بعد اسابيع من ترك سورية الوحدة مع مصر عبر "الانفصال" الشهير، كان لا بد للرئيس عبدالناصر من ان يراجع حساباته ومسلّماته، بعد ان نبّهه ذلك الانفصال الى وجود قوى ما كان بإمكانه قبل ذلك ان يتنبأ بأنها ستكون قادرة على ما قدرت عليه، حتى وان كان مدركاً سلفاً مدى قوتها: الطبقة العليا السورية التي بعد ان تحمست للوحدة ولدعوات القومية العربية لفترة من الزمن، ادركت ذات لحظة ان عليها ان تختار بين تطلعاتها القومية ومصالحها الخاصة، فضحّت بالاولى في سبيل الثانية. او هذا هو - على الاقل - التحليل الذي انتهى اليه الرئيس المصري، حين راح يحلل اسباب الانفصال ودوافعه الحقيقية. وراح يستعرض علاقات القوى محاولاً، بعدما "بلع" هزيمة الانفصال، ان يدرس مدى ما في مصر من مخاطر مشابهة. بالنسبة الى جمال عبدالناصر، حتى ولو كان الانفصال ارتدى اردية شوفينية، بمعنى انه - في شكله الخارجي - اتى معبراً عن برم السوريين، ومن معظم الفئات والطبقات، من ممارسات الموظفين المصريين الذين كلفوا بملفات "الاقليم الشمالي" وعلى رأسهم عبدالحكيم عامر، فإنه - اي الانفصال - ودائماً في تحليل عبدالناصر والمقربين منه، كان في اعماقه من صنيعة الشريحة العليا البورجوازية السورية، التي وجدت مصالحها تُضرب عبر التأميمات والقرارات الاشتراكية، وباتت في خوف كبير من ان يتواصل ذلك. وكان المثال الساطع على هذه الشراكة المعروفة باسم "الخماسية" التي ما ان وقعت الوحدة وبدأ يظهر محتواها الاجتماعي - اي "الاشتراكي" - حتى راحت تمعن في نقل رساميلها الى لبنان وغيره، مساهمة في ضرب الاقتصاد الوحدوي، ومسببة مشاكل اقتصادية لم يكن النظام الجديد قادراً على حلها. ازاء هذا التحليل الذي قد يبدو اليوم صحيحاً الى حد ما، كان لا بد لعبدالناصر من ان يستخلص الدرس ملتفتاً - هذه المرة- ناحية مصر. وفي هذا الاطار كان ل "الانفصال" اثره الصحي لان عبدالناصر اذ وصل الى التحليل الذي اقنعه قرر ان يبادر - في مصر - الى الهجوم على "جذور الثورة المضادة" حسب تعبير الصحافة المصرية في ذلك الحين. وهكذا خلال اجتماع عقدته يوم 27 تشرين الثاني نوفمبر 1961، اي بعد اقل من شهرين من الانفصال، كلفت لجنة من قبله بالاعداد لمؤتمر للقوى الشعبية، قال عبدالناصر ما معناه انه لاحظ ان بعض العائلات في مصر لا تزال تملك الواحدة منها ما بين 2000 و3000 فدان من الاراضي الزراعية وذلك لانه كان يسمح لكل فرد بامتلاك 100 فدان، وهكذا أدى تجمع الافدنة الى جعل تلك العائلات سيدة للاراضي على الدوام… ما يتعارض مع الاصلاح الزراعي وحق الشعب في ان يمتلك الارض التي يزرعها. والحال ان هذه الملاحظة التي اوردها عبدالناصر امام اللجنة، وهو يفكر في الانفصال وفي الشريحة الاجتماعية التي كانت - في رأيه وراء الانفصال - اعتبرت في خلفية القرارات الاشتراكية التي اتخذها بعد ذلك، ولا تزال تثير حتى يومنا هذا عاصفة في السجال في الصورة عبدالناصر امام رسام يوغوسلافي ارسله اليه تيتو. المهم ان عبدالناصر، عبر تلك العبارة، كان اوصل الى الذروة دعوة ثورية بدأ باطلاقها قبل ذلك بأكثر من شهر، في خطاب متلفز شهير حاول فيه ان يرد على الانفصال وان يعيد للشعب بعض معنويات كان هذا فقدها بفعل موقف السوريين. وكانت تلك الدعوة عبارة عن استنتاج يتضمن او نقد ذاتي يقوم به عبدالناصر حين قال: "اننا رفضنا دائماً ان نتحالف مع الامبريالية، لكننا رضينا بالتحالف مع الرجعية. لقد اخطأنا اذ كنا نعتقد الرجعيين ابناء بلدنا يقاسموننا التطلعات والمصير. لقد اخطأنا ولم نقم بما يكفي من جهد لكي نساعد الجماهير على ان تعي مصالحها. ولهذا فكّرت طويلاً وقررت ان اعود لرفع لواء الثورة التي بدأتها قبل تسعة اعوام". وبناء على ذلك عمد جمال عبدالناصر خلال الاسابيع التالية الى حل "الاتحاد القومي" الذي كان اقامه بناء على نظرية التحالف القومي، وها هو يتهمه الآن بأنه "مفتوح امام كافة انواع الرجعيين" مقرراً ان يُصار قريباً الى انتخاب مؤتمر قومي للقوات الشعبية، مهمته ان يعيد تأسيس شتى المؤسسات. وكان ذلك المؤتمر هو الذي سينجم عنه تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي الذي سيحتضن ملاحظة عبدالناصر آنفة الذكر، ويعطي فرصة اكبر لنمو القوى الشعبية على حساب التحالف القومي العريض