في نهاية روايته الأشهر "البحث عن الزمن الضائع"، يتحدث مارسيل بروست باسم الراوي، فيحكي لنا كيف انه حين أراد أن يشارك في "صبحية" آل غيرمانت الشهيرة، لم يتوجه إلى الدائرة الواقعة بالقرب من "فوبور سانت اونوريه" بل تلك الأخرى الواقعة في "الغابة". لماذا؟ لأنه بكل بساطة أراد ان يتفادى أي ذكرى تتعلق ب"تلك الأميركية التي لا أهمية لها على الاطلاق بالنسبة إليّ". القارئ العادي قد لا يهمه كثيراً أن يعرف ما إذا كانت تلك الأميركية حقيقية أم من بنات خيال المؤلف، ومن تكون إن كانت حقيقية. أما الخبراء في الأدب البروستي، والذين صرفوا وقتاً طويلاً لمعرفة من يختبئ وراء كل شخصية من شخصياته، فكانوا منذ زمن بعيد يعرفون أن "تلك الأميركية" ليست، في الحقيقة، سوى اديث وارتون، الكاتبة النيويوركية، التي كانت تعيش بين الولاياتالمتحدةوباريس ومونت كارلو. ولكن لماذا كان اشمئزاز بروست منها؟ بكل بساطة لأنه حدث ان دعاها ذات مرة لتناول الشاي معه في "كافي رويال" فرفضت، لأن الوقت الذي حدده كان بعد منتصف الليل. معارف بروست لم تكن مثل هذه الغرائب، منهم تدهشه. أما الكاتبة الأميركية الارستقراطية فوجدت في الأمر ما يصدمها فاستنكفت، وكانت النتيجة ان صارت واحدة من الطيوف الكثيرة التي تعبر "البحث عن الزمن الضائع". والحقيقة ان اديث وارتون لم تكن، في ذلك الحين، في حاجة إلى قلم مارسيل بروست لكي يضفي عليها الشهرة. فهي كانت، عبر حياتها المدهشة ورواياتها التي تتحدث خاصة عن الطبقات العليا في المجتمع النيويوركي، عرفت كيف تجعل لنفسها مكانة لا تقل عن مكانة هنري جيمس. غير ان أدب اديث وارتون سرعان ما نسي في زحام التطورات الأدبية في القرن العشرين، فإذا بالمخرج السينمائي، النيويوركي هو الآخر، مارتن سكورسيزي، يصفها قبل سنوات في واجهة الحياة الأدبية وينفض عنها الغبار، حين اختار روايتها الأكبر "سن البراءة" ليحولها إلى فيلم سينمائي. وهكذا، بشكل مباغت عاد الحديث عن اديث وارتون. واكتشف الناس أدبها من جديد. وعرفوا أنها ماتت يوم 12 آب اغسطس 1937، ولكن ليس في نيويورك كما كان الكثيرون يتصورون، بل في قصر كانت تمتلكه غير بعيد عن باريس. ومع إعادة إحياء ذكرى اديث وارتون، عادت لتقفز إلى الأذهان اسماء الشارع الخامس في نيويورك، وجادة الشانزيليزيه في باريس، وكازينو مونت كارلو، ومارسيل بروست، وسيدات المجتمع المخملي الأميركي ولحظات التغير التي اصابتهن لدى احتكاكهن بالتقاليد الأوروبية العريقة، وكذلك الاثر الذي كان تحررهن يتركه في كل مرة يزرن فيها لندن أو باريس. فإديث وارتون اهتمت، مثلما كان حال هنري جيمس، الذي تقاطعت طريقها معه أكثر من مرة، وكان هو - كما يقال - من قدمها إلى المجتمع الأدبي الفرنسي، اهتمت اديث بالحديث عن الصدمة الحضارية على مستوى السلوك والاخلاقيات، حين راحت القارة القديمة تكتشف القارة الجديدة والعكس بالعكس. والحقيقة ان هذا الأدب كان قد كف عن إثارة الاهتمام خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتالي نُسيت اديث وارتون في وقت ثار الاهتمام فيه من حول أميركيين آخرين "تأوربوا" وكانوا أقل ارتباطاً بالطبقات العليا في المجتمع، وأكثر ديناميكية وتحرراً من اديث وارتون. ولكن منذ اللحظة التي عاد الاهتمام فيها يحلق من حول هذه الأخيرة، وينشر روايات لها أنيقة ومهمة مثل "سن البراءة" و"عند سعداء هذا العالم" و"الزواجات السعيدة" و"ايتان فروم"، حتى التقطها القراء، وبدأوا يتحرون عنها وعن حياتها. فاكتشفوا ان وراء هذه الأديبة التي لا تقل عن بروست - الذي يشبه أدبها بأدبه عادة - تمعناً في السلوك البشري، كانت سيدة تنتمي إلى الارستقراطية العليا، متحررة، ثرية، تعرف كيف تقيم الصداقات بسرعة مع كبار أدباء هذا العالم، إنما ضمن الشروط التي كانت هي تحددها. وحكايتها مع مارسيل بروست ليست الحكاية الوحيدة التي تروى عنها. إذ يروى أيضاً ان سكوت فيتزجيرالد الذي كانت لا تكف عن ابداء اعجابها بأدبه، خطر له ذات مرة ان يزورها، لكنه لم يتنبه إلى أنه ثمل وان اديث وارتون لا تستسيغ مثل هذا، وهكذا ما أن قرع باب بيتها الباريسي ودخل، وفاحت منه رائحة الخمر، حتى أبدت له كل ضروب الاحتقار واللامبالاة، ما جعله يعود على عقبيه، ويحاول أن يعتذر لها في اليوم التالي. لكنها أبداً لم تقبل اعتذاره، فهي لئن كانت متحررة متسامحة في أدبها، كانت شديدة المحافظة في حياتها الشخصية، مثل كل أبناء طبقتها وبلدها في ذلك الحين.