حين ظهر فيلم الأب الروحي للمرة الأولى، لفت انتباه جمهور السينما ونجح نجاحاً لم يسبق له مثيل. ومع الوقت وإيرادات شباك التذاكر صار هذا الفيلم من أشهر وأنجح أفلام هوليوود. ودفع هذا مخرجه ومنتجه الى تقديم الجزء الثاني في الفيلم، وفرقع الجزء الثاني كما فرقع الجزء الأول، كما يقول السينمائيون عن الفيلم إذا نجح نجاحاً لم يكن في الحسبان أو التصور. بعد هذا النجاح الساحق تم عمل الجزء الثالث، ورغم الجهد الذي بذله فيه المخرج إلا أن نجاح هذا الجزء الثالث لم يكن في نجاح ما سبقه من أجزاء. رغم ذلك، استقر الفيلم بأجزائه الثلاثة كعمل فني لم تقدمه هوليوود من قبل، ولم تستطع تجاوزه بعد ظهوره، رغم كل المحاولات. قام ببطولة الجزء الأول الممثل الاميركي مارلون براندو، وقدم فيه مارلون براندو شخصية دون فيتو كورليوني، وهي شخصية زعيم من زعماء المافيا. قبل أن يقوم مارلون براندو بأداء دوره في الفيلم، سافر الى صقيلة وجنوب فرنسا وايطاليا حيث تنتشر عصابات المافيا ليرى كيف يتكلمون وكيف يفكرون وكيف يتصرفون. وخلال أدائه لدوره في الفيلم، استطاع أن يجسد شخصية زعيم المافيا أفضل من أداء زعماء المافيا الحقيقيين أنفسهم، ولعل هذا هو الفرق بين الفن والحياة، إن الفن عادة أجمل وأكثر إقناعاً من الحياة العادية. في الجزء الثاني لعب روبرت دي نيرو والباتشينو دورين رئيسيين، لعب دي نيرو دور الأب الروحي في شبابه، ولعب الباتشينو دور ابن الأب الروحي في شيخوخته. ولعب كل واحد منهم دوره بإعجاز عبقري. أخرج الفيلم فرانسيس فورد كوبولا، ونجح أن يقدم علامة من علامات الفن السينمائي. لقد جاءت مشاهد الفيلم صوراً نابضة بالحياة والصدق الفني والإبداع الجمالي.. ومع الوقت صار الفيلم مرجعاً أساسياً لكل من يريد أن يكتشف هذا العالم الغامض المخيف للمافيا. وهم يقولون دائماً في عالم السينما والمسلسلات التلفزيونية أن العبرة بالأوراق. إذا كانت هناك أوراق جيدة فسيكون هناك فيلم جيد أو مسلسل متميز وهم يقصدون بالأوراق هنا، القصة.. والسيناريو. إنهم يشيرون الى المؤلف، إن كل نجاح يحققه العمل هو في نهاية الأمر مدين بوجوده للكاتب. كتب رواية الأب الروحي المؤلف الاميركي ماريو بوزو، وقد مات ماريو بوزو منذ اسابيع عن عمر يناهز 78 عاماً بعد اصابته بهبوط حاد في القلب، واعتبرت الاوساط الادبية في اميركا أنها فقدت واحداً من ألمع كتاب الدراما الاجتماعية ومن ألمع كتاب السيناريو في الوقت نفسه، وقد كتب ماريو بوزو روايته الأب الروحي في نهاية الستينات، وكتبها بشكل عادي دون أن يتوقع لها هذا النجاح الباهر، فقد اصدر روايتين، قبلها ولكن الجمهور والنقاد استقبلوا الروايتين استقبالاً عادياً، ولم تدر عليه أي منهما أرباحاً تذكر. ثم جاءت فترة الستينات، وكانت أحواله المالية سيئة، فقد كان مدنياً ومحاصراً بالديون وهو يكتب رواية الأب الروحي. ودفع بالرواية الى ناشر فاعطاه الناشر خمسة الاف دولار، وهذا مبلغ ضعيف بالنسبة لرواية. بعد نشر الكتاب سنة 1969 أصبح أشهر رواية في اميركا، وصار أكثر الكتب مبيعاً في الولاياتالمتحدة، وظل على قائمة عرض الكتب لصحيفة نيويورك تايمز لمدة 67 اسبوعاً، كما بيع منه حوالي 21 مليون نسخة. ثم تضاعف هذا النجاح بعد تحول الكتاب الى فيلم من ثلاثة أجزاء، كان بوزو قريباً من مجتمع المافيا بسبب نشأته العائلية في اسرة إيطالية فقيرة هجرت الى الولاياتالمتحدة وسكنت حي العصابات الايطالية واتيح يومئذ لماريو بوزو أن يرقب هذه العصابات وأن يطلع على سلوكها وتصرفاتها وبعض أسرارها. وقد اعتقد كثير من النقاد الذين تناولوا العمل بالتحليل والنقد، ان كتاب الأب الروحي كان تجربة شخصية لمؤلفه، وقد انكر المؤلف ذلك، وقال إن هذا شرف لا يدعيه، وأنه اعتمد في كتابة القصة على الأبحاث والقصص والمعلومات العامة عن المافيا، وملاحظة سلوكهم عن قرب. والحقيقة أن هذا الخلط بين الكاتب وحياته الشخصية كثيراً ما يدفع النقاد - من فرط صدق التجربة - الى الاعتقاد بأن المؤلف كان يتحدث عن حياته الشخصية. ما هو سر نجاح هذا الكتاب؟ هل هو الصدق الفني في كل مشهد؟ سواء كان مكتوباً أو مصوراً؟ هل هو غلبة العنف على هذه العصابات؟ وإخلاصها في القتل؟ وادائها للجريمة كما لو كانت تؤدي طقوساً وثنية يؤمنون بها؟ هل هو التناقض بين الاخلاص للأسرة بكل قيمها الاجتماعية وتدمير أسر أخرى كل ذنبها أنها اعترضت طريق الأسرة الأولى؟ إن كل عناصر النجاح تتوفر لهذه الرواية التي حولها المخرج العبقري الى عمل فني متميز لم تشهد له السينما العالمية من قبل مثيلاً.