في العالم كل العالم ليس هناك منطقة محصنة ضد مخاطر الفساد، هذا ما تقوله منظمة الشفافية العالمية في تقاريرها السنوية، حيث تزداد درجات الفساد في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج ولست بحاجة لذكر تفاصيل التقارير العالمية لكشف الفساد فالفساد ملعلع من تلقاء نفسه وهو ليس بحاجة إلى أدلة وشواهد تثبته فانتشاره وتفشيه يجعل الكل شاهداً عليه فنتائجه ظاهرة على السطح من سيادة لمعادلة المحسوبيات والواسطة تحت غطاء العشائرية واستغلال المناصب والتستر على الأخطاء تحت رداء السرية في العمل والتلاعب بالأسعار والغش والتدليس والرشاوى. ولهذا أمر خادم الحرمين الشريفين بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إيماناً منه بأن مكافحة بنيوية الفساد لا بد أن تأتي من أعلى الهرم وحتى نهايته والعكس ليس صحيحاً. إنني أتساءل هل سيتغير سيناريو المسؤولين في الوزارات والمؤسسات في التبرير لأخطائهم ودفاعهم المستميت عن أنفسهم وعن أخطاء موظفيهم العاملين لديهم، فهم المحقون دائماَ وأبداً، والمصيبون في كل مواقفهم وتصرفاتهم، لينمو لديهم الشعور بالتعالي والرفعة والتفوق تجاه من يعتقدون أنهم أقل شأناً ومكانة منهم، فهم يأنفون ويستثقلون الاعتراف بأخطائهم، ويمتلكون عقولاَ تبريرية بارعة جداَ في التمويه والتزييف وبالتالي هم الذين جعلوا من العقل مهزلة، ليتباهوا ويتفاخروا بما امتلكوه من رصانة التبرير، وبدلاً من أن يتعرض هؤلاء المسؤولون للنقد والتقويم والمحاسبة لحماية مجتمعنا بكافة شرائحه من حالة تكريس الفساد يأتي ليصفق لهم المتزلقون والمتسلقون، ويزينوا لهم مواقف التصلب والتعالي على الآخرين، إنني أتساءل في الوقت الذي لا بد أن نتحدث فيه بلغة عالمية في أن المعادلة تقول لا يجب عليك أن تقف عند حدود أن تعمل أو لا تعمل فمتطلبات الحياة ومستلزماتها تفرض عليك حداً من العمل والحركة وإنما المعادلة الأصعب والأعمق تكمن في التنافس على مستوى العمل ودرجة الإتقان، كيف نصل إلى هذه المعادلة العالمية وما زالت ثقافة التبرير وعدم الإقرار بالخطأ هي السمة البارزة لكثير من شاغلي المناصب القيادية في المجتمع، والمشكلة الأدهى والأمر والتي تجعل المسألة أكثر تعقيداً أن هناك من يلبس لبوس النزاهة والأمانة وهو في ذات الحال من المفسدين الممارسين للغش والتدليس. وأتصور أن بداية العمل في هيئة مكافحة الفساد يجب أن تنطلق من مواجهة هذه الفئة التي يُخيل للبعض أنهم الأكثر نزاهة وهم يخفون في داخلهم مقاصد أخرى من اعتداء على أملاك الدولة ومصادرة لحقوق الآخرين، لكن هؤلاء ستظهر حقيقتهم للعيان بعد قرار خادم الحرمين الشريفين بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وما ارتباطها بشكل مباشر بخادم الحرمين الشريفين إلا دليل حرص منه للقضاء على عصبة الفساد هذه التي باتت أوراقها مكشوفة أمام الجميع والتي لن تستطيع أن تختفي خلف زيفها الطويل، فهي تفتقر لمبادئ الأمانة وقيم النزاهة وعفة الصدق في القول والالتزام بالمبادئ الوطنية واحترام ثوابت الدولة والاحتكام للنظام والقانون. إن حلحلة الفساد في منظوري الشخصي تبدأ في مكافحة هؤلاء المفسدين المتبرقعين بالنزاهة. إن لعلعة الفساد لا يمكن حلحلتها والحد من تفاقمها إلا بوجود أحكام وقوانين وأنظمة محددة وواضحة ليست حبراً على ورق فقط، بل هي قابلة للتطبيق وينتج عنها عقوبة صارمة ل"كائن من كان"، هذه العبارة التي استوقفتني في القرارات الملكية، إذ تفيد بأن علاج الفساد هو قانون صارم تدعمه عقوبة صارمة على الجميع بلا تمييز، لتنتج عنها ثقافة العدالة والمساواة، وليكون حكم القانون هو ذا السيادة فيها، بعكس الحال إذا انعدمت المساواة وأصبح القانون يطبق على بعض دون البعض الآخر، فتكون التنمية هي الضحية، ويتحول المجتمع إلى قانون الغاب؛ القوي فيه يأكل الضعيف بحيلته ومكره على القانون، ليكون الفاسد هو الأنموذج الوجهائي المنتصر الذي اكتسب أخلاقه الاجتماعية العالية من الفساد المتحد في وجوده والمتفنن في عرضه على طريقته الذكية. كنت أتساءل إلى وقت قريب؛ لماذا ترتفع وتيرة التطوير والتنمية وتسير سريعة في بعض المجتمعات بينما تكون سلحفائية في مجتمعات أخرى؟ هل المسألة تتعلق بوفرة الثروات وقلتها؟ هل المسألة ترتبط بالماضي الحضاري والتاريخ العريق؟ هل المسألة تتعلق بتأثير الواقع من وجود هيمنة معادية تمنع التقدم؟ إن تاريخ الحضارات والأمم المعاصرة يحدثنا عن مجتمعات قليلة الثروة حققت معجزات كاليابان، ومجتمعات ناشئة أصبحت في القمة كأمريكا، ومجتمعات محاصرة ومهزومة تجاوزت واقعها كألمانيا واليابان أيضا بعد الحرب العالمية الثانية. اليابان ومصر بدأتا نهضتهما الحديثة في سنة واحدة، وكانت اليابان تعيش ظروفا قاسية وصعبة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإصابتها بالقنابل الذرية ولكن كم هو الفارق واضح بين تقدم اليابان ومصر؟ ما أريد قوله هو أن النهضة والتجديد روح داخلية قبل أن تكون ظروفاً وإمكانات خارجية، روح تبحث عن التنمية في جسدها لتظهر فيها لغة سيادة القانون والمساواة والعدالة لتبعث فيها النشاط والحركة ولتنطلق باحثة عن الإمكانات والفرص لتصنع التاريخ وتواجه التحديات، أما إذا افتقدت الأمة هذه الروح الباحثة عن التنمية لتستبدلها بالبحث عن التخلف ستظهر في جسدها لغة الفساد والإفساد وبالتالي تتحول حياتها إلى موت وتتحول إمكاناتها إلى فقر وحرمان. إن لعلعة الفساد هي ظاهرة خطيرة وسريانها سريع في الجسم الاجتماعي، نسمع كثيراً عن أشخاص يبدؤون مسيرة عملهم بالتزام وانضباط في المؤسسات أو القطاعات التي يلتحقون بها، ثم ما يلبثون أن يفقدوا تلك الحالة الإيجابية، ويصبحون جزءاً من الوضع الفاسد، والسبب في ذلك تأثرهم وتكيفهم مع المحيط العام الذي يكرس حالة الفساد بشكل مباشر أو غير مباشر، بعكس إذا كان هناك وعي عند الأفراد، فوجود توافق مجتمعي ورقابة اجتماعية بخطر الفساد؛ يؤدي إلى تلاشيه بطبيعة الحال. إن إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هي خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن لا بد أن تتبعها خطوات في عمل مؤسسات للمجتمع المدني متخصصة في كل مجال من مجالات الفساد، وبذلك يكتمل الهرم الثلاثي في حلحلة الفساد من قوة القانون ومؤسسات للمجتمع المدني والرقابة الاجتماعية. نقلا عن الوطن السعودية