ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    مهاجم الأهلي: قدمنا مباراة كبيرة واستحقينا الفوز على الشباب    الخلود يتغلّب على الاتفاق بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    ضبط يمني في مكة لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    «سلمان للإغاثة» يوزّع 2.910 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في حلب    بايدن : لوس أنجلوس أصبحت أشبه ب «ساحة حرب» بسبب الحرائق    رسميًا.. عدنان حمد يتولى تدريب العروبة    لاعب الشباب يغيب عن مواجهة الأهلي لأسباب عائلية    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الإسباني    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    رئيس لبنان يطالب رئيس حكومة تصريف الأعمال بالاستمرار لحين تشكيل حكومة جديدة    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يتجاوز 80 دولاراً    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُقدم مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين    ثلاث أمسيات شعرية في ختام ملتقى أدبي جازان الشعري    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    لإنهاء حرب أوكرانيا.. ترمب يكشف عن لقاء قريب مع بوتين    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    ماذا بعد دورة الخليج؟    أسرار الجهاز الهضمي    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    المقدس البشري    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    نجاح المرأة في قطاع خدمة العملاء يدفع الشركات لتوسيع أقسامها النسائية    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جودة القرارات.. سر نجاح المنظمات!    لا تحرره عقداً فيؤذيك    سبب قيام مرتد عن الإسلام بعملية إرهابية    سالم ما سِلم    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سقطرة السحرية ، الموعودة بأشياء كثيرة ، تدخل ... العولمة
نشر في الحياة يوم 22 - 03 - 1998

هكذا بدت الجزيرة عندما اقتربنا منها جواً، تماماً كما وصفها الرحالة العرب القدامى.
اخيراً سقطرة!
منذ أن وطأت قدماك ارض اليمن وانت موعود بسقطرة. هل زرت سقطرة؟ يسألك الاصدقاء اليمنيون: يجب ان تزور سقطرة. وانت تدري ان ما احد منهم وطأت قدماه ارض الجزيرة الموعودة حتى صارت سقطرة حلماً يقض مضجعك على امتداد عشرين سنة. منذ 1970 وانت تزور اليمن بانتظام، اكثر من مرة في السنة. في كل مرة تعقد العزم على زيارة الجزيرة وما من مرة نجحت في بلوغها. تارة "البحر مقفل" خلال الشهور الستة التي تهبّ فيها رياح "الموسم" بسرعة 150 كيلومتراً في الساعة، فيتوقف النقل البحري ويتوقف معه النقل الجوي، لان الهبوط على المدرج الترابي الموروث منذ ايام البريطانيين، وسط تلك الرياح، مجازفة غير مضمونة العواقب.
ومهما يكن، فلا نقل عاماً الى الجزيرة وكل النقل اليها خاص واستثنائي، يجب انتظار اقلاع طائرة تموين عسكرية او ان يعتزم احد المسؤولين القيام بزيارة تفقدية للجزيرة، ويحصل ان احدهم اعتزم السفر وانت على اهبة مغادرة عدن، فيقول لك: انتظر قليلاً، تأتِ معنا. والقليل عندهم يربو على اسبوعين او اكثر. وكان يعزّ عليّ التغيّب عن بيروت العزيزة زمن الحرب من اجل نزوة سياحية.
ظلت سقطرة تسحر الناس وأنا تسحرني فكرة زيارة سقطرة.
عشية الوحدة اليمنية، تباعدت زياراتي الى عدن فقررت تخصيصها للتعرف الى تلك الاجزاء من اليمن الديموقراطي التي لم اكن قد زرتها من قبل. كان حدساً يقول لي ان اشياء سوف تتغير بعد اندماج "الشطرين". بعد زيارة ممتعة الى يافع، بلاد القرامطة والقات، لم يبق لي غير زيارة جزيرة احلامي. في تلك المرحلة الانتقالية الى الوحدة، رحت امطر اصدقائي اليمنيين بطلبات لا حصر لها ولا عدّ. حتى قررت الاكتفاء منها باثنين: الحفاظ على حقوق المرأة بعد الوحدة وزيارة سقطرة.
نلت الاخيرة.
كانت المناسبة انعقاد مؤتمر للمثقفين العرب في عدن. وها نحن، الوفد اللبناني، نستقل اخيراً طائرة عسكرية متوجهة الى الجزيرة مع وفد من الكتّاب والمثقفين من اليمن الشمالي يزور عدن لأول مرة ومجموعة من المدرّسين السودانيين يعملون في عدن والموسيقي والمطرب العراقي جعفر حسن المنفي في جنة عدن. جلسنا على مقاعد متوازية، مجموعة قبالة الثانية، والممرات بيننا مكدسة بالمؤن، بعضنا يغطّ في غفوة هانئة وبعضنا يقرأ والبعض الآخر مسترسل في الحديث.
الجزيرة الساحرة المسحورة
عند انفصال شبه الجزيرة العربية عن أفريقيا قبل 10 ملايين سنة، تخلّفت عن الزحف القاري جزيرة صغيرة. هي سقطرة المترددة بين طرفي آسيا وأفريقيا. ومع انها اقرب مسافة الى تلك الاخيرة منها الى الجنوب العربي الآسيوي، اذ تقع على بعد 240 كيلومتر من القرن الافريقي و500 كيلومتر من عدن، فقد كانت من نصيب اليمن.
الاسم مشتق من السنسيكريتية. "دفيبا ساخاضافا" تعني "جزيرة الهناءة". وكان المصريون القدامى يسمونها "مدارج البخور"، لانتمائها الى مناطق انتاج البخور، مثلها مثل ظفار المذكورة في الزبور القديمة.
زمن الاغريق والرومان، عرفت سقطرة باسم "جزيرة ديوسكوريديس"، على اسم عالم الطبيعيات والطبيب العسكري اليوناني ديوسكوريديس بيدانيوس الذي خدم في جيش الامبراطور نيرون. قام ديوسكوريديس برحلات عديدة وكرّس القسط الاوفر من حياته لتجميع وتصنيف النبات الطبي فاعتبر مؤسساً لعلم النبات وألّف دليلاً طبياً بعنوان "دي ماتيريا ميديكا" كان فائق الشهرة في القرون الوسطى. زار ديوسكوريديس سقطرة ولعله اول رجل علم يكتب روائعها النباتية. في ذلك الزمن، كانت سقطرة تسيطر على الطريق البحرية بين البحر الابيض المتوسط والمحيط الهندي، تصدّر البخور والافاوية. على ان مواردها الرئيسية كانت تتأتى من النقل البحري. يروي المسعودي في "مروج الذهب" ان اليونانيين سكنوها منذ ايام الاسكندر وغلبوا من فيها من ملوك الهند وتنصّروا مع ظهور المسيح. وفي القرن السادس، كانت الجزيرة، وقد بات سكانها خليطاً من العرب والهنود واليونانيين، تؤوي مسيحيين نسطوريين يتكلمون اليونانية ويتبعون اسقفاً معيناً من قبل الكرسي الفارسي.
"أعشق الزين ولي هوايات بالمسلمية مولّع".
ها هو الاصل المسيحي للسكان يؤكده الشعر الشعبي.
سماها الروم "الجزيرة المحروسة بأرض العرب". وكانت لسنوات قاعدة للقراصنة العرب والهنود يعيشون على سلب المراكب العابرة باتجاه المحيط الهندي. في القرن العاشر الميلادي، كان فيها ما يربو على عشرة آلاف قرصان مسلح.
في ادب الرحالة العرب، تبدو سقطرة جزيرة عجائبية يلفها الغموض. ومن جملة عجائبها ان البحارة اذ يشاهدون في البحر سبعة طيور يعلمون انهم صاروا في مقابل الجزيرة. ولكن بين ان تصير في مقابل الجزيرة وبين ان تصل اليها فارق كبير. يروي ابن مجاور ان سيف الاسلام جهّز حملة لاحتلال الجزيرة فلما قربت سفنه منها، انطمست الجزيرة عن اعين القوم "وصاروا صاعدين منحدرين طالعين نازلين ليلاً ونهاراً اياماً وليالي فلم يجدوا للجزيرة حساً ولا وقعوا للجزيرة على خبر فردّوا راجعين".
ويصف ابن مجاور سكان سقطرة انهم "قوم نصارى سحرة"، يعيشون على الخدمات التي يقدمونها للقراصنة الذين ينزلون عندهم ستة شهور في السنة "يبيعون عليهم الكسب ويأكلون ويشربون وينكحون نساءهم، وهم قوم جلحٌ قوّادون وعجائزهم أقْوَد من رجالهم وفي رجالهم من هو أقْوَد من أسْوَدٍ في رأس جَمَلٍ هائج"1.
لم تكن اقوال ابن مجاور عن السقطرةين السحرة تقوّلات من غير اساس. اكد اقواله الرحالة البرتغالي ماركو بولو 1254 - 1324 في قصة رحلته الشهيرة الى الهند فقال: "وإعلم انهم على تلك الجزيرة من ابرع السحرة في العالم... وسوف اروي لكم عن سحرهم: اذ يبحر مركب شراعي تدفعه ريح مؤاتية، يستطيعون استيقاظ ريح معاكسة تجرّ السفينة الى وراء. تطاوعهم الريح، يحركونها في الاتجاه الذي يريدون. يشاؤون ان يهدأ البحر فيهدأ او يستهبّون فيه الانواء والعواصف فتهبّ. وإعلمْ انهم يمارسون ضروباً اخرى من السحر لم نستحسن ايرادها في كتابنا".
ما من شك في ان سقطرة افادت من فترة الازدهار الاقتصادي المديدة التي عرفها اليمن بين القرن الثالث عشر والقرن السادس عشر في دوره كوسيط متميز في تجارة الافاوية الآسيوية مع مدينة البندقية الايطالية. كانت الجزيرة الممر الالزامي للسفن السائرة الى عدن وتلك الماخرة باتجاه الهند. "تستقبل السفن من كل انحاء العالم محمّلة بأصناف البضائع المختلفة يبيعها التجار الى اهالي الجزيرة ويأخذون في المقابل الذهب الذي كان يدرّ عليهم ربحاً عظيماً". والوصف ايضاً لماركو بولو.
عندما شن البرتغاليون هجومهم للسيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب ووضع اليد على تجارة الافاوية، كان لا بد لهم من احتلال سقطرة. في العام 1506 استولت البحرية البرتغالية على الجزيرة بقيادة اثنين من اشهر "الكونتيستادور" هما تريستاو دي كونيا وألفونسو دي أبو قرق، فهزموا اسيادها العرب وابتنوا فيها ال"فايتورياس" الشهيرة وهي شبكات من القلاع والحصون والمراكز التجارية التي بها سيطروا على البحر الاحمر. على ان احتلال البرتغاليين لم يدم طويلاً. سرعان ما تبين لهم ان الحملة باهظة الاكلاف فانسحبوا من الجزيرة سنة 1511 بعد ان دمروا قلاعهم والحصون. وفي العام 1513، اخلوا المنطقة برمتها على اثر فشل محاولاتهم احتلال عدن بقيادة أبو قرق. فعادت الجزيرة الى السيطرة العربية.
بديل عن فلسطين؟
وسقطرة اول ارض يمنية يطأها البريطانيون. احتلتها شركة الهند الشرقية البريطانية سنة 1834 قبل ان تحتلها رسمياً دولة صاحب الجلالة. وبعد ان احتلت بريطانيا عدن 1839، اخذت تسعى للسيطرة على كافة المواقع على طريق الهند. واذا بشق قناة السويس يجدد الاهتمام الكولونيالي بالموقع الاستراتيجي للجزيرة. وفي العام 1876، وقّع سلطان قشن وسقطرة اتفاقية يعلن فيها قبول "الحماية البريطانية" مقابل مساعدة مالية من الخزينة البريطانية. فضمّت الجزيرة الى محمية عدن الشرقية ووضعت تحت سلطة المقيم البريطاني في المكلا بحضرموت.
على ان الوجود البريطاني في الجزيرة ظل رمزياً. مرة في السنة، كانت احدى البوارج الحربية لصاحب الجلالة تقلّ الحاكم البريطاني لعدن او المستشار السياسي لمحمية عدن الشرقة في زيارة للجزيرة لم تكن تستغرق عادة اكثر من يومين او ثلاثة ايام. اما ما عدا ذلك، فالاهمال والنسيان. لم تثر الجزيرة اهتماماً بريطانياً غير اهتمام علماء النبات اخذوا يتوافدون عليها لاستكشاف ثرواتها النباتية. وفي العام 1880، أحصى ايزاك بلفور حوالى 500 نوعاً نباتياً بينها 200 نوع لم تكن معروفة في اي مكان آخر في العالم.
لسنا ندري درجة القربى بين ايزاك بلفور والسير آرثر بلفور، رجل الدولة البريطاني وصاحب الوعد الشهير. ومع ذلك، فان صاحب الوعد كانت له صلة غير مباشرة بالجزيرة. فقد كانت سقطرة احد المواقع التي طاولها البحث في وطن قومي بديل لليهود بعدما أثار وعد بلفور الاصلي ما أثاره من احتجاج ومقاومة.
في العام 1939، راودت الخارجية البريطانية فكرة توطين اليهود في سقطرة. كان ذلك زمن "الورقة البيضاء" التي تعهدت بها الحكومة البريطانية للحد من الهجرة اليهودية الى فلسطين تحت ضغط الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. وقد اندرج مشروع الاستيطان السقطري في اطار مشاريع ايواء وتوطين اللاجئين اليهود الفارين من ألمانيا النازية في المستعمرات البريطانية. وقد جرى البحث آنذاك في توطينهم في غويانا البريطانية وروديسيا وغيرهما من الاراضي التابعة للتاج البريطاني.
وكان إسكان اليهود في سقطرة موضع تبادل للرسائل بين الخارجية مكتب المستعمرات ومكتب الهند من جهة والمسؤولين البريطانيين في الجنوب العربي من جهة اخرى2. في رسالة الى رايلي، المقيم العام في عدن، بتاريخ 23 آذار مارس من 1939، من شوكبرغ، الموظف الكبير في الخارجية، يبلغه هذا الاخير بان وزارة المستعمرات تدرس امكانية توطين اليهود في سقطرة.
ويقول شوكبرغ ان الفكرة خطرت في بال كبار موظفي الوزارة بعد إطلاعهم على دراسة للسيد ارنست بينيت، عضو مجلس العموم، يقترح فيها فكرة "توطين يهودي مكثّف" في الجزيرة. استباقاً لردود مراسله، يفصح شكوبرغ عن شكوكه في جدوى المشروع. فمناخ الجزيرة لن يلائم اناساً قادمين من اوروبا، والجزيرة محرومة من الموارد الطبيعية والاهم من ذلك، ان شوكبرغ يعرب عن خشيته من ردود فعل عربية عنيفة سوف تتهم بريطانيا بتسليم بلد عربي آخر الى الصهاينة. ومع ذلك، يطلب شوكبرغ من المقيم العام في عدن ان يدرس امكانية ايواء "عدد محدود" من اليهود الالمان والاوروبيين في الجزيرة واقتراح العدد الاقصى الذي يعتقد ان الجزيرة تتسع له وتحديد المهن التي يمكن ان يزاولها الوافدون الجدد ورؤوس الاموال الضرورية لتمويل المشروع الاستيطاني.
يحيل رايلي الرسالة الى إنغرامز، المستشار المقيم في المكلا بحضرموت، عاصمة محمية عدن الشرقية التي تتبع لها سقطرة. في رده، المؤرخ في نيسان ابريل 1939، يؤكد إنغرامز ان المشروع سوف يستجلب من المتاعب والاضرار اكثر من الفوائد. صحيح ان سلطان قشن وسقطرة سوف يوافق على استقبال اللاجئين مقابل زيادة مخصصاته المالية، الا ان السكان سوف يعارضون المشروع ويعارضونه دون ادنى شك. وتوقّع انغرامز ايضاً ان تستغلّ ايطاليا الفاشية معارضة الاهالي للمشروع الاستيطاني لاغراض حملتها التحريضية ضد السياسة البريطانية في المستعمرات. ويدعم إنغرامز تحذيراته من عواقب المشروع الاستيطاني بالقول ان شائعة قوية تنتشر في عدن وسائر اليمن مصدرها الصحافة المصرية. وتقول تلك الشائعة ان الحكومة البريطانية تفكّر في عملية توطين واسعة النطاق لليهود في حضرموت. ويختم المستشار المقيم في حضرموت تقريره داعياً الى صرف النظر نهائياً عن مشروع توطين اليهود في الجنوب العربي كيلا تكرّر حكومته في تلك المنطقة تنفيذ سياسة "تسببت حتى الآن بجدل مرير في فلسطين".
هكذا طويت صفحة توطين اليهود في الجزيرة السحرية.
السلطان المنسي والقاعدة العجائبية
مثلما كانت سقطرة اول موقع احتله البريطانيون عند استعمارهم الجنوب العربي، كذلك كانت آخر موقع غادروه. يتذكر علي سالم البيض، الامين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني، الحادثة مبتسماً. كان آنذاك المسؤول عن قطاع الفدائيين في حضرموت. وبعد ايام من تحرير حضرموت من السلاطين والوجود العسكري البريطاني، تذكّروا ان الجزيرة السحرية لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني. فانطلق اليها على رأس مجموعة كبيرة من الفدائيين ولما وصلوا الجزيرة اكتشفوا ان البريطانيين قد أخلوها. اما ذاك الذي يحمل اللقب المفخّم، لقب "سلطان قشن وسقطرة"، فلم يكن اكثر من عجوز بائس ذي ثياب رثة عثروا عليه قابعاً في احد الكهوف ينتظر مصيره. فاستسلم للثوار راضياً مرضياً.
والحقّ ان الاشتراكية هي التي أعادت وضع "جزيرة الهناءة" على خريطة العالم. لا لأن الهناءة اجتاحت الجزيرة مع مجيء الاشتراكية، بل لان الصحافة الغربية ظلت على مدى سنوات تتهم السلطات في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية بانها منحت قاعدة بحرية للاسطول الحربي السوفياتي على الجزيرة. رداً على الاتهامات، نظمت السلطات اليمنية عام 1984 زيارة لاربعين صحافياً ومراسلاً الى الجزيرة. والحال ان الصحافيين الاجانب أفلحوا اكثر من مقاتلي سيف الاسلام. عثروا على الجزيرة. اما القاعدة البحرية فقد توارت عن اعينهم، "وصاروا صاعدين منحدرين طالعين نازلين ليلاً ونهاراً اياماً وليالي فلم يجدوا للقاعدة البحرية السوفياتية حساً ولا وقعوا لها على خبر فردّوا راجعين".
دم الاخوين
تهبط الطائرة على المدرج الترابي مثيرة زوبعة من الغبار. في الطريق الى حديبو، عاصمة الجزيرة، نستمع الى المعلومات الاولية عن الجزيرة التي تبلغ مساحتها حوالي 4100 كيلومترا مربعاً ويربو عدد سكانها على الثمانين الفاً، بحسب الاحصاء السكاني الرسمي للعام 1988، السقطريون الاصليون، المهاجرون من الجزيرة العربية، متمركزون في الداخل. وعلى الشاطىء يسكن عرب اختلطوا بالاوروبيين والهنود والافارقة. المتعلمون من الاهالي يتكلمون العربية، اما الاكثرية غير المتعلمة فترطن بلهجة جنوب عربية مموسقة تنتمي الى اسرة اللهجات الحميرية الاصل السائدة في المهرة في اليمن وظفار وجدة الحراسيس في عمان.
في الداخل، تعيش اكثرية السكان على الرعي والقطاف. يقطفون المرّ والبخور والرمان والعسل. وسقطرة مشهورة بهذه المنتجات في كل انحاء الجزيرة العربية. ما عدا ذلك، الرعي وزراعة بدائية تكاد تتلخص بزراعة النخيل. يقول مثلهم الشعبي: "اللي ما يرعى الغنم ولا يزرع النخل ما عملش". وعندهم ان العمل اليدوي الكفافي يشكل قيمة حياتية اساسية. والمثل يقول "اللي ما عِمِلش بنفسه ما يطمّن، اللي عمل على نفسه، يأكل ويشبع". على الساحل، يعيش الاهالي على الصيد. "البحر ربّي والعابدين حامدين قرب المعبد". بمثل هذا التعبّد يتعاطون مع مصدر رزقهم الرئيسي. على ان العبادة لا تكفي. ان تحصيل الرزق من البحر يحتاج الى الصبر والجلد: "البحر لا استأمنت عليها لا تشبعك دوام. الذي يستنفع بيها الصابر" 3. كثيرون لا يطيقون صبراً على البحر فيهاجرون للعمل في بلدان الخليج.
نقضي الليلة في منزل حجري يقوم مقام دار ضيافة رسمي. يستحيل النوم في الغرف التي تجتاحها جحافل من البعوض الشره. فنلجأ الى السطوح. تحت قبّة السماء الصافية الساطعة النجوم، أنصت الى الصديق عبد الباري طاهر، امين عام اتحاد الصحافيين اليمنيين، يروي لي مقاطع من علم التنجيم اليمني التقليدي.
منذ القدم، ارتبط اسم الجزيرة بشجرة. يقال ان الاسكندر المقدوني عندما كان يعدّ لحملته على المحيط الهندي، نصحه ارسطو بان يعرج على سقطرة بحثاً عن نبات عجيب له قدرة على معالجة الجراح الخطيرة. الاسم العلمي Dracaena يسميه الانكليز Dragon's Blood اي "دم التنّين". ويسمّيه العرب "الصبر" و"العندم الايدم". واما في الجزيرة وسائر اليمن، فيطلق عليه اسم "دم الاخوين" ولعل في الامر اشارة الى قصة قايين وهابيل.
رحلة الى "رأس مومي" لمشاهدة الاشجار المدمّاة التي تشبه الصنوبر المظلّي وتنمو على قمم التلال. طيور ضخمة يسميها اللبنانيون "بواشق" تتجوّل بيننا مثل دجاجات أليفة وتنقد بقايا الاكل. سقطرة خليقة بان تكون جنة للصيادين اللبنانيين اذا استطاعوا اليها سبيلاً.
شجرة اخرى لا تقل اثارة عن دم الاخوين هي شجرة "تريمو" وتسمّى ايضاً "اسفيد" و"قمحين". جذعها الاملس اشبه بخيارة ضخمة منتفخة - ومنه التسمية المحلية "الخيار" - تتفرّع منه اغصان قصيرة ذات اوراق صغيرة تتوجها ازهار نرجسية فاقعة الالوان. انشددنا الى تلك الشجرة الى درجة اننا اقتلعنا شجيرة وحملناها لنزرعها في حديقة جعفر حسن الصغيرة في عدن.
وتعتبر سقطرة من أواخر المحميات البيئية النباتية في العالم. تضم مئات الانواع من النبات الاصيل الخاص بالجزيرة لا وجود له في اي مكان آخر من العالم. وبعضها منقرض او في طريقه الى الانقراض. في زمن الاشتراكية، أجرت بعثة تشيكية مسحاً نباتياً على الجزيرة اكتشفت خلاله عشرات من النبات الطبي. واقترح التشيكيون على السلطات اليمنية استئجار الجزيرة لزراعة الحشيشة والافيون لاستخدامهما لاغراض طبية. او هكذا قالوا. لم يوافق اليمنيون خوفاً من ان تتسرب المخدرات الى البلد.
على سفح جبل ههجر، 1500 متر، الذي يشكل العمود الفقري للجزيرة جنة من الصخور والجداول ومساقط المياه والنخيل والنبات العجيب. في طريق العودة، نعرج على مبنى منهار، استحدثه فرع الحزب الاشتراكي في الجزيرة مدرسة لتعليم ابناء البدو الرحّل واقنع القوات المسلحة بتوفير وجبة غذاء يومية مجانية للاطفال. وما لبثت المبادرة ان اجبرت الحكومة على فتح مدرسة جديدة رسمية في الجزيرة.
الاهالي الذين نلتقي يطالبونا بالطبابة والادوية. خلال اقامتنا لم تكن توجد اية خدمة طبية في الجزيرة طولًا وعرضاً. قيل لنا انه قد خصص لها مساعد طبي واحد يزورها بين حين وآخر. عدا الاطباء والادوية، يطالب الاهالي ببناء ميناء في حديبو وتعبيد الطرقات والاعتراف بالجزيرة محافظة مستقلة وقد كانت ملحقة بمحافظة عدن.
الرقص والهجرة
في حديبو، دعينا الى حضور عرس يقام في باحة امام مجموعة بيوت. رقصة "تَعُدين" رقصة جماعية مربعة تجمع فريقين متقابلين من الرجال والنساء يخطون خطوات هادئة بطيئة ويسحجون الارض سحجاً بارجلهم وصولاً الى حد الالتصاق ثم يتراجعون القهقرى مخلين الساحة للفريقين الآخرين المتقابلين يكرران المسيرة الراقصة اياها. وهكذا دواليك.
رقصة "الشرح" يشتعل اوارها في ساحة اخرى يتحلّق فيها رجال ونساء يصفقون ويدبكون الارض بارجلهم بايقاع متسارع. يرافقهم شاعر وعازف المزمار. وسط الحلقة رجل وامرأة يرقصان كلٌّ على قدم واحدة أو على قدمين متصالبتين وهما يصفقان. يستمر الراقص لا اكثر من بضع دقائق ويخلي المكان لآخر وهذا لآخر فيما المرأة صامدة مستمرة في الرقص والشاعر ينشد:
سُرّة القلب والخاطر
مُنيتي لا تغيب منك
محبوبي نلتقي مرة
ريت قلبي عاده يقتنع
وفي سيرة الزواج، لا يبدو ان سقطرة تطبّق قانون الاسرة الذي سنته اليمن الديموقراطية عام 1973 والذي يلغي تعدد الزوجات ويمنح المرأة الحق المتساوي في الطلاق وحضانة الاولاد. لا يزال تعدد الزيجات شائعاً والمهور باهظة تتراوح بين 12000 و16000 شلن اي ما يوازي 600 و800 دولار اميركي. وما من شك في ان ثمة صلة بين ارتفاع المهور وبين الهجرة الى بلدان الخليج. فالمهور هي احد الدوافع الاساسية للهجرة. يهاجر الشبان المتزوجون من اجل تحصيل المال الكافي لدفع مهور زوجاتهم ويهاجر العازبون من اجل تجميع المال الكافي للزواج.
من جهة اخرى، تسهم الهجرة الى الخليج بدورها في رفع قيمة المهور. يعود المهاجرون المتقدمون في السن، وقد جمعوا مبالغ من المال، فيتزوجون، في زيجات ثانية، فتيات يافعات يدفعون لقاءهن مهوراً مرتفعة. المسألة مسألة عرض وطلب.
لا تقف مفاعيل الهجرة عند هذا الحد. يبني المهاجرون منازل حجرية جديدة ويحملون معهم السلع المستوردة وها ان حوانيت حديبو الصغيرة المعتمة تعرض سلع المجتمع الاستهلاكي وارد بلدان الخليج.
زمن الوحدة
زمن الوحدة اليمنية انقذفت سقطرة فجأة من جنّة استوائية بدائية هانئة معزولة الى رحاب العولمة.
على الجزيرة الساحرة المسحورة انهالت الوعود والعروض في كل فجّ عميق. حصلت شركة "بريتيش غاز" على امتياز تنقيب عن النفط والغاز في عرض البحر السقطري. وتكاثرت المشاريع السياحية، ومنها مشروع بناء مجمّع سياحي لشركة "كلوب ميد" الفرنسية. ومن جهة ثانية، تداعت الاوساط العلمية الدولية للعمل على تكريس الجزيرة محمية بيئية تحت اشراف الامم المتحدة انقاذاً لثرواتها النباتية النادرة.
ولعل وعود العولمة هي التي فتّحت أعين الجيران المتربصين. ففي آخر اخبار الجزيرة، مطلع هذا العام 1998، ان محاولة لاحتلالها قامت بها القوات المسلحة لدولة مجاورة. لم تشأ المصادر الرسمية اليمنية التي اذاعت الخبر الافصاح عن اسم الدولة المعنية. ولكن السر المباح ان الطرف المعني هو الصومال.
وسقطرة، الساحرة المسحورة، الموعودة بالذهب الاسود والسواح الاوروبيين والرعاية البيئية العالمية، المهددة بان تصير موضع نزاع اقليمي جديد مثل شقيقتها جزيرة حنيش" سقطرة المعولمة، التي توزّع على العالم منذ ايام الاسكندر المقدوني ذلك النبات العجيب الذي يداوي الجراح، هل أمّن لها احد طبيباً، طبيباً واحداً، يداوي جراحها؟
هوامش
1- صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز - المسماة تاريخ المستبصر، منشورات المدينة، تصحيح اوسكر لونفرزين، الطبعة الثانية، بيروت 1986.
2- محفوظة في "مكتب السجلات العامة" في لندن في الملف رقم 633-C-2OR
3- الاقوال والاشعار الشعبية من محفوظات الصديق خالد الحريري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.