يتعذّر على أي كان أن ينكر المزاج الوحدويّ الذي تحكّم في خيارات الشارع السوري السياسية والمصيريّة، خصوصاً في الفترة التي شهدت مقدمات الوحدة الاندماجيّة مع مصر الناصريّة. لكن ما ليس متعذراً هو اعادة قراءة ذاك الحدث، قراءة هادئة وواعية، سوسيولوجيّاً وسياسياً. ذلك أن سورية المعاصرة قد افتقدت في كيانها السياسي أجزاء كبيرة وهامّة من أرضها الحيويّة، الأمر الذي أعلى من الغريزة الوحدويّة لدى معظم السوريين، في محاولة للتعويض عن كيانهم الناقص، ودورهم المركزي في اقليم متعدد وغنيّ، وشديد الجاذبيّة سياسياً واجتماعياً. من هنا، يمكن أن نفهم تعجّل الشارع السوري ولهفته الى وحدة مع مصر، التي مثّل وجود زعيم شعبوي وخَطابيّ كعبدالناصر قيمة استثنائية لها ورفع من موازينها العروبيّة والقوميّة. وهي أمور استثمرها العسكر في سورية، الذين كانوا قد أطبقوا على الحياة السياسية فيها الى درجة هدّدت ادارة البلاد، ما جعلهم يرون الى الوحدة مع عبدالناصر مهرباً وخلاصاً خارجياً من أزمات داخليّة. فعملوا على اللعب على عواطف شعبهم الوحدويّة والقوميّة بالتزامن مع حركة حثيثة للسفارة المصرية في دمشق، والتي كانت قد تحوّلت الى لاعب مؤثر على الساحة الداخلية السورية في تلك الفترة. من جهة أخرى، مثّلت سورية لعبدالناصر، وكان قد خسر السودان بدايةً، قاعدة الانطلاق نحو حلمه السلطويّ ممثلاً بالهيمنة على البلاد العربية، والذي استفاد في بلورة شكله وصورته من المخزون السياسي السوري وقتها. فتأثر بشخصية ميشيل عفلق، وموقعه الفكري وسَطوته الأُستاذيّة، كما أثاره أكرم الحوراني كمرجع ومثال في الجمع بين الشعبويّة والدهاء السياسي، اذ يذهب بعض السوريين من دارسي تلك الفترة الى أن عبدالناصر قد استورد الحامل الفكري والتعبوي من «حزب البعث» ليضيفه الى جاذبيّته الشعبيّة لينتج نوعاً غير مألوف من الكاريزما السياسية وظاهرة تمجيد الرمز وعبادة الشخصية. وهي أمور تجاوزت مرحلة التأثير والالهام بالنسبة الى عبدالناصر لتصل في بعض الأحيان الى مرحلة الغيرة والنقمة اللاشعوريّة. فالفلاح الأسمر، الذي وصل الى الحكم عبر مؤسسة الجيش، كان أساساً صلباً في عمليّة ترييف المدينة والعاصمة في بلاده، فقد سعى الى ترييف الأمة العربيّة والعمل السياسي العربي، واختصاره بشخصه ومعاناته الرمزيّة كفلاح مناضل. فهو اشترط إلغاء الحياة الحزبيّة في شكل كامل في سورية، وإلغاء دستورها ذي الوجه الديموقراطي، وقضى على فرص التحديث والعصرنة التي كانت دمشق العاصمة في وارد ارتيادها، فأعدم الحياة السياسية، وأمّم ما استطاع من مؤسسات صناعية وتجاريّة، وألغى شبكة خطوط الترام «الترامواي»، معبّراً عن ريفيّة شديدة كارهة للمدينة والقيم الديموقراطية والحياة الجديدة، الى درجة لم يسلم فيها «المحل العمومي» أو السوق العمومي من الزوال، وهو المكان المدينيّ بامتياز، والوحيد الذي سمحت فيه الدولة لمواطنيها بممارسة الترفيه الجنسي تحت رقابتها، الأمر الذي لم يخل من مسحة حضاريّة امتازت بها دمشق وبيروت وقتذاك. وكان النجاح حليف عبدالناصر في مسعى فرض حضوره داخل الوعي العربيّ، وقد تحول يومها، وحتى يومنا هذا، الى أيقونة سوداء لأيديولوجيا شعبيّة سيطرت على السياسة والاجتماع في البلاد العربية، وفي سورية في شكل خاص. اذ لا تزال غالبية «الجماهير» السوريّة، والقطاعات الأكثر تسييساً وتعبئةً فيها، تؤكد وفاءها للناصريّة، في تعبير صريح عن حنين ساذج ويائس الى رومانسيّة العهد الناصري بحماسته ودموعه ووعوده. فعندما يقول قائل بأن الشعب السوري «قبّل حذاء عبدالناصر» استماتة في الوحدة معه، فهذا لا يحمل في حال من الأحوال، وعلى رغم بذاءة أو سوقيّة الكلام، عاراً أو تهمة وَصمَت السوريين في تلك الفترة. على أن ما حدث، كان في عمقه، ريادةً تسجل لأولئك السوريين، كونهم أوّل من حاز شرف السير نحو حلم الوحدة، وأول من أثبت فشل التجربة. والحال، أن ما تحمله عبارة تقبيل الحذاء من استسهال تعيير الشعوب وتوصيفها، وحتى تخوينها، يؤكد ثبات ورسوخ تقليد أرسته الناصريّة في السياسة والاجتماع العربييّن ولا تزال. حتى في وعي كثير من العناصر والأجيال التي تنكرها وتتبنى رؤى مخالفة لها، فهي عاشت وتعيش، يتيمةً، مقطوعةً من شجرة السياسة، بعدما غاب الأب الوالد عنها، وتبحث في القرضاوي وأحمدي نجاد وشافيز، وحتى في أردوغان، عن ناصريتها الجريحة تاركة قافلة العالم والحداثة تسير. * صحافي سوريّ.