على رغم مرور أكثر من أسبوعين على رحيل المفتي العام السابق للمملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، لم يتوقف التفاعل القوي مع وفاته إلى الآن، فلا زالت الصحف تفرد الصفحات لمقالات نثرية وقصائد شعرية ترثي الفقيد وتعدد محاسنه وصفاته، كتبها منتمون الى مختلف التيارات الثقافية، إضافة الى مقالات القراء العاديين. كان لافتاً ان وفاة الشيخ ابن باز، الذي كان رأيه حاسما في الغالب للآراء الفقهية التي يتداولها العلماء وطلبة العلم وخصوصاً في السعودية، كانت سبباً في نقاش علمي على مسألتين فقهيتين، الأولى: هي جواز السفر لحضور الصلاة على الميت في مدينة أخرى، ونقل عن الشيخ محمد بن صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء والاستاذ في كلية الشريعة واصول الدين في فرع جامعة الامام محمد بن سعود في القصيم، اختياره انه لا يجوز السفر من بلد الى آخر للصلاة على الميت لعدم استناد هذا الفعل التعبدي الى اصل شرعي. لكن الشيخ العثيمين الذي يقيم في القصيم وسط السعودية غادر الى مكةالمكرمة وحضر الصلاة على جثمان شيخه ابن باز، واستثنى ابن عثيمين في فتواه من منع السفر لحضور الصلاة على الميت من يمكن ان يكون عدم حضوره للصلاة سببا في اعطاء امتناعه تفسيرات لا وجود لها ولا سند، ولعل ذلك هو الذي دفع الشيخ العثيمين الى مخالفة فتواه لأنه بالتأكيد ممن يشملهم الاستثناء. وفي المقابل نقل عن عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء الشيخ الدكتور بكر بن عبدالله ابوزيد، وكان ابن باز يرأسهما، انه لا يرى شرعية صلاة الغائب على ميت غير حاضر. وكان السعوديون صلوا يوم الجمعة قبل الماضي في كل مساجد المملكة على ابن باز صلاة الغائب. ويستند الذين يرون شرعية صلاة الغائب على ما ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى في عهده على ملك الحبشة الذي توفي مسلماً، على رغم انه توفي في بلاده والنبي في مكة آنذاك. لكن الذين لا يرون شرعيتها يقولون ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي لأنه مات في بلد ليس فيه من يقيم عليه الصلاة آنذاك، صلاة الحاضر، وكان هذا في المرحلة المكية من الحياة النبوية، لكن المرحلة المدنية بعد انتقال النبي من مكة مهاجرا الى المدينةالمنورة التي استقرت الاحكام التشريعية فيها، لم تشهد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أي شخصية توفيت خارج المدينة. ويزيدون: بل ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بعد وفاته صلاة الغائب، وهكذا لم يصل احد على ابي بكر الصديق الخليفة الاول، ولا عمر بن الخطاب، ولا عثمان بن عفان، ولا علي ابن ابي طالب رضي الله عنه بعد وفاة كل منهم صلاة الغائب في اي من المدن الاسلامية الاخرى غير التي توفوا فيها. ولم يتوقف النقاش عند المسائل الفقهية، بل ان تاريخ حياة الشيخ ابن باز كان جزءا من الحديث عنه بعد موته. فعلى رغم ان ابن باز نفسه املى في ترجمته انه ولد في 12/12/1330ه، إلا ان الاديب والمحقق السعودي ابو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري رجح في مقال صحافي في صحيفة "الجزيرة" السعودية ان عمر الشيخ ابن باز نحو 95 عاماً، مستنداً الى ترجيح الشيخ حمد الجاسر الذي تزامل مع الشيخ ابن باز. ورسميا وجه أمير منطقة الرياض الامير سلمان بن عبدالعزيز بتسمية شارع البديعة الذى يقع عليه منزل الشيخ ابن باز في الرياض باسمه "تقديراً لمكانته رحمه الله وما قدمه من أعمال جليلة". وكان وزير المعارف في السعودية اعلن عن تسمية مدرسة ثانوية جديدة في الرياض باسم ابن باز، لافتاً إلى ان سيرته العطرة ستدرس في المناهج المدرسية. وعلى رغم ان الكثيرين لم يتوقعوا تفاعلا بهذا الحجم ومن كل التيارات مع وفاة الشيخ عبدالعزيز بن باز، الا ان المتوقع ان لا يتوقف التفاعل عند هذا الحد، وهو مرشح للاستمرار اياما مقبلة، وبخاصة بعد ان قال مهتمون بشؤون الكتاب الاسلامي انهم سيؤلفون مؤلفات مستقلة عن ابن باز بعد وفاته. إذ أعلن الشيخ بكر ابو زيد انه يعكف على جمع سيرة للشيخ، ودراسة علمه واختياراته الفقهية. وقال وكيل جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية الدكتور سليمان ابالخيل انه سيجمع كل ما كتب في الصحف في رثاء الشيخ ابن باز، نثرا وشعرا. ويُتوقع ان يكون المؤلف الاخير في ثلاثة مجلدات على الاقل، لكن الجامع سيجد حرجا في توثيق كل ما كُتب. فعلى رغم انه كتب في وداع الشيخ وتأبينه قطعا ادبية جميلة وخصوصاً في الشعر، الا ان الغالب على هذه الكتابات انها تداعيات عادية من اناس في المجمل لا يتعاطون الكتابة، وبالتالي فإن مستوى معظمها الفني اقل من ان تضم بين دفتي كتاب. أما الصحف فهي تعبر عن حال الشارع وتتفاعل مع الناس في تأثرهم بوفاة رجل التصق بهمومهم واهتماماتهم، وكان يتحين الفرص للتوجيه والارشاد، وربما وجدت الصحف الفرصة مواتية للكتابة عن الشيخ ابن باز بعد مماته، بعد ان كان في حياته يمنع الكتابة عنه، ونشر صوره، فهو منع صحيفة "المدينةالمنورة" السعودية قبل اعوام من اصدار ملحقها الاسبوعي "الاربعاء" الذي اعلنت عنه بأيام وقالت انها خصصته للكلام عن الشيخ ابن باز ومآثره. ويستند الفقيد في رأيه هذا الى تواضعه من جهة والى ان "الحي لا تؤمن عليه الفتنة" من جهة أخرى. وكان مستشار الشيخ ابن باز، الدكتور محمد بن سعد الشويعر، الذي يعد للاذاعة ويكتب في الصحف حلقات عن فقهاء الاسلام، قال ل"الحياة" ان شيخه ابن باز نصحه ان يتجنب الكتابة عن الاحياء، للسبب السابق ذاته.