ان أنجح عنوان للحوارات التي تجرى وستجرى حول التغيير والفساد في سورية، هو ذاك الذي أتى به جوزف سماحة في التحقيقين اللذين نُشرا في 14 و15 أيار مايو وهو "نقاشات سورية تحت الخيمة الرئاسية"، لأنها الخيمة التي نصبها الرئيس حافظ الأسد مطالباً شعبه بالعمل نقداً وتغييراً، وذلك في الخطاب الرئاسي الذي وجهه في مناسبة ولايته الجديدة. وإذا كان سماحة اعتبر بأن شبه الاجماع الذي حظي به التجديد للرئيس الأسد هو مصدر هذه الحيوية لأنه يوفر لأي معترض عنصر الحماية اللازمة طالما انه يضبط ملاحظاته تحت السقف الذي يبدو أن معظم السوريين ارتضوه لأنفسهم، فإن في هذا جانباً كبيراً من الحقيقة. هذه الخيمة - فعلاً - سقف ارتضاه معظم السوريين وباتوا ينظرون اليه كفسحة كبيرة من الأمل لأن الدعوة كانت واضحة من الأسد لتحمل المسؤولية ومحاسبة المقصرين والمتهربين وتطوير العمل في أجهزة الدولة ومؤسساتها. إن ما استرعى انتباهي الى ضرورة التعليق مجدداً على رغم أنني أدلوت بدلوي في تحقيق سماحة، ما جاء في تعليق هشام الدجاني في "الحياة" 27 الشهر الماضي، الذي يجب أن نقول بأنه ينطبق عليه ما يمكن تسميته "رومانسية سياسية" لا تختلف بتقديرنا الا مضموناً عن قول بهاء حسن بأن موضوع الفساد ليس أكثر من ظاهرة عرضية، وأن المشكلة تنحصر في وجود نفوس ضعيفة، وأن محاربتها بسيطة. على رغم ان قول بهاء حسن يستوجب نقداً أشد لأن المسألة ليست بهذا التبسيط ونعتقد بأن رد الدجاني عليه كان مصيباً، إلا أن الدجاني وقع في محتوى الرومانسية السياسية التي تنتهي الى التبسيط ذاته الذي نقده عند بهاء حسن، وهي بتقديرنا رومانسية عامة يتسم بها الكثير ممن يرتادون البحث السياسي كما يرتاد المرء مقهى، فتأتي الأقوال على عواهنها من دون ضبط لنتائجها التي قد تكون في بعض الأحيان كارثية. ولعلنا لا يجب أن نغلو كثيراً في نقد ما جاء به الدجاني لأن فيه من الوجد الذي يجتاحنا كرومانسية عامة الكثير، ولأنه ضرب من الفرح "النوستالجي" بتحقيق أمنية عزت لفترة طويلة ووجدت مرتسمها في مساعي الدكتور بشار الأسد لاحقاق القانون في وقت استغرب فيه أن مقاله لم يذكر من يقوم على هذا المشروع الذي يتلقفه الدجاني بفرح عارم. وهذا يعني ان نقد الرومانسية لا يعني موقفاً من محتواها الرافض للفساد انما يعني "تدريع" الوعي من اللاوعي وتحصين الفعل من رد الفعل، وتأكيداً على عقلانية الموقف السياسي خوفاً من الدفع الذي يريده الدجاني نحو لاعقلانية موقف شعبوي يطالب بالتسريع والتنوير من دون اعتبارات لا يمكن للسياسة أن تحيا من دونها وهي اعتبارات التراكمات والتوازنات، وسيرورة السلطة الدولة والتحول السليم، وهذا ما دفعنا للقول أمام سماحة ان "التغيير الدراماتيكي أمر مرفوض" في اعتبار أن ثمة نظاماً تجب المحافظة عليه، وأن منتهى الوطنية يكمن في منتهى العقلانية وليس في منتهى التشفي والانتقام ممن سماهم الدجاني "مصاصي الدماء". فالسياسة ليست بهذه الخفة وليست برأينا مثالية الى حد الاطاحة بعوامل الاستقرار من أجل موقف أخلاقي أو حقوقي، عدالي - مطلوب - كحد أقصى وليس كحد أدنى، ولهذا ومع تقديرنا لقول الدجاني بأن "المحاسبة انطلقت". ونضيف أنها لن تتوقف، فإن الأمر ليس مندرجاً تحت الصيغة الحماسية التي يطالب بها الدجاني لأنه مندرج تحت صيغة عقلانية التغيير التدريجي. وعلى هذا فإن القول ان "الفساد ظاهرة بشرية وعالمية ومرتبط بظهور المصالح، وان مكافتحته كمكافحة الشر غير ممكنة في الواقع"، وأن المطلوب هو "تطبيق القانون لتنظيم أمور المجتمع ومنع ضرر الشر والفساد، وتطبيقه من خلال المؤسسات"، هو أمر بتقديرنا أكثر رصانة من الدعاوى الدراماتيكية التي يطالب بها الدجاني في اطار فرح مشروع. وبرأينا فإن النقد الذي يجب توجيهه الى الدجاني، طالما أنه يطالب الآخرين بقبول الاختلاف معه، يكمن في أن الخيط الذي يفصل بين بياض الفرح ورمادية الفعل السياسي ليس واضحاً لدى أكاديمي كان من الأولى أن يتمتع بفهمه جيداً، وهو المنادي بواقعية سياسية منذ فترة طويلة مع العدو الاسرائيلي تصل الى أبعد الحدود، ولا نوافقه عليها، وهو أمر لا يمكن تفسيره إلا على أنه ارتكاس لاواعٍ الى اللاعقلانية المتسرعة. والمفارقة ان الدجاني يطالب بواقعية مفرطة مع اسرائيل ولاعقلانية مفرطة داخل سورية! ان أحداً ممن أسميهم الاحتياطي الاستراتيجي للتقدم ونظافة اليد في سورية، لا يمكن إلا أن يحلم بتغيير دراماتيكي سريع، وبمحاسبة جماعية لكن الفارق بين الحلم والواقع هو كالفارق بين الواقع والمفهوم، وهو فارق كان أولى بالدجاني، ودعاه سماحة بالاكاديمي ان يدركه. وقد كنا سنقبله منه لو لم يكن أكاديمياً. إن وعي واقع الفساد بل وضرورته في المعنى الفلسفي، أي مجمل الظروف التي حتمت ظهوره، هو الشرط الأول لتجاوز هذا الفساد، لا ينعقد بالتبسيط الذي يقدمه لنا الدجاني تحت عنوان "مصاصي دماء الشعوب" أو "الخوف من كشف المستور"، وهذا تبسيط خطي على طريقة وصف "الروشيتات" أو "اشرب هذه الحبة تعود شاباً"، أو "صلِ تدخل الجنة"، وهو تبسيط لا يختلف عن تبسيط بهاء حسن. فالمسألة مسألة نظام. وهو تبسيط يصل به الى حد الخطيّة ايضاً عندما يعتبر ان شركات القطاع العام باتت تنوء تحت عجوزات وخسائر مريعة، وأن بعضها بات وكراً للفساد المالي والاداري، وأن العضو الفاسد يجب أن يبتر قبل أن تمتد الغرغرينا الى سائر أعضاء الجسم، انه منطق "خراباوي" يقول: "اذا لم تخرب لا تعمر"، ولا يتمتع بالحد الكافي من الاحساس بالمسؤولية، وأقل ما يمكن القول فيه انه "فشة خلق". بل ان الأبرز أن الدجاني لا يعرف فعلياً معنى مشروع "الادارة بالأهداف"، ولا آفاقه، إذ أنه ما مبرر الهجوم على ملكية الدولة وكأنه تأميم المضاد لصالح جهات غير محددة؟ رغم ان منطق الدجاني نفسه هو منطق محاربة هذه الجهات. ان "فشات الخلق" غير العقلانية هي التي يمكن أن تبرر لشخص ان يطالب باسقاط ملكية الدولة من دون أن يحدد الى من ستذهب هذه الملكية؟ ان الموضوع ليس موضوع ملكية الدولة أو غير ذلك، انما هو الارتقاء بمؤسسات الدولة نفسها، واعتقد جازماً ان الرئيس الأسد لم يقدم لنا مادة غير واضحة في هذا المجال لأنه تحدث عن تطوير العمل في أجهزة الدولة ومؤسساتها، ودراسة واقع القطاع العام من خلال تحرير شركاته من القيود المالية والادارية، ولم يقل بتحرير القطاع العام من ملكية الدولة وأتساءل، ولست ممن يناصرون القطاع العام على عواهنه، لمصلحة من الدعوى لرمي القطاع العام، وكأن المطلوب أن نرمي الطفل مع خروقه المتسخة؟، وهو - برأينا - مرة أخرى منطق "خراباوي" غير مسؤول. فالمطلوب هو فتح الاقتصاد وفصل الملكية عن الادارة وصولاً الى تحرير الشركات من البيروقراطية والفساد وإقامة رقابة شديدة وناجعة، وليس رمي القطاع العام وكأنه هو سبب كل مصائبنا. وهو بتقديرنا جزء من منطق التشفّي الذي طالب به الدجاني في غير موضع. ان نقدنا يتجه الى منطق الخراباوية الذي يطالب به جزء غير يسير من المثقفين ومن قطاعات مختلفة من الشارع، والفارق مع الدجاني اننا معه ضد كل مظاهر الفساد والعطالة، لكننا لسنا مع اللاعقلانية والخراباوية، وفي أحسن الأحوال الرومانسية. إن التسارع الذي يطالب به الدجاني وجدانياً، وما ينعكس عن ضائقة الناس سرعان ما سينعكس على فهم آلية التوازن، التوازن الذي قلنا عنه ذات مرة أنه جزء من الموازين وليس من مفهوم مراكز قوى، وهو الذي يأخذه عنا الدجاني، لكنه لا يراعي أن الميزان الداخلي هو جزء من واقع المفاوضات الصعبة أو ما سماه الرئيس الأسد "حرب السلام"، والأمر لا ينعقد بالخطية التي يقدمها لنا الدجاني، قائلاً ان محاربة الفساد لا ترتبط بأية اعتبارات اقليمية وانها تعزز الوضع الداخلي وتصلّبه. انها نتيجة متضمنة استلزامياً في فعل ضرب الفساد لكنها ليست نتيجة آلية. والواقع ان الاكاديمي لا يعرف فكرة الاستلزام وهي مفهوم ابستمولوجي معاصر جاء تطويراً لفكرة الآلية ولفكرة الخطية، وهي مفهوم يمثل تعميماً ابستمولوجياً لحالة الخطية، فالعلاقات تجري وفقاً لواقع ان شيئاً ما يستلزم شيئاً آخر في معنى انه يتطلبه، فالعدد أربعة ينتج من العدد 2"2 لكن العدد 2 ليس سبباً ل4 لأنه ينتج من واحد وثلاثة أو من أربعة وصفر، وما سبق يستلزم العلاقة بين أربعة وأثنين لكنه ليس استلزاماً سببياً، انها علاقة مصاحبة تعطي لكل من أطراف المعادلة استقلالية في العمل، لكنهما في حال تأثير متبادل، ومرتبطان ضمنياً في حال استلزام، وهذا ما يجعل الواقعة تشاكلاً بين الاستلزام والسببية. وينطبق الاستلزام أيضاً على فهم السياسة وعلى آلية معالجة الفساد، فالقضاء على الفساد يستلزم ضمنياً القضاء على كل الفاسدين لكنه لا يتطلبه سببياً واطلاقياً انما يسعى اليه، وهذا بالضبط ما وجدناه في حديث الدكتو الأسد عن ربط مفهوم الفساد بتفعيل القانون والمؤسسات وبواقعية حقيقية اعتبر انه من غير الممكن القضاء على الفساد، وأقصى ما يطمح اليه هو ضبط الحراك الاجتماعي بضوابط القانون. ونسأل الدجاني ما الذي يضمن أي شخص في أي موقع انه لن يكون فاسداً إلا القانون وسلطة المؤسسات؟ إن حصر مشكلة الفساد بالهجوم على "مصاصي الدماء"، وهو أمر مطلوب طبعاً، هو تبسيط للمشكلة الى درجة الخطية. فمن الضروري بمكان ألا يترك أمر مواجهة الفساد للوعّاظ الوجدانيين، ولتناولات الصالونات الفكرية، كما لا يجب حصر الظاهرة بالبعد الاقتصادي كما لا يجب اعتماد النزعة التبريرية للفساد، والمغرقة في براغماتيتها، باعتباره "أهون الشرور"، مع أن فيها من الواقعية السياسية ما يجعل المرء، إذا أراد الموضوعية فعلاً أن ينظر اليها في الاعتبار، أو أن يعتبرها مادة تفسير على الأقل. ويجب أن نؤكد ان تشخيص أسباب الفساد لا يخضع لقانون وضعي، كما لا يلتزم بعلاقة خطية تقضي بأن تكون مقدمات بعينها، وبالضرورة تسير، بكل حال سياسية، نحو الفساد. فعلاقات الاقتضاء المنطقي، لا تصلح في هذا الحقل، وعلاقات الارتباط الطردي أو العكسي في اعتبارها علاقات خطية لا يمكن استخدامها، في تشخيص الظاهرة ومعالجتها، من دون أن يكون في ذلك عسف شديد بالواقع. ان نقول انه كلما انخفضت درجة المشاركة السياسية تزايدت احتمالات ظهور الفساد وحدته فإن الأمر يكون أقرب الى مقاربة مقارنة، ولكن لو ألغينا مفردة الاحتمالات لكان الأمر قانوناً خطياً غير مقبول، لأن الدول التوتاليتارية والثورية كانت تزيد المشاركة السياسية عبر التعبئة ولكنها كانت من أكثر الدول فساداً. ومن الخطية الساذجة القول "ان بيئة النظام السياسي يمكن أن تكون ذات علاقة طردية أو عكسية بالفساد السياسي"، إذ أن بيئة معينة يمكن أن تساعد على ظهور الفساد وبيئة أخرى يمكن أن تقلل من ظهوره. كما أنه ليس من الضروري أن ينشأ كل نمط للفساد من عدم المساواة أو العدالة. كما أنه ليس من الضروري أن يؤدي غياب التفاوت الطبقي الحاد بين الأفراد الى الغاء الفساد إذ يصعب وضع نظرية عامة في هذا الشأن. وهنا تغدو رصانة الموقف تستدعي القول: ان الواقع يثبت وجود شبه اتجاه في حالات متكررة الى تزامل الظاهرتين معاً أي عدم العدالة بكل صفوفها والفساد، لكن هذا لا يعني أن وجود العدالة الاجتماعية يلغي الفساد، لكنه قد يحد منه. الأمر الذي يجعلنا نسأل الدجاني والنائب السابق الدكتور احسان سنقر ما هي هذه الاستراتيجية الشاملة التي يطالبان بها لمحاربة الفساد؟ هل هي قص الرؤوس فقط أم تفعيل القوانين والمؤسسات؟ أنا أراها في الشطر الثاني وان كنت أتمنى وجدانياً تحقق الشطر الأول سريعاً ودراماتيكياً. في الحقيقة نحن نتفق مع الدراسات التي تعتبر ان العصرنة والتحديث يتصاحبان بالفساد. لأننا نرى أن تسارع التغيير سيواجه بالعطالة سابقة الذكر، الأمر الذي يجعل القوى الحيوية ضمن المجتمع والاقتصاد والسياسة سرعان ما تجد وسائل اغرائية أو اكراهية للالتفاف على تعطيل العصرنة. قد لا تكون هذه العصرنة ايجابية في المعنى الحقيقي للكلمة إذ قد تغدو سلبية بقدر ما يعتبر البعض ان نقل جميع القيم والمنتوجات العصرية أمر ضروري، كما قد تتمادى في السلبية اذا كانت تعمل تحت شعار حرية الإتجار لتقديم خدمات سيئة وقاتلة للشعوب. لكننا يجب أن نعترف بأن بعض الدراسات لا تخطئ عندما ترى ان الفساد في مجتمع معصرن "ليس - دائماً - نتيجة انحراف السلوك في المبادئ المتفق عليها، بقدر ما هو نتيجة انحراف المبادئ عن الأنماط الموضوعة"، وهو ما نراه تجسيداً للتضاد الذي يقوم بين العصرنة والواقع السائد، ما يظهر على صورة: العطالة. العصرنة تسهم فعلاً في الفساد، لأنها "تخلق مصادر جديدة للثروة والسلطة، مما يجعل العلاقة بين هذه المصادر والسياسة لا تحددها المبادئ التقليدية، فيصبح الفساد، بهذا المعنى، محصلة مباشرة لنشوء فئات جديدة لها مواردها وتريد أن تكون فاعلة داخل الاطار السياسي". إلا أن الأمر لا يمكن تلخيصه بهذه الكلمات فقط ولا بد من إبراز الوجه الآخر للمسألة، إذ أن هذه الرؤية تغفل التساؤل الشرعي عن أحقية هذه الفئات، وبعضها خطر على المجتمع، في أن يكون لها دور سياسي. ونضرب مثلاً على ذلك، تجار يسعون للحصول على السلطة السياسية والحماية الأمنية والحصانة البرلمانية. وعليه فمسألة الفساد والتعبير أعمق من مجرد "فشة خلق" نرغبها، لتفريغ شحنات المعاناة لكن الوعي يطالبنا بالرصانة في التعامل معها. إن ما أردناه من خلال نقدنا هذا هو توجيه تقييم الوضع الحالي والانتقالي نحو التغيير في سورية الى مستوى أكثر عمقاً وهو لا يتناول رأي الدجاني فحسب انما يتناول ظاهرة بأكملها لا تريد أن تفهم لغة السياسة ودواعي التغيير وأدواته ورصانة العقلانية المصاحبة له انما تريده قفزاً. فالمسألة باختصار هي التطور السليم وليس على حساب المنجز. * كاتب وأكاديمي في جامعة دمشق، قسم الفلسفة.