في اواسط شهر ايار مايو 1958، كان جمال عبدالناصر قد عاد الى القاهرة بعد ان امضى ثلاثة أسابيع كاملة في الاتحاد السوفياتي. وكانت تلك الأسابيع شهدت اقصى درجات التقارب بين "الريس" المصري والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف. خلال الزيارة التي كانت رسمية بقدر ما كانت سياحية وخاصة، بذل مضيفو عبدالناصر السوفيات، وخروتشوف على رأسهم، كل ما في وسعهم لتكريم الرئيس الضيف والتقرب منه. وكان ذلك في زمن يحاول فيه خروتشوف، ان يبدو بعيداً عن الستالينية وأساليب احتوائها للأطراف الخارجية. من هنا كان ذلك التقارب، بين زعامات الكرملين وعبدالناصر، الذي تحقق في الوقت نفسه الذي كان فيه هذا الأخير يؤكد على استقلالية بلاده عن الكتلتين، الرأسمالية والاشتراكية، او سلوكه سبيل الحياد الايجابي، وصداقته مع الماريشال تيتو في يوغوسلافيا. ومن الناحية المبدئية كان من الواضح ان خروتشوف لا يرى ضيراً في ذلك كله، هو الذي كان يتطلع الى التعامل مع امم مستقلة ذات سيادة، وقوية، شرط الا يؤدي ذلك كله الى "توريط بلده في معارك ليست مستعدة لها". ولكن، ما ان مضى شهران على ذلك، حتى تبدلت الأمور. تبدلت لمصلحة عبدالناصر وصعوده المدوي في المنطقة، هو الذي كان حقق الوحدة مع سورية عند اوائل ذلك العام، وراح يبرز على الساحة الدولية كواحد من أبطال حركات التحرر الوطني، مجتذباً الجماهير العربية "من المحيط الى الخليج" كما كان التعبير الشائع في ذلك الحين. لكن التبدل، على رغم ايجابيته - بالنسبة الى عبدالناصر- ارعبه. ففي اواسط شهر تموز يوليو من ذلك العام، وتحديداً يوم 16 من ذلك الشهر كان عبدالناصر يمضي اجازة هادئة في يوغوسلافيا، غير متوقع احداثاً جسيمة في المنطقة العربية على الرغم من اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، بين مناصريه وخصومه هناك. في ذلك الوقت اتته أنباء الشرق الأدنى، وكان بعضها ايجابياً وبعضها مقلقاً. من الناحية الايجابية كانت هناك ثورة العراق التي أطاحت الحكم القائم وأوصلت الى السلطة تحالفاً عسكرياً - حزبياً يدين بعض اطرافه بالولاء للزعيم المصري، وكان هناك تقدم في لبنان للقوى المحسوبة على عبدالناصر. ولكن، في مقابل هذين الأمرين الايجابيين، كانت هناك امور مقلقة، مثل الانزال الاميركي على ساحل بيروت، بناء لاستدعاء حكومة الرئيس كميل شمعون، وكان هناك الف مظلي بريطاني انزلوا في الأردن. وكانت مهمة هؤلاء حماية الحكم الأردني في ضوء الأحداث العراقية الخطيرة. ان لم يكن محاولة التأثير في الوضع العراقي نفسه. وهكذا وجد عبدالناصر نفسه، في تلك الأيام وسط دوامة يتراوح معها بين القلق والشعور بالانتصار. وأحس انه غير قادر على الاستمرار في اجازته، وان لا بد له من جس نبض حلفائه السوفيات، لمعرفة ما الذي سيكون عليه موقفهم ان ادى التدخل الاميركي والبريطاني الى اندلاع حرب في الشرق الأدنى. وهكذا طار عبدالناصر الى موسكو في ذلك اليوم ليعقد اجتماعاً سرياً مع نيكيتا خروتشوف. وهو حين عاد بعد الاجتماع كانت تبدو عليه، بكل وضوح، علامات خيبة الأمل. لماذا؟ لأن الزعيم السوفياتي حرص طوال الأحاديث بينه وبين "الريس" على ان يبقي كل اجاباته على اسئلة هذا الأخير غامضة ملتبسة، وألا يقطع أي تعهد بأي عون عسكري مباشر قد يطلب من الاتحاد السوفياتي تقديمه. باختصار كان خروتشوف لا يريد ان تجره الاحداث العربية الى حرب عالمية ثالثة، صحيح انه لم يقل هذا بكل وضوح ومباشرة، لكنه قاله مداورة. يقينا ان عبدالناصر لم يكن لينتظر من السوفيات ان يخوضوا حرباً ضد الغرب، وكان يعرف استحالة ذلك. لكنه كان، على الأقل، يريد افهام الغرب ان السوفيات معه حتى النهاية. وخروتشوف لم يكن موافقاً على ذلك. من هنا كان ذلك الاجتماع فاشلاً بين الزعيمين. وأحسّ عبدالناصر ان انتصاره العربي ليس كاملاً، واعتبر ان السوفيات مسؤولون عن ذلك. فماذا فعل؟ بدأ - بالتدريج - حملة ضد الشيوعيين المصريين والسوريين، منذ عودته، وهي حملة سوف يوصلها الى ذروتها في خطاب القاه في بورسعيد بعد شهور قليلة اتهم فيه الشيوعيين السوريين، على الخصوص، بالعمل في سبيل ضرب الوحدة بين مصر وسورية، وبالتواطؤ مع الامبريالية. وكان من الواضح ان عبدالناصر يوجه رسالة مثلثة: من ناحية الى الشيوعيين السوريين الذين كان زعيمهم خالد بكداش لاجئاً في بيروت ويعمل ضد النظام الناصري، ومن ناحية ثانية الى عبدالكريم قاسم، زعيم الثورة العراقية، الذي كان بدأ يوجه سهامه الى حلفاء عبدالناصر في العراق، ومن ناحية ثالثة - وخصوصاً - الى الكرملين. والملفت ان "رد" الكرملين جاء بعد أيام من ذلك: قرر تمويل بناء السد العالي بعد تردد الصورة: عبدالناصر في موسكو