من النادر لصاحب مهنة أساسية في فن السينما ان ينجح ان هو بادر لامتهان مهنة اخرى من مهن هذا الفن العديدة. قد يصبح مساعد المخرج مخرجاً، والمصور مديراً للتصوير. ولكن في حالات قد لا تعد على اكثر من اصابع اليد الواحدة، نجح مصور في ان يصبح مخرجاً، او تمكن كاتب للسيناريو من خوض الانتاج بنجاح. حدث في احيان كثيرة ان ابدع ممثل حين اخرج، لكن تلك حالات استثنائية لم تقيض إلا لعباقرة كبار. القاعدة هي ان يفشل مبدع سينمائي ان هو حاول مجال ابداع آخر. لكن رأفت الميهي يحسب على الحالات الاستثنائية، اذ انه هو الذي عرف، اولاً، ككاتب سيناريو متميز في اعمال حملت تواقيع كمال الشيخ وعلي بدرخان بين آخرين، حين تحول الى الاخراج، صار في حد ذاته ظاهرة اخراجية تخرج عن المألوف. صار الوحيد، الى جانب يوسف شاهين وبعض تلاميذ هذا الاخير، الذي احدث تجديداً حقيقياً، في الشكل والمضمون السينمائيين في مصر، هذا اذا نحينا جانباً تجديدات تيار "الواقعية الجديدة" التي يمكن السجال بشأنها كثيراً اليوم، اذ اكتملت دورة انتاجها. منذ البداية اتسمت افلام رأفت الميهي ولنقل: أحلام رأفت الميهي لسبب سنذكره بعد قليل، بتناقض واضح، بين جدية ما يمكن قراءته فيها بين الثنايا، والعبث الغالب على اسلوبها وحواراتها، وربما أيضاً اختياراتها الموضوعية. وهذا التناقض هو نفسه ما يطبع شخصية رأفت الميهي، الذي إذا أبحرت النظر في ملامحه سيفاجئك تجاور حزن العينين المطبق، مع سخرية الشفتين الساحق، فان تكلم امامك، خيل اليك وكأنه واحد من شخصيات افلامه، تمتزج لديه السخرية السوداء باحساس دائم بالقرف، بنقد اجتماعي حاد بحب هائل لفن السينما برغبة في الانعزال، بتوق الى احاطة نفسه بالأصدقاء. كل هذا يبدو مجتمعاً في شخصية صاحب "سمك لبن تمر هندي" و"ست الستات" و"تفاحة" وغيرها من الأفلام التي باتت، على سجيتها وحتى في الانقسام الحاد الذي تثيره من حولها، علامات تجديدية اساسية في السينما المصرية. والأغرب من هذا، في اختصار، هو ان رأفت الميهي يشبه افلامه كل الشبه. فهو يبدو دائماً وكأنه يعيشها كما يحاول المرء ان يعيش احلامه وقد يقول هو: كوابيسه. فإذا سألته عن هذا قال لك: "لدينا زمن واحد علينا ان نعيشه فلنعشه كما يحلو لنا. واذا كانت السينما مصنعاً للأحلام، لماذا ترانا نتركها فريسة لصنع الاحلام الاميركية، لم لا نجعلها مخزناً ومصنعاً لأحلامنا نحن". وأحلام رأفت الميهي، مثل افلامه، كبيرة واسعة، من اجلها يقترض من البنوك لينتج، ويبدو على الدوام مستفَزاً مستفِزاً، يخلط بين مشاريع عديدة في الوقت نفسه، وينبع الفيلم/ الحلم لديه من قلب العمل الذي يسبقه، ويكون في جعبته الحلم الذي يليه. وحين لا يكتفي رأفت الميهي بهذا يلتفت الى احلام الآخرين ويغامر لكي يساعدهم على تحقيقها من دون ان تكون ضامنة له اي مردود اسألوا عن ذلك مجدي أحمد علي وفيلمه "يا دنيا يا غرامي"، ويبدو في جميع الاحوال مثل مهرج طيب ينتمي الى عصور غابرة سعيدة، حتى وهو يشكو من قسوة الزمن الراهن وغباء اصحابه. والغباء واحدة من الصفات التي لا يمكن ان يغفرها رأفت الميهي لدى الآخرين الذين قد يغفر لهم، طواعية، هفواتهم الاخرى كلها. في النهاية ما هذا الا لأن رأفت الميهي يحلم بعالم من دون اغبياء، لكنه يعرف ان هذا هو الحلم المستحيل. ويحزنه هذا. على أية حال لندعو له بأن يظل صاحب ذلك الحزن الخلاق، وبألا يعقل ابداً. لو عقل سنخسر كثيراً في حياتنا الفنية الرتيبة. "عين"