كنت قد اصبت بالدهشة عند رؤيتي عدداً من الصحف اللبنانية، على عكس وسائل اعلام العالم، تولي انتخاب ملكة جمال لبنان مكانة اهم من محادثات وايت بلانتيشين. فمن الصعب ان يكون هذا الموقف العجيب هو الرد على تجاهل صحف العالم لانتخابات ملكة جمال لبنان! ولكي لا نغالي في السخرية، لنقل ان الموقف اللبناني كان نتيجة قيود محلية، وايضاً قيود في مجال اللاوعي اذ يحاول الخروج من الشرق الاوسط الذي جلب على هذا البلد مصائب لا تعد ولا تحصى. "التفرّد" اللبناني صعقنا من جديد خلال الاسبوع الماضي. فالغياب السياسي في مأتم الملك حسين رافقه هجومه صحافة نصّبت ذاتها طليعة الثورة العربية: هجوم على الملك حسين وسياسته تعدى بفظاظته الشروط البدائية للعمل الصحافي. بيد ان دهشتي فترت عندما رأيت ان الموقف الصحافي اللبناني ليس فعلاً استثناء على الصعيد العالمي. وكل الدول التي تريد ان تنسى او تتجاهل محيطها الجغرافي المؤلم، تروح صحافتهم تعتم على ما يجري في هذا المحيط، ولو كان ما يجري قد غدا من أولويات القرية الكونية. المثل قادم من البلقان ومن محنة كوسوفو. فالحرب الدامية في هذه المنطقة لا تجد تغطية لها في صحف الدول المجاورة، والتي كانت حتى بداية التسعينات تؤلف معها دولة واحدة. مصرع خمسة واربعين شخصاً من كوسوفو على ايدي القوى الصربية لم يكن حدثاً مهماً في صحافة كرواتيا او مقدونيا او حتى البوسنة، التي كان يمكن بفعل تواجد مسلمين وصرب على ارضها، توقع تغطية فعلية في صحافتها لما يجري في كوسوفو. الغريب انه حتى البانيا انتظرت مصرع هؤلاء المدنيين للخروج عن صمتها. واذا كانت التغطية صعبة بسبب تكاليفها او اخطارها، فان التحليل الذي اعتدناه في صحف العالم الفقيرة او الكسولة هو ايضاً مفقود. فكأن كوسوفو اقتُلعت من البلقان وضمت لقارة اخرى، او بالأحرى بقيت وحدها في هذه المنطقة. ومن الاستثناءات، نقاش في المجلة البوسنية الصادرة في ساراييفو "سفيجت": فعشية اللقاء بين اطراف النزاع الصربي - الالباني في رامبوييه الفرنسية، قامت المجلة وبكثير من الحياد باجراء مقابلة مع معلّقين سياسيين، احدهما صربي من بلغراد والآخر ألباني من برستينا، حول امكانيات العيش المشترك للقوميتين في المستقبل. وبينما كان الصربي سلوبودان سمرديتش يتكلم عن تقسيم كوسوفو الى منطقتين رغم ان 90 في المئة من السكان ألبان مع الأخذ في عين الاعتبار الأصل العرقي للسكان وايضاً الآثار الحضارية، وكان الألباني عمر كارابيغ يفضل مشروع كوسوفو موحدة يحترم حقوق الاقلية الصربية، لم تجد مجلة ساراييفو في هذا الوضع اي تشابه مع ما شهدته وما تزال منطقة البوسنة. ولكي لا نكون مجحفين في حق إعلام هذه الدول الجديدة، لا بد من التذكير بالمضايقات والرقابة والضغوطات التي تتعرض لها هذه الصحف من حكوماتها. فصربيا وكرواتيا يجمعهما عداء حكوماتهما لوسائل الاعلام. ذاك ان بلغراد التي عيّنت وزيراً لاعلامها احد اقطاب حزب سبشليج اليمين المتطرف، لم تتأخر في رفض اعطاء ترخيص لأية وسيلة إعلام قد تكون معارضة لسياستها، وبالطبعت بدا التشدد اعنف مع وسائل الاعلام الطالبة للترخيص التي تبث من كوسوفو او حتى من المونتينغرو الجبل الاسود. صحيفتا "داناس" و"دنفنين تلغراف" توقفتا مدة عن الظهور بحجة كتابة مقالات اعتبرت "انهزامية"، واذا كان ما تبقى من مجتمع مدني صربي قد قام بعدد من الاحتجاجات في السنة الماضية ضد هذه الانتهاكات، فان "الوحدة الوطنية" ازاء قضية كوسوفو وانضمام المعارضة الى الحكومة الحالية قطعا كل امل بوجود صحافة حرة في صربيا. اما في كرواتيا، فلقد ذكرتنا مراراً المعارك التي شنها الرئيس تودجمان ضد صحافته، والتي حملت حتى الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي على التدخل والتهديد بقطع المساعدات ما لم تتوقف هذه السياسة. مجلة "فرال تريبيون" الساخرة، كانت اولى ضحايا تودجمان الذي ساق صحافييها الى المحاكمة بتهمة المساس بشخصه وبعائلته. وهي اليوم مجدداً مهددة بالاقفال، والسبب هذه المرة مالي. لكن وراء الأزمة الاقتصادية، محاولة جديدة لتودجمان لايقاف المجلة قبل الانتخابات المحددة لهذه السنة. شركة توزيع الصحف الكرواتية التي ما زالت ملك الدولة ترفض تسديد مبيعات المجلة التي تقدر بمئتي الف دولار كافية لحل الازمة المالية التي تعاني منها "فرال تريبيون". هذه اللمحة السريعة عن المضايقات التي تتعرض لها وسائل الاعلام في البلقان لا تُلغي الأسباب التي ذكرناها للصمت الاعلامي ازاء قضية كوسوفو. فعلى الباحث، ان يراجع صحف سلوفينيا ليرى بداية تعليق جاد حول آخر صراع في البلقان. صحيفة "غازييتا فيبورستا" البولونية نشرت حواراً، أجرته بمشاركة احد الاعلاميين الصرب، يلقي اضواء جديدة تجعلنا نفهم ما يجري في كوسوفو، او بالأحرى نفهم الاجماع الصربي على الصراع هناك، فلِعالم الاجتماع ومدير تحرير مجلة "ريبوبليكا" الصربية، نيبوشا بوبوف، يبدو الاجماع الصربي نتيجة مشروع لتثبيت صربيا في دور الضحية على مدى التاريخ، وهو الذي لم يعارضه مثقفو بلغراد. وغياب مثقف كالكاتب البولندي غمبروفيتش الذي كان قد "فسّر" لشعبه انه طالما ظل البولنديون يعتبرون انفسهم ضحية التاريخ، فليس هناك مستقبل لدولتهم. وهكذا من دويلات البلقان نعود مرة اخرى الى دويلاتنا…