صربيا هي الدولة الوحيدة في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان التي ما زالت تعيش عزلتها عن المجتمع الدولي، ويبدو مستقبلها مربوطاً بسقوط رئيسها ميلوشيفيتش، على الأقل. لكن إعلامها، ورغم بعض التحسينات الأخيرة نتيجة ضعف الدولة، هو الاعلام الأخير في هذه المنطقة الذي ما زال يئن تحت وطأة الرقابة والعقوبات. من البانيا المتخلفة إلى كرواتيا التي كانت تتقاسم مع بلغراد النظرة ذاتها الى الإعلام ودوره، شهدت الأشهر الستة الأخيرة تطورات ايجابية وتسويات مع الحكومات: صحف تيرانا اضربت أسبوعاً قبل أن تصل إلى اتفاق معقول مع المسؤولين الألبان حول الضرائب التي كانت مفروضة عليها لحثها على الرقابة الذاتية. أما كرواتيا، فإن مجتمعها الأهلي أفهم سلطاتها أنه لم يعد يعيش حرب تحرير، رغم صور التلفزيون التي تريد اقناعه بذلك. وهذا ما يلغي "الحاجة" الى قبوله بالوضع القمعي الذي كان فرضه الرئيس الكرواتي تودجمان على إعلامه. الوضع يختلف في صربيا، إذ أن حملة التشدد بدأت مع كسوفها في الدول المجاورة لها. ففي خريف 1998، طالت عقوبات بلغراد صحيفة "بوليتيكا" الموالية لسياسة حكومتها! إذ صدر قرار بتغريمها مبلغ 15 ألف دولار نتيجة نشرها أنباء ضد أحد أقطاب المعارضة، وكأن بلغراد ارادت إثبات "ديموقراطيتها" عبر... الرقابة. وسائل إعلام معارضة أخرى ذاقت أيضاً هذا العقاب، لكن بشكل أشد وطأة، إذ حُكم على صحيفة "دنيفني تلغراف" بتسديد مبلغ 240 ألف دولار، وعلى مجلة "ايفرو بلجانين" ب 120 ألف دولار، لنشرهما نصوصاً تطالب بتغييرات دستورية في البلاد. وهذا العقاب لم يكتف به نظام ميلوشيفيتش. فبعد أيام قليلة على إصداره، قام البوليس بمداهمة الصحيفة في العاشر من تشرين الثاني نوفمبر ومصادرة مئة ألف عدد منها. صاحب الجريدة وصحافيان آخران حكم عليهم بالسجن مدة خمسة أشهر. هذه الانتهاكات كادت تطول أيضاً صحيفتي "داناس" و"ناسا بوربا"، وبالطبع اذاعة B 92 المعارضة لميلوشيفيتش. فيوم بداية غارات الناتو على صربيا، أمر الرئيس اليوغوسلافي باغلاق هذه الاذاعة الغاضبة، ومن ثم تحويلها وتحويل مكاتبها في مطلع نيسان ابريل إلى اذاعة موالية لسياسته. حتى هذا التاريخ، ظلت B 92 صامدة أمام المضايقات الحكومية نتيجة الدعم المادي والمعنوي لها في العالم. فهي كانت قد حصدت عددا من الجوائز العالمية في كل من ايطاليا والولايات المتحدة من قبل الجمعيات المعنية بالدفاع عن حرية الصحافة. وB 92 كانت قد انشأت أيضاً شبكة إعلامية مستقلة عبر انترنت لإبقاء الضغوطات على حكومة بلغراد على صعيد دولي. اليوم، الاذاعة عادت إلى البث باسم جديد B2 92، لكن عبر الموجات التي يبث عليها التنظيم الذي يتزعمه دراسكو فيتش، المعارض الجديد بعدما كان خلال أشهر الحرب أحد أقطاب حكومة ميلوشيفيتش. هذا لا يعني أن الراديو لن يلقى في المستقبل القريب مضايقات جديدة. فهذا الاحتمال هو ما حمل مديره إلى تحصين مؤسسته بطاقم من الحقوقيين لمنع ميلوشيفيتش من استخدام أية حجة قانونية ضد الاذاعة الجديدة. اذاعة "اندكس" الصربية اغتنمت أيضاً الفرصة، فرصة ضعف الدولة، لإعادة بثها، كما حذت الحذو نفسه اذاعة 021 في مدينة نوفي ساد. الانفتاح عبر الاعلام يبدو أيضاً من أعمدة سياسة الجيوش الأطلسية الموجودة في منطقة كوسوفو. ففي مدينة ميتروفيتشا التي شهدت حوادث عنف في الأيام الأخيرة بين المتظاهرين الألبان والقوات الفرنسية، قامت هذه القوات بانشاء محطة اذاعية موسيقية: "اكور. إف. ام". إنها عملية نفسية، حسب تعبير المسؤولين عن هذه الاذاعة، فهي اليوم تكتفي باعطاء بعض النصائح حول الأحوال الجوية أو مناطق الألغام و... بث الأغاني، وذلك باللغتين الألبانية والصربية... وهذه التجربة سيعقبها على صعيد اوسع بناء محطة تلفزيونية في برستينا، بدعم مادي وبشري من الاتحاد الاوروبي. بداية البث مقررة مطلع شهر ايلول سبتمبر، بيد انه حتى الآن لم تتمكن ادارة هذه المحطة من ايجاد طاقم ألباني - صربي مشترك لتحضير البرامج وتقديمها. لذا فان معظم العاملين فيها سيكونون من دول اوروبا الغربية، وهذا ما قد ينتج عنه مشاكل ثقافية عويصة، خاصة اذا اضفنا انه يستحيل على تلفزيون بريستينا القديم اعادة البث نتيجة امتناع الشعبين الصربي والالباني عن العمل سوياً. مشاكل صربيا وكوسوفو والاعلام تبدو لا نهاية لها، وكأنها تدور في حلقة مفرغة، خاصة وان الصراع بين الشعبين بعيد عن حلول التسوية وعن اية مصالحة. وقد قفزت وسائل الاعلام الغربية اليوم من التكلم عن التطهير العرقي ضد الألبان الى الشيء ذاته ضد الصرب الذين لم يغادروا كوسوفو. هذا ما حاول التعبير عنه مدير تحرير صحيفة "كوها ديتوري" التي عاودت صدورها من برشتينا: باتون هاخيو. ففي محاولته الخروج من الصراع العرقي الذي ما يزال يدمي منطقة كوسوفو، اكد هاخيو على ان الامر لا يتعلق فقط بميلوشيفيتش وجنونه، بل بكافة المجتع الصربي، وطالب بولادة شخصية صربية كالألماني ويلي براندت تكون قادرة على طلب الصفح من الشعب الالباني، لاعادة بناء مجتمع متعدد جدياً في البلقان، مجتمعٍ يغادر الدورة الدموية الطاحنة، كما يغادر اكاذيب الحقبة الشيوعية الماضية والمستأنَفة.