينة الفاضلة، فيظلون قابعين في سراديب النسيان، حتى وإن تغنّى البعض بأشعارهم التافهة لأنهم لم يتجهوا بالشعر نحو وظيفته الحقيقية»! ولكن ما هي وظيفة الشعر؟ «إنها الثورة والتمرد والتجديد، وإنارة دروب حياة الإنسان بالوعي الكامل والاحساس بمصيره وقدره. فالطبّالون والمزمّرون شعراً هم أشدّ أعداء الحياة، وللأسف أصبحت حياتنا تعجّ بهم». لا ينسى البياتي الإعلام المقروء والمسموع، «فهو مملوء بالانتهازيين وطلاّب الشهرة العراة من المواهب، والمرتبطين بالاستخبارات الداخلية والخارجية. يغيّر هؤلاء جميعاً من وظيفة الإعلام الإبداعية ليغدو أداة للتجهيل والتزييف تقوم على تنفيذه مجموعة من المرتزقة والمعاقين أخلاقياً». حديثه عن الإعلام مجرد جملة معترضة في حواره لأن الحوار في مجملة ينصبّ على هجاء زملائه الشعراء وعلى رأسهم «رفيقاه» و«زميلاه» في دار المعلمين العالية في بغداد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. أزعجه إشارة محاوره إلى مسألة الريادة في الشعر الحديث، وكون البياتي لم يكن رائد هذا الشعر. ولكنه لم يتوقف عندها كثيراً، لأن المهم لا كون السياب أو نازك هو البادئ، بل ما بقي في حسابات البقاء والخلود. «فنازك مع أنها السباقة في النشر، إلا أنها لا تُذكر الآن إلى على سبيل الإشارة التاريخية فقط» ويضيف: «أقول لك بكل ثقة: لا نازك ولا السياب استطاعا أن ينهلا من النور المشعّ القادم من بعيد في بنية القصيدة الجديدة التي جسّدتها قصائدي الأولى. ولو أعدنا قراءة نازك والسياب لوجدنا أنها لا تحمل من الشعر الجديد إلا شكله، وكم تمنيت لو أنهما كتبا تلك القصائد بأسلوب الشعر التقليدي لكان ذلك أفضل لهما، وخاصة قصائد ديوان «عاشقة الليل» لنازك، وقصيدة «هل كان حبّاً» للسياب، لأن محاولتهما في هذين العملين تشبه محاولات شعراء المهجر التي بدأت منذ مطلع القرن، بينما قصائدي كانت تُنشر في الصحف اللبنانية والمصرية، وكان يدور حولها جدل حاد لما أحدثته من ثورة في التجديد في بنية القصيدة الشعرية، ثم إن شهرة السياب والملائكة في ذلك الوقت لم تكن تتعدّى حدود العراق»! الهجاء للآخر مصحوب بمدح للذات، كما رأينا، وهذا ما يرد في فقرات الحوار الأخرى: «لما ظهر ديواني «أباريق مهشمة» وأحدث ذلك الضجيج المدوي في العراق وفي العالم العربي كله، وقرّظه أغلب النقاد الكبار في الوطن العربي، واعتبروه الممثل الحقيقي الأول للحداثة الشعرية، أجّج هذا الأمر حقداً في نفس السياب، فدفع ببعض الصغار من عديمي الموهبة الذين كانوا يحيطون به لمهاجمة الديوان، ومهاجمتي شخصياً، فضربت بهجومهم عرض الحائط ولذت بالصمت لأني صاحب مشروع شعري عالمي كبير ولا وقت عندي للمهاترات. ولم أعد أرى السياب إلا مصادفة. ولما بدأ المرض يدبّ في جسده التقيته في لقاء سريع في بيروت في إحدى دور النشر، ثم صادفته في لقاء عابر في أحد مقاهي دمشق»! ويأخذ على السياب أنه بدأ حياته الشعرية شاعر مناسبات. أما هو فلم يُلْقِ قصائده في المظاهرات أو الاحتفالات، كما كان يفعل السياب، «ولهذا فإن شهرتي استمدّت مقوماتها الأدبية عربياً وعالمياً لأني قدّمت شعراً ناضجاً رحبّت بنشره الصحف والمجلات الشهيرة، وتُرجم إلى مختلف اللغات العالمية، لأن قصيدتي اتسمت بروح التجديد غير المسبوق، كما أني أتلفت كل قصائدي التي كتبتها قبل مرحلة النضج»! ويستطرد صاحب المشروع الشعري العالمي والمجدّد غير المسبوق، فيقول: «ما أريد قوله أن روح التجديد التي كانت تسود في قصائدي، كانت أكثر قبولاً عند الناس من كل أشكال التجديد التي استخدمها السياب في أشعاره. وهنا جوهر الاختلاف «فالمومس العمياء» و«حفّار القبور» كانت أقرب ما تكون إلى القصص المختلقة لإثارة الشفقة، ولم يكن لها ارتباط بالواقع المعاش الذي كنت أتناوله في أشعاري». أما لماذا يناصبه الآخرون العداء، «فماذا نتوقع من ذباب الموائد واللصوص؟ هم متشاعرون فاشلون، ويزعجهم الإبداع الصادق، وتثيرهم دعواتي إلى الكرامة والحرية والثورة، بينما هم يرون أنفسهم يلعقون أحذية أسيادهم الخصيان»! ويضيف أنه اعتاد اشعال الحرائق، «وجدّنا المتنبي تعرّض هو الآخر لأذى هذه الحثالات من الحشرات البشرية لأنه كان يثير الزوابع، وأنا لا أقلّ عنه تعرضاً لأذاهم لأن الحرائق التي أُشعلها لا تقلّ عن تلك الزوابع التي كان يثيرها»! وترد في حواره قصيدتان يهجو بهما الشعراء، كم يهجو «أوغاداً» آخرين. في الأولى: اللغة الصلعاء كانت تضع البيان والبديع فوق رأسها «باروكة» وترتدي الجناس والطباق في أروقه الطغاة في عصر الفضاء والسفن الكونية والثورات كان شعراء الكيدية الخصيان في عواصم الشرق على البطون، في الأقفاص يزحفون ينمو القمل والطحلب في أشعارهم وشعراء الحلم المأجور في الأبراج كانوا بالمساحيق وبالدهان يخفون شحوب ربة الشعر التي تشيخ فوق قمة الأولمب. ويرد في قصيدة الهجاء الثانية: لن تقتلوني أيها الأوغاد لن تحرموني من ضياء الشمس لن تنصبوا الأعواد للحب، للشعر، للأولاد لن تستبيحوا قصر أحلامي.. لن تجدوا أيها الفاشيست في انتظاركم إلا طبول الموت والرماد فعودوا أيها الأوغاد! يرد كل هذا في حوار واحد قد لا يختلف كثيراً عن حواراته الأخرى. ولكنه حوار نموذجي خلاله مدح شخصاً واحداً هو ذاته وهجا الآخرين جميعاً بلا استثناء. وعلى هذا النحو أمضى البياتي حياته إلى أن مات، ولكن دون أن يتبين لأحد أن خصومه أو أعداءه الذين هجاهم وبخاصة السياب ونازك الملائكة، هم على النحو الذي وصفهم، كما لم يتبين أنه هو بالذات في سدرة المنتهى والخلود كما صوّر نفسه!