التنمُّر سلوكٌ غيرُ حضاريٍّ، وقد جاء الشرعُ الحنيفُ بتحريمه، ونصوصه المتكاثرة واضحة في التحذير منه؛ ولأجل خطورته منع الشرع الحَوْمَ حوله أصلاً، كما هو مقتضى قاعدته في سدِّ الذرائع المفضية إلى المفاسد، فلا يحق لفردٍ من الناس أن يلحق بالآخر شيئاً من الأذى اللفظيِّ.. أراد اللهُ تعالى للناسِ أن يتعايشوا بإنصافٍ، وأن يُصلحوا في الأرض ولا يُفسدوا فيها، وأعلى لهم شأن الرابطة الإنسانية التي تربطهم، والتعايش يقتضي مراعاةَ كلِّ فردٍ حقوقَ الآخرين، وأن ينطلق من قاعدة أن الأصل في الأنفس والأموال والأعراض العصمة، وإذا سلك الإنسانُ الجادّةَ التي أُمر بها حمى له الشرع والنظام جميع مصالحه، وإن خرج عن الجادّة فأتى بما يقتضي معاقبته فالسلطةُ الشرعيّةُ هي المخوّلة بتقدير ذلك وتنفيذه، وليس ذلك من صلاحيّاتِ آحاد الناس، وقد منَّ الله تعالى علينا في دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية بنظامٍ يحمي حقوق الجميع، ويضمن الانتصاف للمجتمع وللفرد ممن أخلَّ بالحقِّ العام أو الخاصِّ على ضوء ما تقتضيه المصلحة العامّة والخاصّة، وهذا أهمُّ ما يصبو إليه العاقل من أنواع الكفاية، وهو أول خطوة في طريق العيش الكريم، وعلى كل فردٍ منّا أن يستشعر هذه النعمة العظيمة، وأن يعلم أن ليس بعد النظامِ يدُ عدلٍ، ولا لسانُ إنصافٍ، فمن تصرّف خارج نطاق النظام، فمدَّ يده لتعاطي ما يظنُّه حقّاً، أو أطلق لسانَه بما لا يُسيغه النظام للنَّيل ممن يرى أن له عليه سبيلاً، فليعلم أنه ينطلق من عقدةٍ نفسيةٍ، وليبحث عن هذه العقدة محاولاً علاجها، ولي مع منطلقات المعتدي على الآخرين وقفات: الأولى: من منطلقات المتطاول الحسدُ، وهو من الخصال المضادةِ للأُخوِّة الصَّافية، كما يدلُّ عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» متفق عليه، فقد وجَّه النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بأن يكونوا إخواناً بعد التحذير من التحاسد، وما ذُكِرَ معه، وفي هذا دليلٌ على أن هذه الخصال تنقض عرى التآخي، والحسدُ داءٌ عضالٌ يحمل صاحبه على مراكبَ صعبةٍ، منها افتعالُ إشكالاتٍ يزعم أن المحسود واقعٌ فيها مع أنها لا أساس لها؛ ولكونها مفتعلةً بلا أي مبرِّر فلا يعرضها على النظام، وإذا عرضها فبطريقةٍ يُحاولُ أن يلتبس فيها الحق حتى يُرى المبطلُ محقّاً والمحِقُّ مبطِلاً، وليس هذا من قبيل ما يجب على الفرد من توقير الأنظمة بالرجوع إليها والاحتكام لها في المنازعات، بل هو تلاعبٌ بها واستخفافٌ بمكانتها، وسبيل علاج هذه العقدةِ بأمورٍ منها استحضارُ قُبحِ الحسدِ شرعاً وعرفاً، وما يجرُّه من تنغيص حياة الحاسد قبل كل شيء، وأن يُحاسب ضميرَه مفكّراً فيما يريد أن يصنفه الناس الذين يرون تصرفاته؟ أيريد أن يعدُّوهُ مجرد مُعتدٍ يلبس لباسَ المنتصف أم يطمع في أن يخدعهم جميعاً؟ وهذا ما لا يتأتَّى له، فالناس من بينهم ذوو عقلٍ وبصيرةٍ يعرفون حقيقته وإن لم يُشعِروه بذلك، ومن يُغطِّي حسده بألبسةٍ أخرى مكشوفٌ للعقلاء. الثانية: التنمُّر، وهو سلوكٌ غيرُ حضاريٍّ، وقد جاء الشرعُ الحنيفُ بتحريمه، ونصوصه المتكاثرة واضحة في التحذير منه؛ ولأجل خطورته منع الشرع الحَوْمَ حوله أصلاً، كما هو مقتضى قاعدته في سدِّ الذرائع المفضية إلى المفاسد، فلا يحق لفردٍ من الناس أن يلحق بالآخر شيئاً من الأذى اللفظيِّ، بل إنَّ بعض الآيات يُمكن العنونة لمضمونها ب(مكافحة التنمُّر)، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، ومن محاربة الشرع للتنمر تحريضه على ضدِّه، فقد أمر الله تعالى عباده بإحسان القول للناس على وجه العموم، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)، وأنظمتُنا واضحةٌ -بحمد الله تعالى- في منعه، ومن طرق معالجته استحضار ما يترتّب عليه من ظلم الآخرين، وتحمُّل تبعات حقوقهم، واستحضار أنه يتعارض مع واجب الأخوة. الثالثة: جَعْلُ إعجابِهِ بالآخرين معياراً لسلامتهم منه، فبعض الناس قد يتطاول على غيره؛ لمجرد أنه لم يُعجبْه، أو لمجرد أن منافسَه أحبُّ إليه منه، ويرى أنَّه لا يتمُّ اعتداده بالطرف الذي يُعجبه إلا إذا حطّم الطرف الآخر، وقلّل من شأنه، وأدمن النّيل منه والتّطاوُل عليه، وقد يتوسع هذا التطاول حتى يشمل المعجبين بهذا الطرف، وهذا إجحافٌ ينافي الإنصاف، فكون الإنسانِ مرجوحاً في موهبةٍ معيّنةٍ -في نظر غيره- لا يمسُّ بشيءٍ من حرمته وعصمته، وما كان له من مزيّةٍ وفضلٍ يستحقُّ أن يُعتَرَفَ له به، ومن علاج هذه العقدة أن يضع الإنسانُ نفسَه مكانَ الآخر، وأن يُصارح نفسَه مطالباً إياها بتقرير ما إذا كانَ من الإنصافِ أن يُعامَلَ على أساس تلك الأسباب بمثل هذه المعاملةِ، فلو نافس في مهمةٍ أيُحبُّ أن يعتدي عليه من لم يُعجبُ بِهِ؟!