للحرير مع لبنان قصة طويلة عمرها مئات السنين وربما آلاف، اذ تعود الى أيام الفينيقيين الذين كانوا يصبغون الحرير الآتي من الصين عبر بلادهم أحمر ارجوانياً ويحيكونه ويصدرونه الى روما مركز القرار آنذاك حتى غدا الحرير الارجواني لباس اهل السلطة ولا يزال الى ايامنا لباساً للبابوات والكرادلة. والحرير غاب عن لبنان منذ أعوام طويلة بعدما كان قد دخل في الادبيات الشعبية اللبنانية والاغاني التراثية وسمّي ب"موسم العز" و"موسم تمزيق الكمبيالات"، منذ أيام الأمير فخرالدين الثاني الكبير الذي جعل من موسم الحرير موسماً اساسياً وسلعة أساسية في التعامل التجاري مع أوروبا وبخاصة مع دوقية توسكانة في ايطاليا التي كانت تصدر الى امارة فخرالدين المدافع والمهندسين لبناء القلاع. والحرير تنتجه دودة القز وهي تتغذى بأوراق التوت الذي كانت اشجاره تغطي مساحة لبنان حتى بداية القرن العشرين، وطالما اعتبر "بستان توت مترامي الاطراف" اذ نادراً ما كانت توجد عائلة لبنانية لا تزرع توتاً لتربية دودة القز وانتاج الحرير الذي بلغ في تلك الحقبة 50 في المئة من الدخل الزراعي في لبنان، علماً أنه كان موسماً اضافياً مساعداً الى جانب زراعات أخرى. وموسم الحرير كان يتأثر بالاحداث السياسية والاقتصادية في العالم اذ كان لبنان يصدر انتاجه، قبل الحرب العالمية الاولى، الى مدينة ليون في فرنسا التي كانت اكبر مركز لصناعة الحرير في اوروبا. لكنه دائماً كان يستعيد موقعه الا بعد الأزمة التي جاءت بعد الحرب العالمية الثانية وتمثلت بانتاج الخيوط الصناعية ودخول اصناف التفاح الاميركي الى لبنان، فعمد المزارعون اللبنانيون الى تقليع اشجار التوت واستبدالها بأشجار التفاح. وحيال هذا الواقع قامت الدولة بانشاء مكتب الحرير في الخمسينات. وقال رئيس لجنة اعادة تأهيل قطاع الحرير في وزارة الزراعة السيد ميشال ليون ان "المكتب استطاع ان يوقف تدهور الانتاج واحياء صناعة الحرير من خلال ادخال بذور دود الحرير الهجين من اليابان، وهي ذات خصائص ممتازة اذ تقاوم الامراض وتنتج فيالج بيضاء ذات مردود مرتفع في مدة لا تتجاوز الثلاثين يوماً بدلاً من خمسين يوماً كما كانت الحال في تربية الاجناس القديمة". واضاف ان المكتب ادخل أيضاً اصنافاً مؤصلة من التوت الياباني "كوكوزو 21". وزراعة التوت عمل زراعي بيئي اجتماعي وصناعي. فشجرة التوت تنمو في كل الارتفاعات وفي الاراضي المروية والبعلية وتسهم في زيادة الغطاء الاخضر وتمنع انجراف التربة في المرتفعات. وهي تغرس على أساس مئة نصبة في الدونم الواحد على أبعاد ثلاثة أمتار بثلاثة أمتار في شكل لا يعيق الزراعات الاخرى في الحقل نفسه وهي لا تتطلب أي عناية خاصة ولا تحتاج الى مكافحة بالمبيدات ولا الى التقليم إذ أن استعمال اوراق التوت لتغذية الدودة يتطلب قطعاً للاغصان وهذا ما يتيح للمزارع زرع ارضه بشتى انواع الخضار وجني المحصول قبل نمو الاغصان مجدداً. اما الحرير فتنتجه دودة القز، او دودة الحرير. وهي يرقة تخرج من بيضة تضعها الفراشة. فالفراشة الانثى تضع نحو 500 بيضة خلال فصل الصيف، وبعد تفقيس البيض تخرج يرقات تمر بخمس مراحل إلى أن تصبح قادرة على نسج الشرنقة تتغذى خلالها بورق التوت في طريقة مدروسة حتى يحين موعد القطاف وتخنق الدودة بالهواء الساخن داخل الشرنقة قبل ان تثقبها لتخرج وتصبح فراشة. وهذا العمل، الذي يحتاج الى عناية من المزارع مدة شهر، استمر في لبنان الى العام 1983 بعدما كان بلغت ذروة انتاجه في السبعينات نحو 110 أطنان من الحرير. لكن غداة الاجتياح الاسرائيلي توقف الانتاج وتضرر مصنع كر الفيالج الذي بنته الدولة في الستينات في كفرشيما وتوقف عن تسلم الفيالج من المزارعين الذين ظنوا ان موسم الحرير ذهب الى غير رجعة فعمدوا الى تقليع أشجار التوت من ارزاقهم واستبدالها بأشجار مثمرة. ومنذ عام 1994 بدأت الدولة العمل على اعادة احياء انتاج الحرير من خلال توزيع عشرات الآلاف من نصوب اشجار التوت المؤصلة على المزارعين اللبنانيين في المناطق كافة اضافة الى توزيع علب بذور دود الحرير 20 ألف بويضة في كل علبة عليهم بعد تفقيسها في دائرة الحرير وتسليمها دوداً. وديدان العلبة الواحدة تحتاج الى نحو 600 كيلو من ورق التوت أي ما تنتجه 40 شجرة. ويبلغ المعدل الوسطي لدونم الأرض المزروع توتاً نحو 75 كيلو من الفيالج. ويتوقف نجاح الموسم على اتباع الاسس الصحيحة للتربية وارشادات الوزارة. ويؤكد ليون ان "موسم تربية الحرير وانتاج الفيالج مضمون سعراً وتصريفاً اذ يحدد السعر سنوياً قبل الموسم وتشتري الوزارة الانتاج من المزارعين نقداً عند تسليمه". ويوضح ان "السعر الادنى حدد لهذا العام ب14 ألف ليرة للكيلو، وهكذا فإن المعدل الوسطي لانتاج علبة الدود تقدر بنحو 450 ألف ليرة ومدخول دونم الارض بنحو 800 ألف ليرة". ومحاولة الدولة التشجيعية هذه بدأت تلقى قبولاً لدى المزارعين الجدد إذ أن "المزارعين الذين كانوا يعرفون كيف يربى الحرير رحلوا"، على ما قال أحدهم. لكن الوزارة تصدر ارشادات للمزارعين عن كيفية الانتاج والعناية بالدودة لناحية اطعامها وحرارة المكان وغير ذلك من الارشادات الكفيلة بتحسين الانتاج. وتحدث ليون عن فوائد تشغيل المصنع موضحاً ان "كلفة كيلو خيط الحرير الذي يمكن انتاجه في كفرشيما 70 ألف ليرة على اعتبار ان كيلو الخيط يتطلب 5،2 كيلو من الفيالج اليابسة التي تنتجها 5 كيلو فيالج خضراء". واضاف: "تبلغ كلفة الكيلو المستورد نحو 35 دولاراً، وبالتالي يمكن للوزارة ان تحدد السعر بنحو 45 دولاراً 67 ألف ليرة فتكون الخسارة نحو 15 ألفاً، أي انها تدعم الموسم بنحو 15 مليون ليرة ويصبح المبلغ بعد 5 سنوات، على اساس ان الموسم سيزداد 150 مليوناً وهو لا يقارن مع المبالغ التي تدعم فيها زراعات اخرى". ويشير الى ان "الحرفيين يشترون كيلو الحرير ب75 دولاراً اذ ان ضعف امكاناتهم يمنعهم من الاستيراد بالسعر الرائج". وقال: "بما ان هناك تطلعاً لتشجيع الصناعات الحرفية وتعميمها على المناطق الريفية بهدف زيادة الدخل، فإن انتاج الحرير في لبنان مهم جداً لهذه الشريحة التي تستطيع شراء خيوط الحرير بالسعر الذي تحدده الوزارة". وىؤكد ان "اعادة تأهيل مصنع حل الفيالج قضية ملحة. وان من شأن احياء انتاج الحرير تحقيق أمور عدة منها غرس التوت في الاراضي الهامشية وتأمين دخل اضافي للأسرة في الريف وامتصاص البطالة فيه والمساعدة على وقف الهجرة إلى المدينة وتأمين المواد الاولية لمصانع النسيج بدلاً من الاستيراد". م. ق