بعض المتأملين لما حدث في مصر والعالم العربي خلال العقود الاخيرة، ومن بينهم الروائي الكبير نجيب محفوظ في "اعترافاته" التي ادلى بها الى رجاء النقاش ونشرها هذا الاخير في كتاب اثار ضجة العام الفائت، يأخذ على الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر "تسرعه" في التعبير عن رغبته في تحقيق "الوحدة العربية"، باعتبار ان هذا "التسرع" هو الذي نسف فكرة الوحدة، وأضرّ بمصالح مصر، وعلاقاتها مع بعض اجزاء العالم العربي. وهم، في معرض تعبيرهم عن هذا، يضربون مثلاً، في الوحدة السورية - المصرية، وفي فشلها السريع. من الناحية الشكلية يبدو هذا الكلام صحيحاً. ولكن يبقى سؤال: هل كان عبدالناصر، حقاً، "متسرعاً" في سلوك درب الوحدة؟ هل استتبت الأمور فأفشلها؟ عودة الى بعض المواقف التي عبر عنها عبدالناصر، في هذا السياق، قد يكون من شأنها ان توفر رداً مناسباً على هذين السؤالين. اذ، الى تردد عبدالناصر في اتخاذ قراره "الوحدوي" يوم فاوضه البعثيون السوريون، وغيرهم من الوطنيين، على ذلك قبيل اعلان الوحدة المصرية - السورية، وقبل تردده الحاسم بعد ذلك في المفاوضات الوحدوية مع العراقيين، والسوريين، هناك موقفان يكشفان، بشكل واضح، رأي عبدالناصر الحقيقي. اول الموقفين، وأقلهما أهمية على أي حال، كان ذاك الذي عبر عنه الرئيس المصري امام المؤرخ الفرنسي بنوا - ميشال، قبل اسابيع قليلة من اعلان الوحدة بين مصر وسورية، اذ قال له بكل وضوح انا لا "اسعى، اطلاقاً، الى تكوين امبراطورية. كل ما اريده هو ان اساعد أمة على وعي ذاتها"، لذلك، اضاف عبدالناصر "لا يدخل في حسباني ابداً ان أفرض هيمنتي على شعوب لا تريدها". ان حركة الوحدة، قال عبدالناصر "لا يمكن تحقيقها الا عبر وسائل سياسية وسيكولوجية". يومها علق بنوا - ميشال على هذا الكلام قائلاً ان التمييز الذي اقامه عبدالناصر بين الامبراطورية والأمة كان مهماً، وينتمي فكرياً الى فلسفة سياسية واضحة ودقيقة، فالامبراطورية بالنسبة اليه هي "مجرد تجميع لشعوب مشتتة، يتم اخضاعها ضد ارادتها، تبعاً لارادة الطرف الأقوى"، اما الأمة فهي "مجموع حقيقي متجانس، يشعر كل طرف في داخله انه في داره". والموقف الأهم، في السياق نفسه، هو ذاك الذي عبر عنه جمال عبدالناصر، في مثل هذا اليوم من العام 1960 عند افتتاح الاتحاد القومي في "الاقليمين" الشمالي والجنوبي. وأهمية الموقف تكمن في انه أتى في وقت كانت فيه "الوحدة" قد تحققت. غير ان عبدالناصر، وكما هو واضح، كان بدأ يتلمس مخاطرها وهناتها في وقت مبكر، من هنا ما قاله في خطاب افتتاح الاتحاد القومي، ففي الوقت الذي عبر فيه عن آماله الوحدوية، وكون الوحدة سبيلاً لاقامة مستقبل جيد للأمة العربية، لم يفته ان يبدي الكثير من الحذر والواقعية. وفي ذلك الخطاب، الذي يميل الكثيرون الى نسيانه اليوم، ذكر الرئيس المصري مستمعيه بالمبادئ التي تقود خطواته في المجال الوحدوي، وأول تلك المبادئ ان "الوحدة لا يمكنها ان تكون سوى ثمرة اختيار حر ومستقل" وثاني المبادئ انه يتوجب على الشعوب التي تتطلع الى الوحدة ان "تحقق اول الأمر وحدتها الوطنية الداخلية، اي داخل حدودها القائمة، وذلك قبل ان تفكر بالانفتاح الوحدوي على اقطار تقع خارج تلك الحدود". وكان من الواضح ان عبدالناصر يعني هذا الكلام بشكل عملي، اذ انه سرعان ما اعطى ثلاثة أمثلة هي لبنان والسودان والعراق، متسائلاً: "كيف يمكن لهذه الاقطار الثلاثة ان تدخل في وحدة عربية جامعة قبل ان تتمكن قبل ذلك من حل المشاكل والصراعات الدينية والطائفية والعرقية التي تمزقها؟". وأكد في الخطاب نفسه ان الوحدة، ان قيّض لها ان تتحقق فيجب ان تكون "موضوع تطور متواصل وإيجابي، لا ان تتم عن طريق القوة". يومها، في خضم الحماسة الوحدوية كانوا قلة أولئك الذين تنبهوا الى خطورة كلام عبدالناصر. وبعد ذلك حين انفرطت الوحدة السورية - المصرية، لم يهتم احد، كما يبدو، بالتذكير بأن الكلام الذي قاله الزعيم المصري، كان في حد ذاته ناقوس خطر، في وقت كانت فيه الأمور تبدو زاهية، مشرقة، وتبشر بمستقبل وحدوي عامر!