أكثر ما يعرف به السير ستامفورد زافلز اليوم، أنه مؤسس سنغافورة المشهورة في تجارتها الناجحة في القرن التاسع عشر. وهو انجاز كان سيفاجئه بالتأكيد لو أنه عاش ليشهده، فقد كان رافلز رجل أعمال فاشلاً، تسلم مهمّات أعمال المكتب الرئيسي لشركة الهند الغربية. أما هاجسه الحقيقي أثناء وجوده في جنوب شرق آسيا، فكان جزيرة جاوه، بصفته حاكمها الرئيسي سنوات عدّة أو بسبب اهتماماته الواسعة بتراثها الغني المتنوع. عرف ستامفورد رافلز كجامع تحف مهووس، جمع ذخائر متنوعة من جاوه: عينات نباتاتها، نماذج حية من حيواناتها، أسلحة، عملة قديمة، وأقنعة ودمى معروفة في تلك الجزيرة، أي كل ما له علاقة بحياة سكان جاوه. وقد اعتاد أن يرسل مقتنياته الى أصدقائه المهتمين في بريطانيا، ليحفظوها له، وفي أعقاب وفاته المبكرة، أشرفت زوجته على تلك الثروة من المقتنيات. ولكن بعد وفاتها عام 1859، آلت تلك الثروة بشكل تدريجي الى المتحف البريطاني. وها هو المتحف، يحتفي به وبمجموعته للمرة الأولى في معرض خاص، استقطب عدداً كبيراً من الزوار، ويقام تحت عنوان "السيف الذهبي". كيف بدأت علاقة رافلز بجاوه وهي الجزيرة المستعمرة من قبل هولندا؟... أثناء الحروب التي دارت بين نابليون وهولندا، قررت الأخيرة بسبب انشغالاتها العسكرية ترك أمر إدارة مستعمراتها للبريطانيين، جيرانها في الاستعمار، إذ كانوا يحكمون الهند وهونغ كونغ. وتبعاً لوظيفته في شركة الهندالشرقية، أوكل الى رافلز وهو في الثلاثين حكم جاوه، وهناك أخذ بما شاهده من ثراء وتنوع. وفي الحقيقة، شدّه تراث السكان الأصليين للجزيرة الاستوائية، واعتبر ثقافتهم موازية لثقافة الإغريق وروما. وبسبب هذا الانبهار، تردد في اعادة الجزيرة للهولنديين. بالطبع أعادها في النهاية بالقوة، لكنه قرر أن يؤسس سنغابور كبلد جديد، ومركز تجاري منافس لعشقه الضائع. وقد عامل سنغافورة كما لو كانت ابنه الجديد، أما مقتنياته منها، فقد غرقت مع غرق السفينة التي شحن على متنها ثروته الثقافية الجديدة. كانت السفينة متوجهة الى بريطانيا، عندما اصطدمت بساحل جاوه عام 1824. اتسمت إدارة هذا الحاكم الشاب بالليبرالية داخل جاوه، فهو أنهى فترة حكم قاسية وسمت الإدارة الهولندية السابقة. وقد سمح للارستقراطيين المحليين، بحمل السلاح علناً مرة أخرى. وعندما أهداه رؤساء القبائل بعض العبيد، حاول أن يجد لهم عملاً في الإدارة، إذ كان معروفاً عنه مناهضته لمبدأ الرق أو امتلاك العبيد الذي مارسه الحكام البريطانيون والهولنديون معاً في تلك المنطقة. وقد فاجأته عادة أكل لحوم البشر بين قبيلة الباتك، الذين كانوا يأكلون لحم أي شخص يحاول كسر التابوهات الجنسية!. لكنه وهو المأخوذ بتلك الجزيرة وتقاليد أهلها، تعامل مع هذا التقليد كنوع من العقوبة الاجتماعية. ان زيارة المعرض، هي أشبه بالزيارة القصيرة السريعة لجزيرة جاوه، فهو كما أشرنا حاول أن يجمع أكبر قدر ممكن من تراثها. يشاهد الزائر دمى خيال الظل التي كانت تستخدم في العروض العامة، والتي كانت تجمع ما بين الترفيه والبعد الديني. وكذلك الأقنعة التي كانت تغطي وجوه الراقصين. دمى تشكل كورساً كاملاً لمغنين وراقصين. وبعض ما توهم رافلز أنها عملة قديمة تعود للقرن الثالث عشر، تبين من بعد أنها قطع معدنية تستخدم في السحر. رافق المعرض بث موسيقى شعبية من جاوه، وعرض لشريط يقدم لاعب دمى أثناء استعراضه. وعرض للأزياء المحلية الرجالية والنسائية، من خلال "مانيكانات" فصلت على شاكلة السكان الأصليين. لم تكن حياة السير ستامفورد رافلز كلها جذابة، مثل مقتنياته الغرائبية، فهو فقد زوجته الأولى وأطفاله الأربعة، بسبب عدم ملاءمة صحتهم مناخ جاوه الإستوائي لهم. وكمهني، حاول أن يكون موظفاً ناجحاً في شركة الهندالشرقية، وأن يحقق الأرباح لرؤسائه في الشركة، لكنه أصيب بالفشل. وفي أعقاب وفاته المبكرة عام 1926، طالبت زوجته الثانية براتبه التقاعدي، إلا أنها بدلاً من ذلك، تسلمت فاتورة من الشركة، تكشف عن ضياع بعض المداخيل المالية، بسبب سوء ادارة زوجها! أسس رافلز حديقة الحيوان في لندن، وكان أول مدير لها، ولم تسعفه حالته الصحية في رعاية الحديقة لفترة طويلة، إذ توفي بعد عودته الى بريطانيا بسنتين. وإذا كان رافلز من وجهة نظر مالية إدارية، إنساناً فاشلاً، فهو خدم الإنسانية والبشر الذين عملوا تحت إمرته. هكذا يراه البريطانيون الآن. إلا أننا نضيف: خدم الإنسانية ضمن حدود صفات المستعمر الطيب، الذي استطاع كهاوٍ الكشف عن كنز ثقافي غير معروف في الغرب، إلا أنه في النهاية، لم ينقلب على المنظومة الاستعمارية ككل، بل استفاد منها كثيراً، أياً كانت نواياه الحسنة.