تجتمع في القاهرة لجنة من الخبراء القضائيين والدستوريين لصياغة مشروع دستور فلسطيني، وهذه، مع احترامنا لجهود الخبراء وصدق نواياهم، ونوايا اللجنة الأوروبية التي أوصت بدورها بتبني دستور كوسيلة لتحسين أداء السلطة الفلسطينية والدولة التي يمكن أن تنبثق عنها، هذه أكبر مضيعة للوقت لا يماثلها ربما إلا التهديد والوعيد والتلويح بإعلان دولة فلسطينية في الرابع من أيار مايو هذا العام. والخوف أن تقود هذه الجهود المنبهرة بالشكليات إلى المزيد من تفاهة فكرة الدولة والدستور والقوانين وفي هذا خطر أكبر، في رأينا، من عدم وجود دستور أصلاً في دولة ما. ونحن نذكر هنا أن الدولة الفلسطينية مثلاً سبق أن أعلنت وجودها فعلاً، أو على الأقل تم الاعلان عن استقلالها، في تشرين الثاني نوفمبر 1988، وسط الانتفاضة الفلسطينية، وكتب الاعلان الجزيل شاعرنا الحبيب محمود درويش، ونشرت الصحف نداءات ودعوات إلى الفلسطينيين في الغربة لتقديم طلبات إلى مكاتب منظمة التحرير في العالم للحصول على جوازات سفر فلسطينية. ورافقت الاعلانات صور لهذه الجوازات المنتظرة. يعني اكتملت للفلسطينيين كل مراسيم الدولة، ما عدا الأرض والسيادة طبعاً. ولم تكف هذه التجربة وهي ليست الأولى من نوعها في التاريخ الفلسطيني، فهناك من قبلها مثلاً حكومة عموم فلسطين التي أعلنها الحاج أمين الحسيني لإظهار فراغ وهشاشة مفاهيم الدولة والاستقلال والدستور والقانون في سلوك المؤسسات الفلسطينية، وتحويلها من هدف وطني ذي مضمون إلى ألعوبة اعلامية وتمرين في البلاغة. فها نحن نعكف من جديد على محاولة، يقوم بها موظفون - مهما كان من خبرتهم أو وطنيتهم - لصياغة دستور لدولة لم تولد بعد وليست هناك أدلة وجيهة على أن ولادتها آتية قريباً، أو أنها ستلبي آمال منتظريها وستستحق الحياة أو تتمتع بها طويلاً. ومهما يكن من مستقبل الدولة الفلسطينية، على افتراض أنها آتية الآن، والآن وليس غداً، تظل هناك أسباب كثيرة تدعونا إلى توجيه النصح بصرف النظر عن محاولة صياغة دستور فلسطيني اليوم، ولسنوات كثيرة مقبلة. أول اعتراض نسجله على الجهود الدائرة لوضع دستور فلسطيني، أنها تدور في ردهات جامعة الدول العربية، ينشط فيها خبراء دستوريين من أنحاء العالم العربي. ونحن نحترم جامعة الدول العربية ونرى لها دوراً مهماً في مختلف الطموحات الفلسطينية، واستشارة الخبراء واجبة ولا شك، وكلما كانت خبرتهم أوسع، كلما كان ذلك أفضل للفلسطينيين، لكن دستوراً تتم صياغته في عزلة عن الحياة السياسية للشعب المعني بالأمر، وعلى يد خبراء، وكأن الأمر تجربة علمية في أنابيب اختبار، سيظل حبراً على ورق. إن دستور أي أمة يمثل المبادئ التي تجمع عليها هذه الأمة، ولا يتم انتاج دستور يعبر بصدق عن هذه المبادئ إلا بشروط كثيرة تتوفر مسبقاً، أولها حوار واسع مفتوح مطول بين وجهات النظر السياسية الأساسية في هذه الأمة. ونعني هنا حواراً واعياً وليس تبادل الشعارات والمزايدة. ولم ينشأ هذا الحوار، بل يصح القول إن الحوار الفلسطيني تدهور في الغربة منذ الخروج من بيروت، ثم تدهور في الوطن منذ قيام السلطة الفلسطينية. ومن الانصاف كذلك القول إن لهذا التدهور أسباباً كثيرة ليس أقلها الضغوط اليومية التي يعيشها الفلسطينيون والسلطة، من الأزمة الاقتصادية إلى مأزق المفاوضات مع إسرائيل. لكن التضخم، بل الترهل، المؤسساتي والأمني في ظل السلطة ساهم إلى حد كبير في هذا الاسفاف الفكري، وفي إحالة جل المفكرين إلى موظفين يخشون على رزقهم، أو إلى معارضة متشنجة تتبنى مواقف رخيصة لأنها تعرف أنها لن تصل يوماً إلى موقع مسؤول تحتاج فيه إلى التوفيق بين الواقع وبين عنترياتها الجامحة. السبب الثاني الذي يجعل من الصواب تأجيل موضوع الدستور هو ضغوط المفاوضات التي تواجهها السلطة الفلسطينية، والتي ستزداد الحاحاً بعد ان تم تشكيل الوزارة الإسرائيلية الجديدة وشن ايهود باراك حملته الخاصة لإحياء المفاوضات. وربما كانت هناك وجهة نظر ترى في جهود صياغة الدستور ورقة يمكن لعبها في هذه المفاوضات لأنها ستضع في الواجهة مسألة القدس والحدود واللاجئين. وفي هذا خطر كبير ومغالاة في الاستخفاف بفكرة الدستور ذاته، إذ لا يصح اطلاقاً وكمبدأ ان تكون صياغة الدستور موضع تفاوض مع إسرائيل العدو أو الولاياتالمتحدة. لكن هذا محتم إذا جرى العمل على وضع الدستور بينما المفاوضات دائرة. ولنتوقف هنا لحظة لاستعراض بعض القضايا المبدئية التي يجب أن يغطيها الدستور، وهي حقوق المواطن وواجباته، ومصدر شرعية القوانين، ومصدر شرعية الحكومة، والأبعاد الجغرافية للدولة ومصدر شرعيتها وعاصمتها، وهذه كلها لا تزال موضع تفاوض مع إسرائيل. ومن السذاجة الاعتقاد بأن الفلسطينيين قادرون على فرض إرادتهم في هذه المسائل، بل ستتدخل إسرائيل، قبل وأثناء وبعد إعلان أي دستور من هذا النوع، ولن يتم العمل بأي دستور من دون رضا إسرائيل. وكفى الفلسطينيين مذلة أن ميثاقهم الوطني القديم، بكل عيوبه والذي كانت وضعته كذلك لجنة خبراء من جامعة الدول العربية، تم تعديله في مهرجان مسرحي كتب له السيناريو في واشنطن وحضر المشهد الأخير فيه الرئيس الأميركي في زيارته اليتيمة لفلسطين كي يبارك هذا الحدث. إن احترام فكرة الدستور يفرض تجنب مهزلة مماثلة. كيف سيتعامل هذا الدستور مع قضية انتماء فلسطينيي المهجر إلى الدولة الجديدة؟ بل كيف يمكن للدستور ان يتحدث بجد عن التزامات دولة غير موجودة لمواطنين يقيمون في دول أخرى وقد يحملون جنسياتها في الوقت ذاته؟ وليس هناك اجماع فلسطيني أو وضوح فكري لدى السلطة عما إذا كانت هذه الدولة ان افرزتها المفاوضات وهو ما سيحدث على أغلب الأحوال تعبيراً ناضجاً عن الطموحات الوطنية الفلسطينية. هناك جزء كبير من الفلسطينيين، نعتقد أنه الأغلبية، يؤيد فكرة الدولة والسلطة، لكنه يراها، في حدودها المطروحة الآن، أي بعض الأرض المحتلة في 1967، مرحلة موقتة، ويرى النزاع مع إسرائيل على مصير بقية الأرض الفلسطينية مهمة طويلة الأمد للأجيال القادمة. لكن التعبير عن ذلك التصور في الدستور مستحيل في ظل الظروف السياسية الراهنة ودقة المفاوضات مع إسرائيل، والتظاهر بأقل من ذلك إنما يحيل الدستور إلى وثيقة تافهة وهذا مكمن الخطر. كيف سيطرح الدستور مسألة اكتساب حق المواطنة في هذه الدولة، علماً بأن أي دستور يغفل ذلك سيكون أيضاً ورقة تافهة؟ هناك ضرورة ملحة لمواجهة وضع الفلسطينيين الذين أجبروا على اللجوء خارج أرضهم في 1948 وما تلاها، وأبناء وأحفاد هؤلاء اللاجئين. إن دستوراً ينص على حق العودة ولو مبدئياً، ثم لا يتم تطبيقه، سيكون مهزلة، ودستوراً يتحدث عن ذلك ثم يضظر كتّابه إلى التراجع عن تلك البنود وتعديلها تحت ضغط إسرائيل والولاياتالمتحدة سيكون مهزلة أسوأ. المسألة أكبر من مجرد الشعارات والمبادئ، هناك ضرورة ملحة لمعالجة وضع الفلسطينيين في لبنان وسورية، وهذه قضية حياتية تتجاوز الشعارات، ولا يمكن احترام دستور دولة تقصر في حماية من تدعي أنها تمثلهم، أو تعلن ذلك على الورق ثم تؤجل التنفيذ، أو تعلن وتراوح في التفسير كأننا في معهد اللغويات. إن البهلوانيات الكلامية التي رافقت التراجع التدريجي عن الميثاق الوطني الفلسطيني بهدلة من الأفضل تلافيها بعد اليوم. وقل مثل ذلك عن حق العودة والتعويض للاجئين، وعلاقة الدولة الفلسطينية بالفلسطينيين الذين بقوا على أرضهم ويحملون اليوم الجنسية الإسرائيلية. كلها قضايا تحتاج إلى حوار عميق بين الفلسطينيين لم يحدث بعد، وقدرة على اعلان موقف والتمسك به وهو أمر غير متاح بعد، خصوصاً والمفاوضات لا تزال تتعثر. فإذا طرحنا جانباً هذه القضايا السياسية العويصة، تظل هناك مبادئ مهمة يجب أن يتضمنها الدستور ولا نعرف ان هناك حواراً ناضجاً فيها بين الفلسطينيين، ناهيك عن اجماع وطني. ومن هذه القضايا صلاحيات السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ومن حق المواطن الفلسطيني أن يتوقع أن يأتي تحديد هذه المسائل من صفوف الأمة، لا من مجموعة أساتذة في القانون تم توظيفهم بضعة أسابيع. الدستور تعبير عن تصور الأمة لنفسها وليس وصفة طبية. ويجب أن يحمل أولاً رضا المواطنين عن طريق ممثلين ينتخبون بحرية ووعي وادراك لهذه المسؤولية، ولا يكفي ان يحمل رضا السلطة التي يُفترض أنها ستخضع لهذا الدستور. ومن العبث هنا القول إن الدستور سيخضع قبل إقراره لنقاش أو استفتاء أو تصويت، لأن هذا التصويت سيكون لإقرار قالب جاهز والنتيجة معروفة سلفاً، وشتان بين هذه العملية وبين صياغة حرة صادقة لما يتفق عليه الفلسطينيون وهم لا يتفقون على كثير أصلاً. عندما تتبنى أمة دستورها، فإنها تعبر بذلك عن رؤية تتوقع أن تحملها الأجيال المقبلة مئة سنة أو مئات. ونحن في منطقة لا تزال تتنازعها الخلافات على العلاقة بين الشريعة والقانون المدني مثلاً، وهي علاقة يفترض أن يحددها الدستور. وتتفرع من ذلك قضايا كثيرة ليس أقلها حقوق المرأة وحقوق المسيحيين، أي مبدأ مساواة المواطن في الحقوق والواجبات وكيفية تطبيق ذلك عملياً. إسرائيل نفسها واجهت هذا السؤال عند انشائها، ورغم ان العرب يفضلون الاعتقاد بأن إسرائيل تجنبت اعتماد دستور لأنها لا تريد الالتزام بحدود معينة أو عاصمة عندما كانت تل أبيب عاصمتها، فإن الإسرائيليين أنفسهم يعرفون ان سبباً أساسياً لتأجيل قضية الدستور هو محاولة تأجيل البت في علاقة الدين والمذهب بالدولة، وهو تأجيل لم يؤذ إسرائيل كثيراً في السنوات الخمسين الماضي، بل كان نتيجة قناعة بأن الوقت لم يكن مناسباً لتلك المعركة. ولعل من الأفضل للفلسطينيين دراسة التجربة الإسرائيلية، حيث دولة قائمة ذات قوة ومناعة لا يقلل من شأنها أنها ارتأت، حماية لمصلحتها ومراعاة لظروفها، تأجيل الدستور إلى لحظة أكثر صفاء ربما كان وقتها قد حان، بدلالة الحوار الذي أحاط بالانتخابات الأخيرة. لا يضر الفلسطينيين تأجيل الدستور، ولكن يضرهم كثيراً اعلان دستور نموذجي لا يلتفت إليه أحد، أو إعلان دستور وتغييره كلما تغيرت رياح السياسة وكأنه قائمة وجبة عشاء. والأفضل بدلاً من محاولة شراء الشرعية بوثيقة لا قيمة لها، ان تبذل الجهود لبناء الشرعية من القاعدة، وصياغة قوانين مدنية أساسية لتسيير شؤون الدولة والمواطنين، حتى تصبح للأمة خبرة وتجربة حقيقية تكون هي أساس اجماع في المستقبل على الأسس المبدئية التي يعبر عنها الدستور. عندما تبنت الولاياتالمتحدة دستورها غداة إعلان الاستقلال، كانت ترتكز على تجربة قانونية طويلة استمدت من تراث القوانين البريطانية، وهو أعرق تراث قانوني غربي، بل ان أحد أهم دوافع الثورة الأميركية كان الاحتجاج على ظلم القوانين في تعاملها مع المواطنين الذين استوطنوا مستعمرات العالم الجديد، أي نتيجة وعي وإدراك لماهية القانون وكيفية تطبيقه، ولم تكن ثورة نتيجة احساس بالتميز القومي أو العرقي أو الديني. لذلك كانت صياغة الدستور تعبيرا طبيعياً عن تلك الثورة. وعندما قامت الثورة الفرنسية وبادرت إلى صياغة دستورها، كان ذلك أيضاً تعبيراً طبيعياً عن مبادئ تلك الثورة التي أفرزتها عقود من الجدل الفكري والقانوني عن علاقة المواطن بالدولة. أما في الدولة الفلسطينية فالقضية لا تزال فجة لم تختمر بعد، ولن يغير من ذلك اعتماد أجزل الدساتير وأكثرها روعة. فلتنصب الجهود على اعتماد قوانين أساسية يمكن اعتبارها مسودة متواضعة لدستور في المستقبل، والإصرار على احترامها من المواطن والدولة معاً. * كاتبة فلسطينية.